قصة قصيرة
عواض بن شاهر العصيمي
في تلك الساحة..
والليل شبه وحيد في الطرقات..
ثمة قطيع من الكلاب يدور عاصفته على هواه..
تكبر حيناً وتدنو حتى أقول لن تصمد لها نافذتي المسيجة بالحديد متقارب
القضبان.. وحيناً.. تخر إلى الأرض، فأحس بالأمن وتبدأ غيمة النعاس تلامس
العينين.
بيد أنها، كما لو أن أحداً قذف حجراً هناك: ما تلبث أن تملأ من جديد فضاء
الليل، فأبقى مكرهاً مفتوح العينين، أكابد العاصفة..
الوقت كماء ينبجس من صخرة، يقطر كعادته متجافياً عني.. يتحاشاني أراه
كلما تضرست في مزولته، والصباح لا عصافير له تحت العقارب..
أنهض.. أتأمل الساحة بغضب.. متوارية كالخديعة، وفيها الكلاب لا تكاد
ترى.. عمود المصباح الذي يطل عليها من بعيد معطل، ويقف مثل رجل
منحن.. والطريق سقيم.. ولو غامرت ونزلت إلى الشوارع، وحاربت هذه المخلوقات بالحجارة، لربما اعترضتني في تلك الساحة دورية الليل.. وعندما يسألوني سوف أرتبك.. وحينئذ قد ينزل من «الجيب» أحدهم ويدنو مني.. يتفحصني.. «البيجامة» واسعة كالثوب.. وسابغة حد الكعب.. والحلق بالإمكان حصر أزاريره خارج الفتحات.. والوجه على سجيته..
سألقي عليه تحية آدم لملائكة الله أولاً، ثم أصافحه.. هو حُرٌ.. إن شاء
صافحني وإن بادرني بالأسئلة فكما يريد.. الحق معه.. ماذا يفعل رجل هنا مع
هذه الكلاب؟ ! .. وفي هذه الساعة من الليل الغابر؟ ! ..
لقد أزعجتني.. حاولت النوم فلم أستطع والله! ..
وتخرج هكذا.. أين تسكن؟ ! ..
هناك.. في تلك «الحارة» ..
هويتك! ..
صحيح.. وهنا قد يأخذني إلى التوقيف.. سيكون صعباً بكل تأكيد قضاء بقية
الليل على بلاط الريبة حتى الصباح..
ألمح وأنا مستند إلى قضبان النافذة المعتمة أكثر من كلب يقترب من العمود
المعطل.. يتمحك به أحدها.. يرفع رجله.. هذه وضعية ممتازة للقتل.. رصاصة
واحدة، وفي مكان لا تزيغ فيه الشعرة، كافية لمسح أثره..
هكذا كنا نقتل الكلاب.. إذ ما أن تهبط على قطعان الماعز في السفوح حتى
نتلقاها في عتمات الكمائن.. وفوق الصخور، أو تحت الشجيرات المنقضة على
منازلنا في السهل، لا تطيش الطلقة عن لمعة المقتل..
أشد قبضتي على الحديد الخشن.. أشعر بالصدأ يتوحش في معترك الخطوط، ويهيج في الأصابع.. يخترق راحة اليد باتجاه عزيمة اللحم والدم والعصب..
وما الذي يضر؟ ! ..
عما قليل سيشتعل نداء الفجر.. وحالما تسيل على الحيطان الشمسُ تنطفئ
الكلاب..
أنزع يدي خاليتين من الصراخ ولغط القضبان، وأعود متمهلاً إلى فراشي..
الغرفة مذبوحة من الجدار إلى الجدار في الظلمة.. والباب موارى.. وفي نهاية
المدخل على بعد أمتار ثمة زاوية تمسك بمصباح ينسكب مباشرة باتجاه الباب الذي
يسلمني على الدوام إلى الشارع.. غير أن سعفة من الضوء رغم ذلك جاهدت في
السقوط عبر الباب داخل الغرفة، وعلى الجدار انكسرت فبقي منها مثل طولي قائماً
يتشبث بتراب الطوبات القريبات من السقف..
كانت العاصفة قد سكتت..
ها هي من منازل الجيران تأتي الديكة منتشية بماء الفجر، وأنا أذكر الله
وأحشو الغرفة بالخطوات..
أقف مباشرة تحت المروحة المضبوطة على رقم (5) .. ورغم أن الهواء
ينزل على فروة رأسي كالسوط، وصرير المروحة منخرط فيما يشبه انهيار
السلاسل، إلا أنني أوقفت عيني على شيء يتحرك عند قدمي..
لقد أثار انتباهي أنني أطفأت الأنوار على فراش منفرد، وثياب معلقة على
الحائط، ولم أفطن إلى أن الجريدة بقيت تروح بعدي وتجيء تحت هواء المروحة
المستديم.. الآن فقط تبين لي أن الصفحات كانت طوال الليل تروح وتجيء تحت
الهواء.. تتقصف.. يصطفق بعضها ببعض.. في الظلمة.. تحت الصرير..
أتذكر كيف أن الدم كان يفور بين يدي، والخراب يندلع في الصفحة سطراً
بسطر.. وأن دمي موزعاً بين وكالات أنباء العالم ليس غير هذا الذي يسيل هنا
تطارده الحرائق وحدقات الجنود..
أتذكر كيف أن «علي عزت بيغوفيتش» كان يقف وحيداً في ركن الصفحة
مسبل اليدين، حاسر الرأس، قد بذل وجهه إلى شيء ما عن يساره، وعينه اليمني
كانت ضيقة مثل الطرقات إلى «سراييفو» ..
وكيف أن الرجال ذوي العيون الزرق ملؤا ذات صباح شوارع «مقديشو بحثاً
عن سلام فاقع كجباههم وقت الظهيرة.. كانت (Returning Hope) [*] ترقص
ثملة على شفاه رجال البحرية وهم يحرسون الأقداح الفارغة في المخيمات، بينما
أحدق أنا في وجوه بضعة أطفال تجاوروا حول رجل لا يبدو منه سوى دمه على
الأرض..
العالم يطبق على رأسي مثل قبعة..
أحسست بجفاف حاد، واشتهيت الماء، غير أني تمهلت في النهوض حتى
اطمأن، عرقٌ في رأسي أخذني فجأة..
وبقيت الجريدة بعدي..
والكلاب..
والعتمة.. [**]