دراسات اقتصادية
المشكلة الاقتصادية
وعلاجها من المنظور الإسلامي
- 3 -
د. محمد عبد الله الشباني
في الحلقتين السابقتين ناقشنا جانب من جوانب المشكلة الاقتصادية، وهو
جانب الندرة في الموارد الطبيعية، وأوضحنا المنهج الإسلامي في معالجة هذا
الجانب، وفي هذه الحلقة سوف نناقش الجانب الثاني من جوانب المشكلة
الاقتصادية، والمتمثل في نمطية ونوعية توزيع عناصر الإنتاج على أفراد المجتمع
أي تحديد مصادر الدخول الفردية وقواعد اكتسابها وتوزيعها وأنصبة عناصر الإنتاج
في الدخل.
يرتبط حل المشكلة الاقتصادية بالأساس الذي يتم بموجبه تحديد العائد الأفضل
للتكاليف المدفوعة على عوامل الإنتاج، ومدى تأثير ذلك على عرض المستخدمات
الإنتاجية، وبالتالي فإن المشكلة الاقتصادية ترتبط بالأسلوب والمنهج الذي يتم به
معالجة توزيع المدفوعات على مختلف عوامل الإنتاج.
مفهوم نظرية التوزيع:
تقوم نظرية التوزيع وفقاً للمفهوم الاقتصادي على تحديد مستوى المدفوعات
بالنسبة إلى مختلف عوامل الإنتاج، فنظرية التوزيع وفق المفهوم الاقتصادي
المعاصر تهتم بكيفية الحصول على عائد أفضل للتكاليف المدفوعة على عوامل
الإنتاج، الذي بدوره يؤثر على عرض المستخدمات الإنتاجية.
تتدخل المفاهيم الاعتقادية والتنظيمية في تحديد رؤية النظام الاقتصادي
للعلاقات التأثيرية لعوامل الإنتاج في بناء نظرية التوزيع في التطبيق العملي، من
تلك المفاهيم التي لها تأثير في التمييز بين مختلف الأنظمة الاقتصادية: كيفية
توزيع الناتج الصافي للدخل بين مختلف عوامل الإنتاج.
إن القواعد والضوابط التي يتم وضعها من قبل النظم الاقتصادية لها تأثير
على حركة عناصر الإنتاج، فمثلاً النظرة التي يتبناها النظام الاقتصادي تجاه
عنصر العمل ودوره في عملية الإنتاج، والأساليب المستخدمة في تحريكه وكذا بقية
عوامل الإنتاج الأخرى، تحدد التمايز والاختلاف بين مختلف الأنظمة الاقتصادية
فيما يتعلق بكيفية توزيع الناتج القومي على مختلف عوامل الإنتاج.
تمثل أهم جوانب المشكلة الاقتصادية في الأساليب التي تتبناها نظرية التوزيع
لمجموع النواتج الصافية للدخل، ممثلاً في مقدار دخل الفرد (أي نصيبه) الذي يناله
نظراً لاشتراكه في الإنتاج، سواء بعمله أو بملكيته أو بهما معاً، تتأثر هذه
الأساليب التي يتبعها النظام الاقتصادي لأي مجتمع من المجتمعات بالفلسفة التي
يسعى النظام الاقتصادي لترسيخ مفاهيمها فيما يتعلق بالنظرة إلى أي عنصر من
عناصر الإنتاج.
يقصد بمفهوم التوزيع وفق النظرة الاقتصادية، عملية تحديد حصص عناصر
الإنتاج في دخل المجتمع والتي تشتمل على جانبين هما:
1- التوزيع الشخصي، أي توزيع ملكية عناصر الإنتاج على أفراد المجتمع.
2- التوزيع الوظائفي، ويقصد به تحديد أنصبة عناصر الإنتاج في الدخل
القومي على أساس الوظيفة التي أداها كل عنصر في تحقيق هذا الدخل.
إن المشكلة الاقتصادية في جانبها التوزيعي تقوم على أساس تحديد مصادر
الدخول الفردية، فالنظام الرأسمالي الذي أصبح السمة المسيطرة بعد سقوط النظام
الاشتراكي يحدد مصدر الدخل من العمل ومن عوائد التملك، مع قصور النظام
الرأسمالي في وضع القواعد المحددة لاكتساب الملكية أو توزيعها مما أدى إلى سوء
توزيع الملكية بين أفراد المجتمع والذي بدوره أدى إلى سوء توزيع الدخول بينهم
فيما يتعلق بالتوزيع الشخصي، أما التوزيع الناشيء عن مساهمة عناصر الإنتاج
(أي التوزيع الوظائفي) فالنظام الرأسمالي يحصر هذا التوزيع في الربح للأرض
والأجر للعمل والفائدة الربوية لرأس المال والربح للتنظيم أو الإدارة.
أما النظام الاشتراكي فهو يلغي الملكية الخاصة لعناصر الإنتاج كلياً أو يحد
منها بدرجة كبيرة، لذا فإن التوزيع يتم على أساس العمل، ووفقاً للخطة الاقتصادية
التي ترسمها الدولة، وهو بهذا يخالف النظام الرأسمالي، وقد أوضحت التجربة
العملية عجز هذا النظام عن حل المشكلة الاقتصادية، بل أدى إلى تفاقمها، وعجز
عن تحقيق الأحلام التي بشر بها أتباعه ومعتنقيه، أما النظام الرأسمالي فقد أخذت
بوادر فشله تبرز، وأخذت جوانب المشكلة الاقتصادية تستفحل مما يؤذن بقرب
سقوط النظام الرأسمالي الربوي، وذلك سوف يؤدي إلى كارثة عالمية لا يعلم مداها
إلا الله، فجزئيات المشكلة الاقتصادية أخذت في الاتساع والنمو والتجزؤ مما جعل
منظري النظام الاقتصادي الرأسمالي يهتمون بالجزئيات والعمل على تجنب
الأضرار التي تلحق بالجوانب الأخرى للمشكلة الاقتصادية.
لم تجد النظرية الإسلامية فيما يتعلق بجانب التوزيع من يتبناها في الواقع
التنفيذي، وبالتالي فإن ما سوف يتم إبرازه من طروحات لمعالجة المشكلة
الاقتصادية في جانبها التوزيعي، إنما يقوم على افتراض أن هذه الأطروحات في
المعالجة إنما تقوم على أن هناك تكامل في النظرة لإدارة اقتصاد الدولة، والذي
بدوره يرتبط ببقية الأنظمة الاجتماعية الأخرى المستمدة من الشريعة الإسلامية أي
أن هذه الطروحات لا يمكن أن تقوم بدورها في معالجة هذا الجانب من جوانب
المشكلة الاقتصادية إذا عزلت عن محيطها البيئي، إن القصد من طرح هذه
الأطروحات في معالجة جانب التوزيع من المنظور الإسلامي عند معالجة المشكلة
الاقتصادية، هو إبراز أن الإسلام يمتلك الوسيلة والمنهج الذي يمكن عند الأخذ به
مع بقية أنظمة الإسلام الأخرى، حل ما يعانيه الإنسان المعاصر من مشاكل
اقتصادية ناتجة عن الانحراف عن فطرة الله التي فطر الناس عليها.
العلاقة بين عناصر الإنتاج وتوزيع الدخل القومي علاقة ترابط وتداخل
وترتكز هذه العلاقة على تحديد عناصر التملك ومصادرها، والأسلوب الذي ينبغي
اتباعه لتوزيع الدخل القومي على عناصر الإنتاج، ومن مصادر بروز المشكلة
الاقتصادية في إي نظام اقتصادي حدود ونظام ومصادر التملك، وكيفية إيجاد
التوازن بين مختلف عناصر الإنتاج في اقتسام حصة من الدخل القومي وهذا يتأثر
بالقواعد والنظم والتشريعات التي تحدد مصادر الدخل وطرق الكسب ونطاق ومجال
استخدام الفائض المدخر من الكسب.
إن من أهم الأمور التي تشغل بال الاقتصاديين هو كيفية معالجة عدم التوازن
في تخصيص وتوزيع الدخل على مختلف عناصر الإنتاج.
يمتلك الإسلام تصور معين ومنهاجية خاصة تحدد طرق الكسب ونطاقه كما
تعالج نطاق الإنفاق مع إعطاء الحافز على الادخار والاستثمار، بجانب الاحتفاظ
بتوازن المجتمع ضمن التوجيه القرآني الكريم في قوله تعالى: [كي لا يكون دولة
بين الأغنياء منكم] [الحشر: 7] ، الإسلام يحرص على تحقيق التوازن بين
مختلف عناصر الإنتاج بالتدخل عند الضرورة مع وضع القواعد التي يتم الاسترشاد
بها، إن عناصر الإنتاج التي يقرها الإسلام، ويعمل على تحقيق التوازن بينها
ثلاثة عناصر أساسية هي: العمل، والموارد الطبيعة ورأس المال، أما عنصر
التنظيم أو الإدارة فهو يدخل ضمن عنصر العمل والإسلام يعطي أهمية خاصة
للعمل حيث إن له دور متميز في العملية الإنتاجية لأنه العنصر المؤثر في تكوين
رأس المال، ولكن لا يُهمل دور رأس المال في المساهمة في العملية الإنتاجية.
اختلال التوازن بين عناصر الإنتاج يساهم في وجود المشكلة الاقتصادية ولهذا
فقد وضع الإسلام قواعد لمنع هذا الاختلاف بين عناصر الإنتاج، وسوف نناقش
كيفية معالجة الإسلام لكل عنصر من عناصر الإنتاج فيما يتعلق بمعالجة توزيع
الدخل القومي بين هذه العناصر، ويعقب ذلك إبراز معالجة الإسلام العامة لضبط
التوازن بين مختلف عناصر الإنتاج ضمن نظام الإسلام الاقتصادي.
يعتبر الإسلام عنصر العمل هو القاعدة الأساسية في التملك، كما أنه هو
المتحكم والمؤثر في تحديد تكاليف الإنتاج، لأن إنتاج السلع أو تقديم الخدمات
مرتبط بقوة العمل المبذولة سواء أتمثلت هذه القوة في الجهد العقلي أو العضلي وإن
إنتاج السلع أو تقديم الخدمة لا يتم إلا من خلال قوة العمل، وبهذا فإن الإسلام
يعترف بدور العمل في العملية الإنتاجية.
روى الحاكم في مستدركه وأحمد في مسنده عن جميع بن عمير عن خاله أبي
بردة بن نيار قال: سُئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أفضل الكسب فقال:
«بيع مبرور وعمل الرجل بيده» [1] ، وفي حديث آخر رواه أحمد والحاكم عن رافع بن خديج قال: قيل يا رسول الله: أي الكسب أطيب؟ قال: «عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور» [2] ، وفي حديث آخر رواه ابن حبان في صحيحه وأحمد في مسنده عن سويد بن قيس قال: جلبت أنا ومخرمة العبدي ثياباً من هجر فأتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فساومنا في سراويل وعندنا وازنون يزنون بالأجر فقال للوازن: «زن وأرجح» [3] . ...
من هذه الأحاديث وغيرها نجد أن الإسلام يعطي للعمل دوراً في العملية
الإنتاجية، وأن العمل هو أفضل أعمال الكسب، لأهمية العمل في النشاط
الاقتصادي وتأثيره في الدورة الاقتصادية، وفي ظهور المشكلات الاقتصادية فقد
عمد الإسلام إلى معالجة المشكلات التي يمكن أن يؤثر فيها العمل، فمن تلك
المعالجات التي اهتم الإسلام بوضع حلول لها، وأرشد إلى أمور ينبغي الأخذ بها
الأمور التالية:
1- وضع أسس تحديد الأجور:
عند وضع سياسة الأجور يجب وضع أسس تحديد الأجور في المجتمع فمن
ذلك ما رواه أبو داود في سننه وأحمد في مسنده عن المستورد بن شداد قال: سمعت
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة وإن
لم يكن له خادم فليكتسب خادماً فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكناً» [4] ، إن
هذا الحديث يضع قاعدة عامة لسياسة الأجور، ونصيب العمل من الدخل العام وهذه
القاعدة تتمثل بأن يكون هناك حد أدنى للأجور لا يجوز إعطاء أقل منه وهذا الحد
الأدنى مرتبط بالكفاية في تحقيق الضروريات الأساسية، لهذا فإن من المشكلات
التي تؤثر في تفاقم المشكلة الاقتصادية هو تقليص الأجور وإضعاف نصيبها من
الدخل القومي، لأن إضعافها سوف يؤدي إلى التأثير على الإنفاق والذي بدوره
يؤثر على الدورة الإنتاجية.
2- ضرورة معلومية الأجور ودفعها عند تمام العمل المنجز:
وهذه القاعدة تساعد على إيجاد سوق العمل المستقرة، ومنع الاضطرابات
العمالية التي هي السمة البارزة في المجتمعات الرأسمالية، ومن الأحاديث المرشدة
إلى هذا الأمر ما رواه الدارقطني بسنده عن عبد الله بن مسعود أن النبي -صلى الله
عليه وسلم- قال: «إذا استأجر أحدكم أجيره فليعلمه أجره» [5] ، كما روى أحمد
في مسنده عن أبي سعيد الخدري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن استئجار
الأجير حتى يبين له أجره، ونهى عن النجش واللمس وإلقاء الحجر [6] ، كما
روى البيهقي في سننه مرفوعاً عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- قال: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه، وأعلمه أجره
وهو في عمله» [7] فهذه الأحاديث ترشد إلى دفع مستحقات العمال في وقتها،
ومعلومية الأجر والغاية من هذا الأمر إيجاد العلاقة الجيدة بين أرباب العمل والعمال، وبالتالي استقرار سوق العمل.
3- العمل على استقرار سوق العمل:
وذلك بالعمل على غرس مبدأ الاستقرار وبقاء العامل في عمله وعدم التنقل
من عمل إلى آخر، وإن اضطراب سوق العمل وعدم استمرارية العمال في أي
نشاط من الأنشطة الاقتصادية، سوف يؤثر على تكلفة الناتج نتيجة لتغير منحنى
عرض العمالة، فيحدث الاضطراب في سوق العمل، لهذا فإن الإسلام يعمد إلى
الحث على استقرار العمالة وعدم تنقلها، ويرشد إلى ذلك ما رواه ابن ماجة في
سننه وأحمد في مسنده عن الزبير بن عبيد عن نافع قال: كنت أجهز إلى الشام
وإلى مصر، فجهزت إلى العراق فأتيت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فقلت
لها: يا أم المؤمنين كنت أجهز إلى الشام فجهزت إلى العراق، فقالت: لا تفعل
مالك ولمتجرك فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إذا سبب
الله لأحدكم رزقاً من وجه فلا يدعه حتى يتغير له أو يتنكر له» [8] ، وما رواه ابن
ماجة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من
أصاب من شيء فليلزمه» [9] ، هذه التوجيهات النبوية ترشد إلى الاهتمام
بضرورة العمل على استقرار العمالة وبقائها، أي العمل على السعي إلى المحافظة
على توازن منحنى العرض والطلب للقوى العاملة.
4- حفظ حقوق العاملين:
تقوم استراتيجة تنظيم العمل كما ترشد إليه أحكام الإسلام، على حفظ حقوق
العاملين وإلزام أصحاب العمل بتوفير الظروف البيئية الملائمة، وعدم استغلال
طاقة العامل أكثر من قدرته، وضرورة كفاية الأجر لتحقيق احتياجاته الأساسية،
فلقد وردت أحاديث ترشد إلى مراعاة ذلك والأخذ به، ومن ذلك ما رواه البخاري
في الأدب المفرد عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
«للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل ما لا يطيق» [10] ، كما روى
البخاري بسنده في الأدب المفرد عن أبي ذر قال: قال النبي -صلى الله عليه
وسلم-: «إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما
يأكل وليلبسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه» [11] .
من هذه الأحاديث يمكن وضع سياسة عامة للعلاقة بين أرباب الأعمال
والعمال، تتمثل في إعطاء العمال الأجور الكافية لسداد احتياجاتهم، مع وضع
الضوابط التي تمنع أصحاب العمل من تكليفهم بالقيام بأعمال أكثر من طاقتهم بحيث
يلزم صاحب العمل بتهيئة الظروف التي لا تؤدي إلى إرهاق العامل جسدياً ونفسياً،
هذه الأمور تقدر بقدرها ضمن القاعدة الأصولية «لا ضرر ولا ضرار» بحيث لا
تغلب مصلحة العامل على مصلحة رب العمل، ولا مصلحة رب العمل على
مصلحة العامل، بل يجب الانطلاق عند وضع السياسات العمالية من مفهوم أن
الجميع أخوة تربطهم رابطة العقيدة والإيمان.