مجله البيان (صفحة 1761)

في دائرة الضوء

محاسبة النفس ونقد الذات

رؤية دعوية لإصلاح المسار

عبد العزيز بن محمد الوهيبي

تمهيد:

لقد سرني وأثلج صدري ما كتبه الأخوان الفاضلان الأستاذ/ جمال سلطان في

مقاله (الدعوة السلفية رؤية نقدية) ، وما كتبه الأستاذ/ أحمد الصويان في مقاله

(الاستبداد الدعوي) اللذين نشرا في العدد (73) من هذه المجلة فهيج ذلك المقالان

شجناً قديمتاً عندي، وأحببت الإدلاء بدلوي في الموضوع بهذه المقالة، عسى أن

تدفع هذه المشاركة الآخرين لتناول تلك القضية من زوايا أخرى تعين على وضوح

الرؤية، وسلامة الفهم، وحسن السلوك. والله من وراء القصد.

ثمة عيبان بارزان، وشاهدان عدلان على ضعف الإنسان وعجزه وقصوره،

هما: الظلم والجهل.

[إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها

وأشفقن منها، وحملها الإنسان إنه كان ظلوماْ جهولاْ..] [الأحزاب: 72] .

هاتان الآفتان هما أساس كل بلاء، وجذر كل نقص في بني آدم، ويمكن رد

كل آفة أو عيب من غيرهما إلى هاتين الآفتين مباشرة أو بطريق غير مباشر.

والوعي بهاتين الآفتين والسعي لتلافيهما دلالة على سلامة المنطلق، ونجاح المآل

بإذن الله تعالى.

آفة الظلم:

وهي العيب الأول، وهو عيب أخلاقي وله مظهران: المظهر الأول فردي

يتمثل في أسوأ صورة، التي تتمثل في الشرك بالله تعالى، يقول سبحانه: [إن

الشرك لظلم عظيم..] [لقمان: 13] ، وأي ظلم أعظم من الشرك بفاطر الأرض

والسموات؟ !

والمظهر الثاني لهذا العيب الخطير جماعي متعد، يتمثل في ظلم الناس،

وأسوأ صورة له هي الكبر الذي قال عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- (الكبر بطر

الحق وغمط الناس ... [1] ، وقال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من

كبر ... ) [2] .

آفة الجهل:

وهي العيب الثاني، وهو عيب معرفي ويتجلى هو الآخر في مظهرين:

المظهر الأول الجهل بالشريعة المنزلة على محمد -صلى الله عليه وسلم-، وذلك

بالإعراض عنها كلياً وهو حال الكافرين المستكبرين الذين قال الله عنهم: [والذين

كفروا عما أنذروا معرضون] [الأحقاف: 3] ، أو الإعراض عن بعض ما جاء به

الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو حال العصاة الفاسقين، أو المبتدعة الزائغين،

الذين قال الله عن أشباههم: [أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء

من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد

العذاب..] [البقرة: 85] .

الأمر الذي يؤدي إلى التفرق والاختلاف، [فنسوا حظاْ مما ذكروا به فأغرينا

بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة..] [المائدة: 14] ، ذلك الجهل وذلك

الانحراف نابعان من اصطناع منهج منحرف في الاستدلال كمناهج الصوفية ...

والباطنية، أو قصور المنهج المعتمد كمناهج الخوارج، وتلك صورة تتكرر،

وماتزال حيث تتمسك بعض الطوائف ببعض الجوانب التي حث عليها الإسلام وأمر

بها، فتجعل منها قضية الإسلام الأولى والأخيرة وتتمسك طائفة أخرى بجانب آخر

وتعطيه الأهمية نفسها، وتنكر الواحدة منهما على الأخرى وتقاطعها وتدابرها،

وتتمزق الصفوف، وتبدد الجهود وربما وصل الأمر إلى التفسيق والتبديع، بل

ربما وصل الأمر إلى التكفير وإهدار الدماء، نسأل الله السلامة والعفو والعافية.

تلك بعض آثار المظهر الأول من مظاهر الجهل.

المظهر الثاني وهو الجهل بالواقع: إذ أن الشريعة أحكام كلية وضعت لتعالج

أحداثاً جزئية، ولذلك لابد من فهم الواقع بشكل صحيح، من أجل تنزيل أحكام

الشرع عليه، ومن صور الجهل بالواقع اصطناع منهج في الفهم والتحليل يقود دائماً

لفهم خاطئ ومعالجة خاطئة، ومن الأمثلة الشهيرة في التحليل السياسي على سبيل

المثال نظرية المؤامرة، تلك التي ترجع كل الأحداث والوقائع والمستجدات لمؤامرة

عالمية واحدة يختلف في تحديدها ولكن النتيجة واحدة مؤامرة شديدة الإحكام، شديدة

الدقة، شديدة النجاح لا نملك إزاءها صرفاً ولا عدلاً، وتحيط بكل شيء علماً، قد

تكون خلف هذه المؤامرة الماسونية السرية، ذات القيادة الخفية، وهي حكومة

عالمية خفية تجتمع وتخطط، وتدبر كل شيء، وكل هذه الحكومات والدول

والمنظمات إنما هي أحجار على رقعة الشطرنج، تتحرك وفق مخطط مدروس كي

تنفذ لعبة الأمم، وتعبث بمقدرات الشعوب..

هذه النظرية ليست مختصة ببعض المسلمين، بل هي منهج مريح يعفي من

تبعات التحليل والتدقيق والمراجعة، وكانت سائدة في بعض المدارس التحليلية

الأمريكية عندما كانوا يرون الشيوعية خلف كل خطر يتهددهم كما هو لدى المكارثية.

تلك أربعة فروع من فروع الخلل السلوكي (الأخلاقي) والخلل المعرفي تتفرع

عنها فروع أخرى كثيرة.

مدارس فهم النص:

في المسألة المعرفية الاستدلالية نود طرح هذا السؤال: هل جاء الإسلام

بمفردات نصوص تؤخذ هكذا مبعثرة، ويتعامل مع كل نص بمفرده كأنه منهج

مستقل وتشريع منفرد، أم ينظر إليه كما ينظر إلى الخلية في الجسد الحي لا قوام

لها إلا به، ولا حياة لها إلا بحياته، وعزلها وفصلها يعني موتها المحقق..؟ ! ثم

إذا سلمنا بأن الشريعة كل متكامل يصدق بعضها بعضاً، ويؤيد بعضها بعضاً كما

قال الله تعالى: [الله نزل أحسن الحديث كتاباْ متشابهاْ مثاني] [الزمر: 23] ،

فأي هذه النصوص هو المحور، وأيها الأطراف؟ ! أيها هو العمود الفقري،

وقطب الرحى الذي لا قيام لغيره إلا به..؟ ! أيها المحكم الذي يمكن من خلاله فهم

المتشابه ... الملتبس الغامض..؟ ! ولنأخذ على ذلك مثلاً توضيحياً سريعاً: في

مسألة الموقف من عصاة الموحدين في شريعة الإسلام، فنحن نجد هنا مدارس

متعددة في فهم النص وإدراكه أشهرها ثلاث:

أولا الخوارج: الذين آمنوا بأن النص المحكم في هذه المسألة هو قول الله

سبحانه وتعالى: [ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا..]

[الجن: 23] ، وكل نص خلاف هذا النص فهو عندهم مردود عليه، فنصوص مغفرة

الذنوب دون الشرك، مثل قوله سبحانه: [إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون

ذلك..] [النساء: 48] ، المقصود بها ما دون الكبائر.. وهكذا، ومن خلال هذا

الفهم السيء فإن مرتكب الكبيرة المصر عليها كافر خارج من الملة مخلد في نار

جهنم والعياذ بالله..! !

ثانياً المرجئة: الذين قالوا بأن النص المحكم في هذه المسألة قوله سبحانه

وتعالى: [قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله

يغفر الذنوب جميعاْ] [الزمر: 53] ، وكل نص يفهم من ظاهره خلاف هذا النص

فهو غير مراد والواجب تأويله، فمثلاً الآية التي استدل بها الخوارج على مقولتهم

السابقة، فإن المقصود بالمعصية في الآية هو المعاصي المكفرة كالسخرية بالدين،

أو ذم الرسول-صلى الله عليه وسلم-، أو كراهية ما أنزل الله ... الخ.

ثالثاً مدرسة الصحابة أو المنهج الحق: أما علماء الصحابة ومن اقتفى أثرهم، فقد رأوا أن في المنهجين خللاً معرفياً استدلالياً ظاهراً، ذلك أنه في حقيقة الأمر

فإن الآية المحكمة في الباب هي قوله سبحانه وتعالى: [إن الله لا يغفر أن يشرك

به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء..] [النساء: 48] ، فبهذه الآية تجتمع أطراف

النصوص ويفسر بعضها بعضاً، فنصوص الوعد بالجنة للموحدين العصاة الذين

يقترفون الكبائر، هي بعد تطهيرهم في النار حيناً من الدهر، أو بمغفرة الله سبحانه

وتعالى لهم، ونصوص الوعيد على المعصية المقصود أن الفاعل لها مستحق للوعيد

وقد يعاقب بذلك العقاب، وقد يغفر الله له، أو تكفرها طاعاته أو البلاء الذي يصيبه

في الدنيا، أو غير ذلك من الأسباب، ولا ريب أن فهم السلف هو الفهم السديد،

وهو مقتضى النصوص الواردة المتواترة في إقامة الحدود على مرتكبي الكبائر، إذ

لو كانوا كفاراً لوجب قتلهم، ولغير ذلك من الدلائل.

ولا ريب أن هذا الفهم هو الذي يعصم المجتمع من التمزق والحروب الداخلية

الناجمة عن رؤية وفهم الخوارج، كما يعصمه من التحلل وانتشار الفساد والجريمة

الناجم عن الرؤية الإرجائية.

ومن هنا نفهم حقيقة قول الله سبحانه: [فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله

والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاْ]

[النساء: 59] ، فالرد إلى الله والرسول ليس عملاً تعبدياً فقط ينجو به الفاعل من عذاب الآخرة، بل هو أيضاً أحسن مآلاً ومصيراً في الدنيا للأفراد والجماعات.

ولقد دلت نصوص الكتاب والسنة على الأهمية الكبرى لمراجعة المسيرة ونقد

الذات، والنصوص في هذا كثيرة جداً، فمن ذلك قوله سبحانه: [والمؤمنون

والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر..] ... ...

[التوبة، 71] ، فجعل سبحانه وتعالى مناط الولاء هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك ظاهر لا ريب فيه، إذ إن المداهن الساكت عن مخالفات أخيه يكون في صدره حرج منه، كما أن لأخيه حرجاً هو الآخر إذ هو يعلم أن أخاه منكر في نفسه لهذا الفعل، ولكنه لا يبين له هذا الإنكار مما يدل على وجود حاجز بينهما، ومنها قوله سبحانه وتعالى: [لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون..] [المائدة: 78، 79] ، فكان سبب حلول اللعنة عليهم ترك التناصح والتذكير.

ولقد حفلت نصوص الكتاب الكريم والسنة المطهرة بالكثير من التقويم

والمراجعة والتصحيح، فمن ذلك الآيات في غزوة بدر الكبرى التي فرقت بين

الحق والباطل، واختلاف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قسمة

أول غنائم يحصلون عليها، ونزول سورة الأنفال تعالج هذا الحدث العظيم:

[يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا

الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم..]

[الأنفال: 1، 2] ، وهكذا تمضي الآيات متوالية في درس تربوي طويل وعظيم

وعجيب..

ومع نزول هذه الآيات، وبعد عام فقط، تكون الأنفال هي السبب الأساس في

هزيمة أحد، وتتنزل الآيات لا تجاملهم ولا تحابيهم رغم هزيمتهم وألمهم يتنزل فيهم

قوله سبحانه: [ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم

في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد

الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم ... ] [ال عمران: 152] .

هكذا يجتمع عليهم الدرس العملي القاسي بالهزيمة، والدرس النظري بالملامة، كتاباً يتلى إلى يوم القيامة، ويسمع به خصومهم، ولا يقال: ربما شمت الأعداء

بنا.. ربما وربما..، بل يكون البيان في وقت الحاجة إليه والتذكير في قمة

الانفعال، ليكون ذلك أبلغ وأعمق أثراً.

وفي مواقع وأماكن وحوادث كثيرة أكثر من أن تحصى، وأشهر من أن

تستقصى، حتى لقد صح عن بعض أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه

قال: (كنا لا نتباسط مع نسائنا والوحي ينزل مخافة أن ينزل فينا شيء، حتى إذا

قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تباسطنا..! ! بهذه الحساسية كانوا

رضوان الله عليهم يتلقون الوحي، ويستمعون إليه.

ضرورة المحاسبة والمراقبة:

من هذه النصوص ومن غيرها، ندرك الأهمية القصوى لمحاسبة النفس

ومراجعة المسيرة، وتصحيح الطريق، وهي حقيقة موضوعية تنبه لها عقلاء

البشر وأسوياء العالم، فوضعوا لهذا الغرض مجالس الشورى ودواوين المراقبة،

وغير ذلك، ومن هنا كانت الأهمية الكبرى لأن يتعود الدعاة وقفات المراجعة

ومجالس المناصحة، ومؤتمرات التصحيح، وأن يرحبوا بالنقد الهادف ويصبروا

على التوجيه الإيجابي، بل ويصنعوا الأدوات والآليات التي تضمن لهذا النقد وذلك

التوجيه أن يؤتي ثماره وينتج فوائده المرجوة.

خلل في زوايا ثلاث:

وسأتطرق لهذا الموضوع في هذه العجالة من زوايا أساسية ثلاث، أرى أن

الخلل يظهر واضحاً فيها وهي:

أولاً فقه المقاصد وغايات الدين الكبرى:

ففي هذه الزاوية يظهر خلل عميق شديد الإيذاء في فهم كثير من الدعاة

والجماعات للغايات الكبرى للدين، وترتيبها فيما بينها، وفي ترتيب الأولويات

ويتجه كثير من هؤلاء إلى التعامل مع هذا الموضوع ومع جميع القضايا إلى التفكير

البسيط المختزل، ومن خلال هذا التفكير المبسط لدرجة الإخلال يتحرك الفرد

والجماعة، ويرسم طريقه، ويحدد مساره.

فمثلاً يسأل سائل: لم خلق الله الخلق؟ فتكون الإجابة: ليعبدوه وحده سبحانه

وتعالى، بدليل قوله تبارك وتعالى: [وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ... ]

[الذاريات: 65] ، أي يوحدون.

ثم يسأل: وما التوحيد؟ فيجاب: هو إفراد الله تبارك وتعالى بالعبادة وهو

ثلاثة أنواع: توحيد الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات، ثم ينسى توحيد

الألوهية ويركز على النوع الأخير لأنه النوع الذي يكثر فيه الانحراف حسبما يرى، فلا يتحدث إلا عنه ولا يناقش إلا فيه، ولا يدندن إلا حوله وينسى أولاً أن العبادة

اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأفعال والأقوال الظاهرة والباطنة، وأن

عمارة الأرض، ورحمة البشرية، والقوامة على الناس من أنواع هذه العبادة، وأن

الله تبارك وتعالى جعل وجود الجماعة لتحقيق هذا الغرض، والقيام بهذه الرسالة،

فقال سبحانه: [هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها..] [هود: 61] ،

أي طالبكم بعمارتها.

ولذلك يغيب هذا البعد للأسف الشديد عن أذهان كثير من الإخوة الدعاة، فلا

يلتفتون إليه، ولا يعالجونه، ولا يسألون عنه، بل ربما نظر إليه بعضهم نظرة

نفور وتنفير، بل ربما نظرة تبديع وتضليل، فيرون الاهتمام بإعداد القوة التي أمر

الله بها: [وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة..] [الأنفال: 60] يرون ذلك نوعاً

من التساهل وتضييع قضايا الدين، ويجهلون أنهم إنما جعلهم الله تبارك وتعالى

للشهادة على الناس والرحمة للعالمين: برهم وفاجرهم مسلمهم وكافرهم: [وما

أرسلناك إلا رحمة للعالمين] [الأنبياء: 107] [وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا

شهداء على الناس..] [البقرة: 143] ولذلك فهم لا يقومون بأي جهد لعمارة

الأرض على أحسن صورة، ولإعداد القوة، وللشهادة على الناس.. بل تراهم

يُزَهّدون في فهم الواقع، وفي متابعة المستجدات المهمة، وفي تعلم اللغات الأجنبية

وغيرها وباختصار كل ما من شأنه الحصول على القوة، والقيام بالشهادة.

ثانياً إ دراك الذات ومعرفة الآخر وكيفية التعامل معه:

ولقد جعل الله لكل من آفتي الظلم والجهل دواءً، فدواء الجهل السؤال والتعلم، ولذلك يقول -صلى الله عليه وسلم- لمن أفتوا صاحب الشجة بالاغتسال حتى

مات (قتلوه قتلهم الله.. ألا سألوا حين جهلوا، فإنما شفاء العي السؤال..) [3]

فالعلم بنوعيه: العلم بالدين والشرع، والعلم بالكون والواقع هما الشفاء للداء العريق

في الإنسان، داء الجهل، وقد يسر الله وحيه ودينه: [ولقد يسرنا القرآن للذكر

فهل من مذكر..] [القمر: 32] ، كما يسر فهم كونه، وقد وضع الحدود الشرعية

والكونية، والمخالف لها إنما يضر نفسه، ويدمر مجتمعه وتبقى السنن ويتمزق هو: [تلك حدود الله فلا تعتدوها..] [البقرة: 229] ولقد أدرك علماء الطبيعة ذلك

فالتزموا بالحدود الكونية كما هي دون أن يسألوا عن سبب مقدار سرعتي الضوء

والصوت، ولا عن سبب مقدار عجلة الجاذبية، ولكنهم اكتفوا بقياسها والتزموا به، ولو خالفوه لدمرت آلاتهم وخاب سعيهم.

وهكذا الشأن في أمر الله الشرعي ووحيه المنزل، فهو يسير ولكنه خطير،

سهل ولكنه ثقيل..: [إنا سنلقي عليك قولاْ ثقيلاْ..] [المزمل: 5] ويكفي أن

نعلم أن أخطر مذهبين عقائديين شهدهما العصر الحديث، وقامت على أساس هذين

المذهبين ما يسمى بالدول العظمى روسيا وأمريكا، وهما الرأسمالية والاشتراكية

(الشيوعية) ومجالهما الحيوي الاقتصاد.

إن هذين المذهبين نُقضا في كتاب الله تبارك وتعالى في آية واحدة هي قوله

سبحانه: [ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا..]

[البقرة: 275] ، فكون البيع حلالاً ذلك نقض للاشتراكية التي تدعو للملكية العامة،

وإبطال ملكية الأفراد في النهاية وتحريم البيع بذلك، وتحريم الربا نقض للقاعدة

المركزية في النظرية الرأسمالية، وهي قاعدة الربا التي لا وجود للنظام إلا بها.

من ذلك يتبين لنا أن دعاة الإسلام والساعين لتغيير مجتمعاتهم حتى تسير وفقاً

لشريعة الله تبارك وتعالى، عليهم أولاً وقبل كل شيء فهم شريعة الله تبارك وتعالى

كما أنزلها لا كما تهوى نفوسهم وترغب أفئدتهم، عليهم فهمها بشمولها وعمومها،

وبالطريقة االصحيحة المعتبرة، عليهم أن يثنوا ركبهم لهذا الغرض ويصبروا

ويصابروا، وعليهم كذلك فهم واقع مجتمعاتهم والواقع الدولي من حولهم، وتنزيل

هذا الفهم الشرعي على الواقع المتغير المتجدد، كي يتمكنوا من قيادة ركب البشرية، وليس فقط منافسة خصومهم والوقوف أنداداً لهم.

ثم عليهم بعد ذلك الفهم، وهذا الوعي تربية ذواتهم ومن معهم على الجوانب

السلوكية والسبل العبادية لله تبارك وتعالى، والقيم الخلقية مع عباده المؤمنين وغير

المؤمنين، وهي عملية شاقة فعلاً، ولكن لا مناص عنها، كانت تلك هي منهجية

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحبه حبه، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: كنا لا نجاوز عشر آيات حتى نعلمهن، ونعمل بهن، فتعلمنا العلم والعمل جميعاً.

ولا سبيل غير هذا السبيل: علم وعمل، معرفة وسلوك، قول وفعل ظاهر

وباطن.. ولقد لبث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ربع قرن يربي أصحابه

بالعلم والعمل ثم ما لبث في الربع الثاني أن هز بهم رضوان الله عليهم أجمعين

الدنيا وجابه بهم التاريخ، وأسقط بهم القوتين العظميين: فارس حيث أخبر

عنهم - صلى الله عليه وسلم-: (إذا هلك كسرى فلا كسرى غيره..) [4] ، والروم البيزنطية التي انكفأت على نفسها في أوروبا، ولم ترفع رأسها طوال عشرة قرون حتى جاء العصر الحديث، والذي حدث أول مرة يمكن أن يتكرر مرة أخرى إذا وجدت شروطه الموضوعية، لأن الوحي لايزال موجوداً محفوظاً:

[هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله..]

[الصف: 9] .

ثالثاً إدراك سنن الله في الكون والأفراد والجماعات:

لقد تعلمنا من كتاب الله تبارك وتعالى وسنة رسوله، أن لله في مسيرة الكون

والمجتمع سنناً دقيقة قابلة للرصد تحتاج، للتعامل معها والتحرك من خلالها، كما

قال سبحانه: [فلن تجد لسنت الله تبديلا، ولن تجد لسنت الله تحويلاْ..]

[فاطر: 43] ، ومن تلك السنن الكثيرة أن الله لا يصلح عمل المفسدين، وأن

للتمكين في الأرض شروطاً وضوابط: [إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين..] [البقرة: 124] ، وقال أيضاً: [إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم..] [محمد: 7] .

ومن ذلك أن الناس يسارعون لتكذيب من يأتيهم بالغريب غير المعتاد

ويحتاجون لكثير من الوقت حتى تختمر الفكرة في أذهانهم فيؤمنوا بها: [بل كذبوا

بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله..] [يونس: 39] ، ومن ذلك أيضاً أن

الجماهير تخضع لما يسمى في نظريات الإعلام بالعقل الجمعي وقادة الرأي، قال

تعالى: [إنه فكر وقدر، فقتل كيف قدر، ثم قتل كيف قدر، ثم نظر، ثم عبس

وبسر، ثم أدبر واستكبر، فقال إن هذا إلا سحر يؤثر، إن هذا إلا قول

البشر..] [المدثر: 18-25] ، قال هذا قائد الرأي الجاهلي الوليد بن المغيرة ثم رددتها الجماهير من ورائه دون تفكير، ولذلك طالبها تبارك وتعالى بالنظر الفردي أو الثنائي: [قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد..]

[سبأ: 46] .

وإذا صح هذا في الجاهلية مع التخلف الإعلامي والاتصالي والانتقالي فهو في

العصر الحديث أجلى وأوضح وأظهر، لذلك فإن ثقل الأمانة وضخامة التبعة على

الدعاة في الوقت الحاضر كل ذلك ضخم جداً، ولن يطيقوه إلا بالعلم ديناً ودنيا،

والعمل الجاد عبادة وعمارة، والتربية الصالحة العميقة نسكاً وخلقاً، ثم رص

الصفوف ووحدة الكلمة، على كلمة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله، والوعي

بالواقع والسنن، والتحرك بالأهداف البعيدة والكبيرة: [ولينصرن الله من ينصره

إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا

بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور..] [الحج: 40، 41] .

والحمد لله أولاً وآخراً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015