مراجعات أدبية
قراءة نقدية في البيان الأدبي
(العدد 76)
أ. د. ناصر بن سعد الرشيد
ينقسم الملف الأدبي إلى قسمين: القسم الأول النصوص الإبداعية من شعر أو
قصة أو مقالة، والقسم الثاني دراسات أدبية أو قراءات نقدية، وسأبدأ بالقسم الثاني
من الملف المنشور في العدد (76) ، فقد كتب الدكتور مصطفى بكري السيد تحت
عنوان «مراجعات أدبية: رؤية في القراءة النقدية» ، وبدأها بتعريفه للقراءة النقدية بأنها: «نظرية القواعد التي تحكم تفسير نص من النصوص الأدبية، يتأكد
فيها دور القارئ بوصفه أحد منتجي النص عبر علاقة تفاعلية تصل القارئ
بالمقروء، لتثمر إنتاج معرفة جديدة تتيح للقارئ توظيفها في إغناء ذاته أو في إعادة
بنائها» .
ولا شك أن هذا التعريف على جماله وصدقه لا يمكن له أن يستوعب كل
تعريفات القراءة النقدية، إذ من المعلوم عند المناطقة أن التعريف يجب أن يكون
جامعاً مانعاً، بيد أن تعريف الدكتور «مصطفى» على كثرة ما استوعب لم يمنع
أن يدخل في هذا التعريف مفردات جديدة ورؤى أخرى، فالدكتور «مصطفى»
انطلق من قانون واحد وهو «العلاقة التفاعلية» كما أسماها، أو «التواصل»
بين المبدع والمتلقي، ومحاولة إعادة بناء النص، بمعنى أن الناقد مبدع، وهذه هي
إحدى نظريات النقد الحديثة، وهي قراءة واحدة من قراءات النص، فالنص لاسيما
الجيد عالم فسيح يمكن أن ينظر إليه من زوايا متعددة، فحيناً يقرأ قراءة تفسيرية
وهي التي أشار إليها الدكتور، وتارة يقرأ قراءة تأويلية، ولعل هذه القراءة هي
القراءة السائدة اليوم، وهي القراءة الأفسح والأرحب، وتارة أخرى يقرأ قراءة
جمالية فنية، بمعنى أن توظف فيها آلات «اللسانية» وقوانين البلاغة، والنص
الجيد بعد ذلك كله هو ذلك النص الذي «لا تفنى عجائبه، ولا يخلق على كثرة
الرد، ولا يشبع منه العلماء» .
ولقد حاول الدكتور «مصطفى» أن يعطي هذا النوع من القراءة مصطلحاً
إسلامياً فسماها قراءة «التدبر» ، وهو مصطلح في الحقيقة رائع وجامع ومانع
فهو رائع إذ هو مصطلح قرآني يجب أن نحتفل به، وأن نحييه في دراساتنا النقدية
المعاصرة، علنا نستغني به عن مصطلح أجنبي لغربه، فلا ينسجم تمام الإنسجام
مع ما نريد، فالمصطلح الذي لا يحمل ما نريد أن نضع فيه من معاني ورؤى
وحمولات مصطلح ضامر ضعيف، لا يقوى على كثرة الرد ويبلى مع التكرار أو
يكون موهماً لخلاف المقصود، وهو جامع لأنه يجمع كل أنواع قراءات التدبر من
تفسيرية وتأويلية وفنية وجمالية، وهو مانع لأنه يمنع القراءات السريعة المبتسرة
التي لا تتغلغل إلى بناء النص ولا تغوص في أعماقه، فمثل هذه القراءة إنما
تستخرج من النصوص محاراتها وقواقعها، لكنها لا تصل إلى دررها وجواهرها.
لقد ركز الدكتور مصطفى على قراءة «التدبر» تركيزاً انطلق منه إلى حكم
خطير وصائب، حيث قال: «ولكن الذي مات بل في الحقيقة ولد ميتاً وجمهوره
آخذ في التناقص هو اجترار الكلام والفكر المعلب والرؤى القبلية وإخضاع التعامل
مع الإبداع إلى قوالب جامدة منغلقة لتصبح ذات صيغة سلطوية وتسلطية على الفكر
الموضوعي، ويكون سقف الفن عندها هو المقنن الجاهز والسلبي المستهلك» .
ويحذر الدكتور مصطفى من بعض أنواع القراءات التي لا تسبر غور النص
والتي تفتقد شروط قراءة «التدبر» وأنا معه في ذلك وخصوصاً تلك القراءات
المعجمية التي تهمل السياق بأنواعه وما يشير إليه النص، أي تهمل إشارات النص
ومنطوقاته ومخبوءاته، وهذه القراءات قراءة لغوية تصلح للدراسات اللغوية، لكنها
لا تصلح للدراسات النصية الجامعة، ففي هذه القراءة تغيب عن القارئ أوليات
التعامل مع الشعر والأثر الفني بعامة، فهي تمكنه من الإحاطة بالمستوى الإخباري
للنص، ولكنها تحجب عنه المستوى الإشاري وهو ما تزخر به اللغة الشعرية فيما
وراء المؤدى المباشر، والذي يكون نظام العلاقات الدلالية والإيقاعية في النص،
وهو الذي يجعل النص يفلت من الظرف المحدد، ويمتلك القدرة على البث المتجدد
بحيث يخاطب أجيالاً عدة «.
وليس كل نص بقادر على أن يفلت من الظرف المحدد، ويملك القدرة على
البث المتجدد مهما كان قارئه، ما لم يكن هذا النص نصاً عظيماً مثل القرآن الكريم
والحديث الشريف وبعض النصوص الشعرية الجيدة الخالدة، وإلا فإن هناك
نصوصاً مهما حاولت القراءة شحنها أو مهما كان التعامل معها لا يمكن لها أن
تستجيب لذلك لأنها نصوص ركيكة ضعيفة أو معادة، والقارئ مهما كانت قدرته
وملكته النقدية، أو حتى موهبته الإبداعية لا يستطيع بأي حال من الأحوال» نفث
الروح في نصوص ولدت ميتة «، كما أنه لا يستطيع بأي حال من الأحوال أن
يُنْشر الموتى، لكن إذا اجتمع النص الجيد والقارئ الجيدكان الإبداع نقداً والنقد
إبداعاً، وانفلت النص من ظرفه المحدد، ومن مناسبته الخاصة أو سياقه الضيق
إلى عالم واسع رحب يخاطب كل الأجيال ويخاطب كل الأمكنة ويخاطب كل
الأزمنة، وكذلك هو القرآن الكريم» والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب «.
إن لم نفطن إلى هذا الشمول في تعاملنا مع النص فإننا والحال هذه» نمارس
قتل روح النص في حق النصوص الحديثة والتراثية على السواء، هكذا مانزال
ندرس المتنبي، المادح، ومايزال الموضوع أي سيف الدولة وحروبه محور
شاعريته، ويغيب عنا مناخ القمم الذي يكشف عنه نظام العلاقات اللغوية في شعره، يغيب عنا جواب المتنبي على عصر تقهقر فيه العنصر العربي المسلم ... «
ومثل هذا يمكن أن يقال عن مرثية ابن مناذر لعبد الوهاب الثقفي، ومرثية ابن
الرومي لابنه محمد، فالقصيدتان وإن قيلتا في مناسبتين خاصتين لكن قراءتهما
يجب أن ترتفع بهما عن خصوصية المناسبة (السبب) إلى عمومية اللفظ (الفكر كله
والحياة كلها) ، إذ يمكن لهاتين المرثيتين أن تقرآ على أنهما تحتلان رؤية فلسفية
للموت والحياة وللحزن البشري والمأساة الإنسانية والتساؤل عن ما وراء الموت
وهذه النظرة لا يمكن أن تتأتى إلا بمحاولة استنطاق النصوص، واستكشاف دلالاتها
وإشاراتها» إن هذه القراءة تسير في اتجاهين متبادلين من النص إلى القارئ ومن
القارئ إلى النص، فبقدر ما يقدم النص للقارئ يضفي القارئ على النص أبعاداً
جديدة قد لا يكون لها وجود في النص «.
وأختتم قراءتي لما كتبه الدكتور مصطفى بكري السيد بإشارته إلى المشكلة
كلها، وهي مشكلة تنظيم الحياة ونشاطها، وهي مشكلة الفكر، فالمشكلة النقدية هي
جزء من هذه المشكلة، يقول الدكتور:» وأخيراً فإن مشكلة النقد ليست معزولة
عن مشكلة الفكر عندنا، بل إن مشكلة النقد هي مشكلة هذا الفكر أو هي وجه من
وجوهها «.
وفي العدد نفسه كتب الأستاذ محمود مفلح تحت زاوية» نقد على نقد «
موضوعاً اختار له عنوان» نقد ظالم.. ونقد نائم «، وهو عنوان مثير يبعث في
سامعه وقارئه أشتاتاً من الأسئلة، وأحسب أن أبسطها وأقربها متناولاً: ما هو النقد
الظالم وما هو النقد النائم؟ وهل هذا تصنيف نقدي جديد أم هو مصطلح جديد؟
لاسيما ونحن في عصر التصنيفات الجديدة والمصطلحات المستحدثة.. إن الجواب
على هذه التساؤلات وربما غيرها، وما تحدثه من إيحاءات وما تستدعيه من
تفسيرات أو تأويلات، سيظهر للقارئ بعد أن يكمل قراءة هذه المقالة النقدية، فما
يلبث أن يجد الأستاذ محموداً يعني بالنقد النائم النقد الذي يتناول النصوص الإسلامية
(حسب قوله) ، والنقد الظالم هو النقد الذي يدور في» فلك الحداثة والتغريب
والأشكال التعبيرية الجديدة التي يكتنفها الغموض ويشكل لحمتها وسداها اللغز
والأسطورة والسحر و (يفلسفون) لها ويؤولونها ويحاولون جاهدين أن يقنعوا القارئ
بأهميتها وريادتها «، أما أن النقد نائم في رأي الأستاذ محمود فلأن» صوت النقد
في صحافتنا الأدبية الإسلامية ومن أقلام كتابنا خافت جداً «.
وأحسب أن القارئ لما كتبه الأستاذ محمود الذي يعالج نوعين من النقد قائمين
اليوم، وإن كان أحدهما يظهر على الآخر (نقد إسلامي ونقد مستغرب) عليه قبل أن
يسلم للأستاذ محمود أو لا يسلم. أن يعرّف الأدب الإسلامي (أي النصوص
الإبداعية) وما مواصفات كونها إسلامية، وما مواصفات كونها غير إسلامية أو
مستغربة، وما هو المبدع وما نوع إبداعه، وهل للمبدع رسالة وما الفرق بين
الإبداع وبين التعليم، وهل للشكل أثر في كونه إسلامياً أو غير إسلامي، وهل
» الأشكال التعبيرية الجديدة «غير إسلامية؟ . كل هذه التساؤلات ومعها غيرها مثلها أو تزيد يجب أن يجاب عنها من قبل الأستاذ محمود أو من قبلي أو من قبل رابطة الأدب الإسلامي، وأتمنى أن تترك لرابطة الأدب الإسلامي.
وإذا كان الأدب الإسلامي حسب مفهومي الذي اقتبسته من القطبين (سيد
ومحمد) هو باختصار (كل تعبير فني جميل يعبر عن الإنسان وقضيته وعن الوجود
والكون والحياة، وما وراء الحياة، وعالم الغيب والشهادة، تعبيراً لا يخالف
ضوابط الإسلام وأصوله) ، لو أخذنا بهذا التعريف الأولي للأدب الإسلامي لوسعنا
دائرته وأغنينا مجالاته ونفينا عنه الجمود والضيق والقولبة الضيقة، وأخرجناه
» من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة «.
وأذكر أنني قلت في تعليق لي ذات ليلة في ندوة من ندوات الأدب الإسلامي
المباركة، تعليقاً على الأستاذين الفاضلين الدكتور عبد القدوس أبو صالح والدكتور
عبد الباسط بدر، حول رأيهما في تعريف الأدب الإسلامي:» أود أن ننظر إلى
الأدب العربي كله بعد الإسلام على أنه أدب إسلامي، وأن نخرج منه ما خالف
الإسلام على أنه أدب شذ عن منهج الأدب الإسلامي في مضمونه أو في تعبيره،
كما أنني لا أميل مطلقاً إلى تتبع بعض النصوص الأدبية في تراثنا الإسلامي
وإبرازها على أنها نصوص إسلامية، وأن ما سواها ليست كذلك «.
وأعتقد أننا لو أخذنا بهذا الرأي لوجدنا أن جملة نصوصنا الأدبية هي نصوص
إسلامية حتى إذا ما عرضناها على التعريف الآنف، وجدناها تندرج تحته بكل
تواءم وتناغم، ولو أخذنا مثلاً شعر أبي نواس برمته وجملته لوجدنا أن أكثره شعره
يندرج تحت ذلك التعريف للأدب الإسلامي، وإنما خرج من ذلك التعريف إنما هو
شاذ يمثل الأقل، ومثله يقال عن أبي تمام وشعره والتجديد في الشعر شكلاً أو
مضموناً ليس بالضرورة أن يكون غير إسلامي كما أن عدم التجديد في الشعر شكلاً
أو مضموناً ليس بالضرورة أن يكون إسلامياً.
وأحسب أن من الأخطاء التي يقع فيها المنظرون للأدب الإسلامي أن يعتبروا
بعض الأشكال الشعرية الجديدة، أو بعض التعبيرات الشعرية الحديثة التي تحاط
حيناً بالغموض وحيناً آخر بالإبهام أدباً غير إسلامي، أو أدباً يتعارض مع الإسلام،
والنظر هنا والحكم على كونه إسلامياً أو غير إسلامي يجب أن يتوجه إلى المحتوى
والمضمون، ولقد كفتنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه مؤنة ذلك كله وكأنها
تجيب عن هذا التساؤل بقولها:» الشعر كلام (كسائر الكلام) حسنه حسن وقبيحه
قبيح «.
ولا أكتم أخي الفاضل الأستاذ محموداً أنني في يوم من الأيام كنت مستوحشاً
من بعض النصوص الجديدة ولاأزال أستوحش من بعضها لأنني كنت قد جئت إليها
بتصور مسبق على أنها صورة من صور الهدم، أو وعاء من أوعية الغزو الثقافي، أو وسيلة من وسائل التغريب والاستلاب (وهكذا ينظر في أغلب الأحيان إلى كل
جديد وخصوصاً في المجتمعات المحافظة مثل مجتمعنا) ، بيد أنني بعد أن وطئت
حماها، وخضت حمأتها، وحاولت أن أعقد نوعاً من الألفة بيني وبينها، بدلاً من
الوحشة، افترّت لي عن بعض محاسنها وأسفرت لي عن بعض مناقبها، وعرفت
أن هذا النوع من التعبير ليس بالضرورة أن يكون متمرداً على القيم الإسلامية،
وإنما هي مسألة صراع الأجيال والاتصال الحضاري الرهيب والتثاقف المتسارع
(وإن كنا الأضعف في حلبة الصراع الحضاري والتثاقفي) .
أقول هذا لأنني قد وجدت في بعض هذا النوع من الشعر بعض المضامين
الخيرة وخصوصاً موضوع» الهوية «، والبحث عن الذات وسط هذه الانكسارات
وإزاء هذه الانتكاسات والمحن، وأحسب أن محمداً الثبيتي واحداً من هؤلاء الشعراء
في قصيدتيه:» فواصل من لحن بدوي قديم «و» صفحة من أوراق بدوي «،
وما يقال عن الثبيتي يقال عن بعض من الشعراء غيره، ومنهم الشاعر عبد الله
الصيخان في عدد من قصائده التي احتواها ديوانه» هواجس في طقس الوطن «
كقصيدته المعنونة» الحجرة «، وقصيدته» فاطمة «، وقصيدته» هواجس في
طقس الوطن «، ومنهم الشاعر عبد الله الزيد في» أغنية للوهج «و» وجع
المسافة بين دمك وثلاجة الموتى «، في رثاء أخيه محمد، ومنهم الشاعر عبد الله
الخشرمي في قصيدته» وصايا النخيل «، ولو أخذنا الشاعر الكبير عبد الرحمن
العشماوي على أنه من شعراء الأدب الإسلامي الشباب فسنجد شعره ينضح إسلاماً
في شعره العمودي المألوف أو في شعره الجديد» بائعة الريحان «على السواء مما
يبرهن على أن الشكل التعبيري الجديد ليس بالضرورة أن يكون موحشاً أو أن يكون
وعاء خطيراً يتنافى والأدب الإسلامي.
وبعد: فإن لم ننتبه إلى هذا فإننا سنخنق الأدب الإسلامي في بوتقة ضيقة،
ونجعله في حيز ضيق يفقد فيه نموه وانطلاقته، وربما أدى ذلك إما إلى عقمه وإما
إلى موته.. وأرجو ألا تكون بعض مواقفنا المتشددة في فهمنا للأدب الإسلامي،
وسجنه في حيز الوعظ والتعليم والتعبير المباشر، هو ما حدا ببعض النقاد أن
يتجاوزوا هذه النصوص إلى نصوص أخرى وصفها» محمود مفلح «تارة بأنها
» تدور كلها في فلك الحداثة والتغريب والأشكال التعبيرية الجديدة التي يكتنفها
الغموض ويشكل لحمتها وسداها اللغز والأسطورة والسحر «ويفلسفون» لها
ويؤولونها ويحاولون جاهدين أن يقنعوا القارئ بأهميتها وريادتها، وتارة أخرى
يلحى باللائمة على نفر من نقاد الحداثة والتغريب (كما أسماهم) بأنهم يقدمون
نصوصهم التي يقرأونها ويتناولونها بالدراسة «إبداعية ومعاصرة ومهمة وجديرة
بالقراءة ... إلا النصوص الإسلامية! ! ! أو ما يقترب منها، فإنها في زعمهم
فقيرة متخلفة، فجة، تغلب عليها الخطابية والسطحية، وهي تجافي روح الفن،
وتتنافى مع الحساسية الجديدة والرؤية المعاصرة» .
كما يسوء الأخ الأستاذ محمود مفلح التعاون الوطيد بين هذا النوع من النقاد
تعاوناً يرفع بعضهم من شأن بعض، ويدعو بعضهم لبعض حسب قوله: «وإن
المتأمل كذلك فيما يكتب من نقد هنا وهنا لابد وأن يلاحظ أن ثمة اتفاقاً وإجماعاً على
توجه نقدي معين، وأن ثمة جسوراً تقام بين هذا الناقد وذاك، فكأن هذا هو
الصوت، وذلك هو الصدى في تناغم عجيب واتفاق يبعث على الدهشة» .
أقول للأخ محمود وغير محمود: إن التنافس بين الاتجاهات النقدية
المتصارعة لا يحسمها مثل هذا التشكي وذلك التظلم، وإنما يحسمها العمل فلكل
منتداه ولكل رابطته، وأعرف أن للأدب الإسلامي رابطة تجمع كثيراً من أدباء
العالم الإسلامي عربه وعجمه ومبدعيه وناقديه، فالحلبة ميسرة للجميع وإن
الحصيف المبدع المجدد هو من سيظهر في النهاية على صاحبه، وكما كان الشعراء
في عهد بني العباس يميت بعضهم بعضاً وحمل بعضهم ذكر بعض بما يقدم للساحة
الأدبية من إبداع جديد، فإن النقاد والمبدعين في هذا العصر يظهر بعضهم على
بعض، ولا أشك لحظة واحدة في أن المبدع الذي يلمس جراحات أمته وواقعها،
ويحقق هويتها من خلال رؤية جديدة أو تعبير جذاب، هو الذي سيبقى وغيره
سيذهب جفاء، وما الشاعر الإسلامي الدكتور عبد الرحمن العشماوي إلا مثل أسوقه
للشاعر المتألق المتجدد ذي الصيت الذائع.
ويجمل بي وقد أطلت الوقفة مع الأستاذ مفلح أن أختم قراءتي لمقالته بتعقيب
بسيط على قوله: «واستعرض إذا شئت الصفحات الأدبية الإسلامية في أي
مطبوعة تشاء، فإنك قل ما تجد دراسة أدبية جادة عميقة ذات رؤية نقدية واضحة
تنسجم مع قيمنا الحضارية وتعطي لهذا العمل أو ذاك حقه، ولن تجد كذلك توجهاً
نقدياً عاماً واضح المعالم، ولن تجد أيضاً وأقولها بمرارة أسماء نقاد جادين دؤوبين
مخلصين لهذا الفن أو ذاك رغم أن النتاج الإسلامي معافى ومقروء ولا يخلو من
جماليات تستحق أن يتوقف عندها النقد» ، فلمَ هذا! أهو أمر يتعلق بالنتاج
الإسلامي أم هو أمر يتعلق بالنقاد أنفسهم! !
أما القسم الإبداعي فسأتوقف ملياً عند بعض القصائد وعند قصة واحدة وأما
القصيدة التي أود أن أقرأها على عجل فهي قصيدة الدكتور صالح الزهراني بعنوان
«رتابة» ، وهذه القصيدة سأعدها قصيدة إسلامية على أن التعليم فيها أو المباشرة
ليست واضحة، وإنما أعدها إسلامية لأن موضوعها يعالج أمراً من أمور هذه الأمة، وموضوع القصيدة الرتابة في كل شيء والزيف في كل شيء، وأن كل شيء هو
ذلك الشيء لم يتغير ولم يتحول، وأن الخطأ هو الخطأ والكذب على الشعوب هو
الكذب، وأن الهزيمة نصر وأن الفتح رقص وغناء ومائدة.. موضوع يصلح أن
يكون إسلامياً وغير إسلامي، بمعنى أن مثل هذا الموضوع لا يصنف إسلامياً كما
أنه لا يصنف غير إسلامي، أقصد من هذا أن أعود إلى بعض ما أسلفت حين
قراءتي لما كتبه الأستاذ الفاضل محمود مفلح، وأبرهن على أن الأدب الإسلامي قد
يتسع حتى يدخل فيه ما لا يخالفه، لكن ليس بالضرورة أن يكون موضوعه إسلامياً
صرفاً أو تعبيراته تعليمية وعظية.
إن الشاعر الزهراني شاعر يملك قدراً هائلاً من الإبداع مارسه في هذه
القصيدة الجميلة، وآية توفيقه أنه جعلها أو أنها جاءت على بحر مجزوء قوي
الإيقاع (رجز) وقافية متحركة ساكنة، فالتاء المربوطة ساكنة وما قبلها مفتوح حتى
يتلاءم البحر مع القافية، لقد عبر الشاعر الزهراني عن ما يدور في حاضر هذه
الأمة وما يقدم لها من إعلام وزيف أصبح مستهلكاً ومكشوفاً، أي لم يعد ينطلي على
أحد إذ أصبح هذا الزيف ديدناً أي «رتابة» ، وحاول الزهراني أن يحدده بتسعين
سنة، ولا أدري بالضبط لماذا «تسعون حجة» والزمن هنا لا يهم تحديده فالقصيدة
ليست وثيقة تاريخية تؤرخ لبداية خمود ثورة الوعي، والمهم أن هذه الثورة خامدة
وبرهان هذا الخمود:
يبدأ العرض ميتا! ... فوق أشلاء صامدة
البدايات واحدة ... والنهايات واحدة
ويعود هذا المشهد في كل مرة فيبدأ العرض ميتاً والبداية واحدة والنهاية واحدة، والأنكى من ذلك أن:
بطل العرض واحد ... وقصة العرض واحدة
بعد يوم من الضنا ... والوجوه المزايدة
يأتي العرض لكن من مُخْرج واحد ومن عارض واحد ومن قصة عرض
واحدة، فهل يوقظ الجماهير الراقدة بإعلان الفاتح
عن فتواحات جيشه ... عن قواه المجاهدة
أنها شقت المدى ... واستباحت وسائده
وأراقت دم الدجى ... وأضاءت فراقده
والجماهير تدرك هذا الزيف لأنها اعتادت عليه، لكن شاعر الهوى يتهجى
قصائده فلا يحرك ساكناً في هذه الجماهير الجامدة ولا يوقظها لأنها:
عرفت كيف ينتهي
عرفت كيف يبتدي
أصبح الزيف قاعدة! !
مسكين هذا الفاتح الذي تنتهي فتوحاته بالرقص والغناء والتطبيل والمائدة دون
أن يتفاعل معه جمهوره، لأن جمهوره يعرف زيفه وخداعه، وأن هذا الفصل منذ
تسعين حجة يعود ويعود وتحفظه الجماهير التي أصبحت جامدة لا يحرك فيها ساكناً، وهنيئاً لهذه الجماهير النائمة التي لا تتحرك، ولعل الصحوة تعقب هذا الرقاد لأن
الرقاد هنا والجمود هنا علامة من علامات إدراك الزيف وإدراك الزيف هو أدل
دلائل اليقظة.
أما القصيدة الثانية فهي «دمعة على أطلال سربنتسا» للشاعر فيصل محمد
الحجي، وهي قصيدة معبرة حمّل فيها المسلمين مسؤولية ما حدث لهذه المدينة من
حصار وقصف شديد، إذ لم يحفظوها كما يحفظ الحر الحرة بالدم، وأراد أن يثير
فينا النخوة وحمية الإسلام، وحق الأخوة وواجب النصرة، بتعييرنا من طرف خفي
بتقاعسنا، ولمح لنا بأننا لم نفعل كما فعل هارون والمعتصم بالروم وتذكيرنا
بتاريخنا هنا ليس يقصد منه الشاعر إعلامنا بأن هارون أو المعتصم قد هبا يوماً
لنجدة مسلمة أو مسلم استغاث بهما أو احتاج إلى عونهما، فهذا خبر نقرأه في
مقرراتنا المدرسية الأولى، لكنه أراد أن يعيرنا بتقاعسنا، وأن يعقد مقارنة بين
ضعفنا الراهن ووهننا القائم، وبين قوة وشهامة أسلافنا، فيذكر (هارون الرشيد)
مقابل (نقفور) حيث يجعل من الرشيد رمزاً للقائد المسلم وللرئيس المسلم ذي النجدة
والشهامة الذي يشعر بأنه مسؤول أمام الله ومحاسب على ذلك إن فرط بعدم حماية
مسلم أو مسلمة، حتى ولو كانت في بلد غير إسلامي، ويجعل من من «نقفور»
رمزاً للصليبي الغربي المعتدي على حرمات المسلمين وأوطانهم، فإن كان الرشيد
حياً أدبه وعلمه كيف تصان حريات المسلمين وأراضيهم، وإن كان الرشيد ميتاً
صال «نقفور» وجال وانتهك الحرمات، وجبا الأموال منا بطرق متعددة،
وعجزنا أن نفعل شيئاً رغم كثرة عددنا وعتادنا، ووجدنا أن الملجأ من هذا كله إلى
مجلس الأمن نعرض فيه قضيتنا، وجعلنا منهم الخصم والحكم في الوقت نفسه.
والقصيدة في جملتها قصيدة معبرة جياشة تصلح أن تلقى، ولو ألقيت لكانت
أشد أثراً على المتلقي من مجرد قراءتها، على أن هذا الأثر قوي على قارئها،
وهي قصيرة تحمل رسالة خيرة، ونقول لشاعرنا الحجي:
لقد أسمعت لو ناديت حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادي
وليسمح لي الشاعر محمد البراهيم على عدم قراءة قصيدته «ذكرى العبور»
رغم استحقاقها للدراسة والقراءة، فهي قصيدة لا تقل عن أخواتها إن لم تفق بعضاً
منهن، لكن ضيق الوقت لم يسمح لي بذلك من ناحية وشعوري بأن القصيدة تحتاج
إلى وقفة أطول تنصفها، وتقدمها للقارئ تقديماً يليق بها من ناحية أخرى، ولعلي
في قادم الأيام أتمكن من قراءتها.
أما قصة عبد الحليم البراك فقد كتب قصة طريفة عنوانها «شيء لم يحدث»
اختصر كل أحداثها في هذا العنوان السهل، والقصة واقعية عرضها عرضاً فنياً
موفقاً ليس فيها تكلف بعض القاصين، ولم يحاول أن يدخل فيها فضولاً كما يفعل
بعضهم، وإنما حبكها حبكة محكمة، وكل حلقة من حلقاتها تستطيع أن تكملها بقولك
«وكأن شيئاً لم يحدث» .
إن بطل هذه القصة وإن كان يرقب جدار صمت قد امتدت قامته حتى الأفق
يثنيه هذا الجدار من أن يعانقه، فهناك «فتحة علوية تكاد تختفي في ثنايا هذا
الجدار الشامخ.. ثمة نور ضئيل منها» ، وعلى صعوبة الأمر حيث الجدار يعانق
الجدار، وهذه السلسلة الحديدية التي لم تستطع أن تثقل أنفاسه الحرة داخله «، فإن
هذا لا يمنع من الفرحة» وكأن شيئاً لم يحدث «.. إن هذه القصة تروي أحداث
شاب محاصر لكنه لا يستسلم لأنه ينظر إلى كل شيء دون ما يأبه لعواقبه» وكأن
شيئاً لم يحدث «.
أن القصة لا تحتاج إلى تأويل أو تخرص، وإن كان القاص حاول أن يشغلنا
عن تقريرية القصة ببعض الإبهام مثل قوله:» ألقها «دون معرفة عائد الضمير،
وهذا مما يشوق القارئ لمحاولة معرفة على ماذا يعود الضمير، ومثل» ثمة جموع
وقحة «ما هي هذه الجموع؟ إن الإجابة على هذه التساؤلات التي طرحها القاص
وهي التي جعلت من قصته عملاً أدبياً جيداً تظهر في مكان آخر حين» يتمخض
عن انفجار مدو يحصد أربعة من ذوي الأكتاف المذهبة فأكثر من عشرة قد زينت
أذرعهم الوقحة بشرائط خضراء «، هؤلاء الوقحون يسميهم المحلفون والمحاكمون
بأنهم» أربع حمامات «، ولا يخفى ما لهذه المفارقة من أثر فني رائع.
كل هذا يحدث لكنه بالنسبة له» كأن شيئاً لم يحدث «، إن لدى القاص ملكة
فنية استطاع من خلالها أن يوظف عبارة» وكأن شيئاً لم يحدث «في أربعة
سياقات من القصة، كل عبارة توحي بمعنى جديد وبمعنى مغاير، إن هذه الكلمة
السحرية» وكأن شيئاً لم يحدث «هي كل شيء في هذه القصة، هي عنوانها وهي
بدايتها وهي نهايتها، وهي عقدتها، وأحسب أن هذه الكلمة السحرية» وكأن شيئاً
لم يحدث «تكفي الأخ القاص عبد الحليم البراك أن تضعه في عداد القاصين ذوي
الطرح الملتزم والقدرة الفنية.
وأخيراً فلقد حرصت على أن أتناول قصة الدكتور الحضيف» حدث في
السوق «إلا أن الدكتور مصطفى بكري قد قرأها قراءة لا أرى عندي عليها من
مزيد.