مجله البيان (صفحة 1750)

هموم ثقافية

أقوال منسية حول «التغريب» [*]

د. أحمد إبراهيم خضر

منذ العشرينيات من هذا القرن والباحثون الغربيون المتخصصون منشغلون

بقضايا تغريب العالم الإسلامي بعامة، وما يسمونه بمنطقة الشرق الأوسط بخاصة

ولا يكاد يخلو أي كتاب أو أي مقالة تتعرض لحياة المسلمين من إشارة هنا وأخرى

هناك لهذا التغريب، إلى الدرجة التي حدت بهؤلاء الباحثين إلى القول:

«إن مظاهر التغريب عند شعوب الشرق الأوسط مشاهدة تماماً وبدرجة

كافية وإنه لمن السهل عليك أن تضع قائمة طويلة توضح لك كيف أن هذه المظاهر

التقليدية التي كانت سائدة منذ مائة أو مائة وخمسين عاماً قد اجتاحتها رياح التغيير،

واستبدلتها بقيم أدخلها الغرب» .

لم يكن تغريب المسلمين مسألة متروكة لمجرد الاحتكاك بين الثقافتين

الإسلامية والغربية، ثم متابعة آثار هذا الاحتكاك على الإسلام والمسلمين، إنما

كانت سياسة موجهة ومدروسة تستند إلى تنظير خاص، يعتمد في جزء كبير منه

على تجارب الاحتكاك بين الإسلام والغرب في الماضي، وعلى تجربة الثورة

الصناعية وما تلاها من آثار على البناء الاقتصادي والاجتماعي والتقني الغربي، ثم

على تحليل مسألة اتساع الهوة بين هاتين الثقافتين بعد الثورة الصناعية؛ بسبب

الاستقرار الثقافي في بلاد المسلمين، وتلك التراكمات التي أخذت مكانها في الغرب.

نظرية ومكاسب:

استندت عملية تغريب المسلمين إلى ما يسمى بنظرية (تشويش الأحكام

القيمية) أو إيقاع الاضطراب في هذه الأحكام، وتقوم هذه النظرية على الأساس

التالي:

«هناك توازن وتوافق بين عناصر ثقافة المجتمع التقليدي المستقر جيداً،

بمعنى أن القيم التي تحكم وتسود هذا المجتمع تتسق وتؤيد واقعه المعاش؛ ولهذا

تتميز ثقافة هذا المجتمع بالتماسك والتوازن الداخلي.

ويمكن للواقع الثقافي أن يعير وأن يستعير عناصر من ثقافة أخرى مخالفة

بصورة أكثر سرعة من استعارة القيم الثقافية، ولهذا يصعب حدوث تغير في القيم

في الوقت الذي يسهل فيه حدوث تغير في الواقع.

وعندما يحدث اتصال بين ثقافتين مختلفتين، فيدخل واقع جديد إلى إحداهما

يمكن هنا أن يتحطم التوازن القديم، وتتغير القيم الثقافية بتغير الواقع الذي كانت

تحكمه وإن احتاج الأمر إلى بعض الوقت، بسبب هذه الصلة العاطفية التي يحيط

بها المجتمع ثقافته الخاصة، ومقاومته لإدخال أي محتويات ثقافية غريبة أو جديدة.

وهذا لا يعني بالطبع أن مكونات الواقع في ثقافة ما يمكن أن تزرع في ثقافة

أخرى دون أن تسبب تغيرات في قيمها، أو أن قيم ثقافة ما يمكن أن تفرض على

الثقافة الأخرى دون أن تحدث تغيرات في مكونات هذه الثقافة؛ لأن التناسق المحكم

والاعتماد المتبادل بين مكونات الواقع والقيم الثقافية يجعل من غير الممكن أن تدخل

تغيرات في واحدة منها دون أن تحدث تغيرات في الأخرى» .

بهذه النظرية دخل الغرب إلى حياة المسلمين ساعياً بمختلف طاقاته الثقافية

والعسكرية والاقتصادية والتقنية إلى إدخال واقع جديد يخص ثقافته هو على ثقافة

المسلمين؛ ليحطم التوازن القائم بين واقعها وقيمها، ويغير من قيمها حتى تصبح

مناسبة للواقع الجديد الذي أدخله عليها، ولقد حقق الغرب هنا مكسبين مهمين:

أولهما أنه بتحطيمه لهذا التوازن المشار إليه أوجد هوة عميقة بين الإسلام والمسلمين، ودمر الصلة العاطفية التي تربط المسلمين بإسلامهم والمكسب الآخر: أنه وهو

يخترق هذه الهوة ليملأ الفراغ المترتب عليها حرك الأمور بالطريقة التي تمكنه من

تحقيق مكاسب مادية ضخمة على حساب هذا الكيان المنهار.

سنقتصر في مقالتنا هذه على عرض وتحليل ثلاثة من عناصر هذا الواقع

الجديد الذي أدخله الغرب على حياة المسلمين فدمر التوازن القائم في ثقافتهم.

أولا صنع هيبة الغرب:

لم يكن هذا الواقع موجوداً من قبل، كانت العلاقة بين المسلمين وغيرهم تقوم

على أساس «الإسلام والكفر، وجاء الغرب وأدخل واقعاً جديداً.. فبعد أن تمكن

من إيجاد موطئ لأقدامه في بلاد المسلمين، أحاط نفسه وأهله بهالة من الهيبة

والاحترام، وفرض نفسه على النظام الاجتماعي القائم في بلاد المسلمين، وتقلد

الوظائف القيادية، وساهمت حكومات بلاد المسلمين العلمانية في تدعيم هذه الهيبة؛

بوضع أبناء المستعمر في مواقع قيادية مهمة وسمحت لهم بالحضور إلى مناسبات

وطنية وغير وطنية، لا يدعى إليها عادة إلا كبار رجالات الدولة وعلية القوم فيها.

وزاد الغرب من هيبته في عيون المسلمين بما أدخله عليهم من صناعات

وتكنولوجيا ومعرفة في ميادين مهمة انفرد بها، وكان نتيجة ذلك أن ظهر الغربيون

للمسلمين على أنهم هم الأسمى وهم الطبقة العليا.

وهنا تغيرت القيم فأصبح الغرب وأهله هدفاً مرغوباً يسعى بعض المسلمين

للانتفاع به، كما ينتفعون بصناعاته ومنتجاته، وسهلت هذه الهيبة عند المسلمين

طريق محاكاة أسلوب الحياة والسلوك والأخلاقيات والاتجاهات الغربية، ثم جاء

الانهيار الكبير حينما قلد المسلمون الغربيين في فتورهم نحو دينهم وعدم مبالاتهم به

وهو عين ما كان يهدف إليه الغرب.

يقول (روفائيل باتاي) أستاذ علم الإنسان في (دوبسيي كوليج) بفيلاديلفيا

وجامعة كولومبيا في الخمسينيات من هذا القرن:

» ... بينما تكشف لنا البدايات التقنية للتغريب عن هذا النجاح العالمي الذي

حققته، تأتي هناك عوامل أخرى أبرزها (نظام الهيبة الجديد) الذي تسرب الغربيون

عن طريقه إلى قطاعات الناس المختلفة، وتمكنوا من السيطرة والرقابة على

الوظائف المهمة، وفرضوا أنفسهم على النظام الاجتماعي، وظهروا للناس على

أنهم هم الأسمى وهم الطبقة العليا.

ليس من السهل أن نحلل المكونات المتعددة التي تصنع الهيبة الغربية، لقد

كان عنصر القوة هو العنصر الأكثر أهمية في أيام الاستعمار الأوربي، إلا أن هذا

العنصر قد استبدل الآن بمزيج متعدد المكونات: مثل الثروة، وتملك الآلات

والمعدات الغربية ذات الهيبة، أو المعرفة الخاصة في ميادين ذات أهمية متزايدة

كالطب والزراعة وغيرهما، وشغل مراكز تحظى بالثقة والنفوذ تمنحها الحكومات

المحلية للغربيين، والسماح لهم بالحضور الحر في مناسبات معينة مثلما يسمح تماماً

وبدرجة متساوية للقيادات العليا في الدولة. إن الهالة والهيبة التي تحيط بالغربي

غلفت ثقافته تماماً، فأصبح اكتساب الثقافة الغربية نتيجة لذلك هدفاً مرغوباً فيه

اجتماعياً يفوق بدرجة كبيرة الانتفاع المعترف به لمنتجات هذه الثقافة «.

وفي معرض حديثه عن تخلي المسلمين عن مناهجهم التقليدية في الطب

واتباعهم لمناهج الطب الحديث يقول (باتاي) في وثيقته:

» إن البحث في الأسباب التي أدت إلى التغيرات في الاتجاهات العقلية التي

سادت منذ قرون، لا يجعلنا نرد هذه التغيرات العقلية إلى الاهتداء المفاجئ إلى

التفكير الأكثر عقلانية ولكن إلى (الميل للغرب) .. من أين أتى هذا الميل؟ !

تكمن الإجابة على هذا السؤال في هذه الهيبة للغربيين وثقافتهم، إن الهيبة

التي يتمتع بها كل شيء غربي في عيون شعوب الشرق الأوسط أوجد فيهم نزوعاً

إلى محاكاة كل الطرق الغربية، إنه أدى إلى رغبة خانعة ليس فقط في الحصول

على المعدات الغربية، ولكن رغبة في تقليد السلوك والاتجاهات الغربية كذلك. لقد

قبل الطب الغربي ليس لأنه أظهر أفضلية ولكن لأنه طب غربي، تبنى سكان

الشرق الأوسط ازدراء الغرب للممارسات السحرية وغير العلمية، ليس لأن ذلك له

قيمة فحسب، ولكن لأنه أمر مؤكد جاء به الغرب (المهاب) «.

وعن (اللامبالاة) وعدم الاكتراث بالدين التي قلد فيها المسلمون الغرب يقول

(باتاي) :

» ... وهنا ظهر على المسرح (الغربي) المحمل بالهيبة والذي يحتل وضعاً

أعلى ويحمل ثقافة تستحضر الرغبة في محاكاتها: أن هؤلاء الأجانب لا ينتمون

فقط إلى دين مختلف، ولكن اتجاهاتهم نحو دينهم المسيحي كانت فاترة فكان من

الطبيعي أن يقلد هؤلاء المعجبون بالطرق الغربية من مجموع ما قلدوه الفتور نحو

الدين واللامبالاة به، فأظهروا عدم الاهتمام بدينهم هم «.

ثانيا علمنة الأسرة:

ينظر الغربيون إلى الأسرة المسلمة على أنها أسرة ممتدة، والأسرة الممتدة في

المصطلحات الغربية هي الأسرة التي تتكون بنائياً من ثلاثة أجيال أو أكثر، وتضم

الأجداد وأبناءهم غير المتزوجين والمتزوجين (أو بناتهم) وتضم أحفادهم كذلك.

سعى الغربيون نحو علمنة الأسرة المسلمة، وإلى أن تكون الأسرة الغربية

وأشكالها الاجتماعية هي النموذج الجديد الذي يجب على المسلمين الاقتداء به. عمل

الغرب على فصل الأسرة المسلمة عن الدين، وذلك بكسر قبضة الدين من تلك

الأسرة الممتدة وتقليص اعتماد الفرد عليها، والقضاء على تكامله معها وتدمير

سلطة الأب على أولاده، وانفلات الأبناء من الأسرة؛ حتى ينفلتوا من الجو الديني

العام الذي يحيط بالأسرة، والنظر إلى كل ذلك على أنه ماضٍ يجب أن يرفض.

يقول (باتاي) :

» في الوقت الذي كان فيه التأثير المباشر للبعثات التنصيرية على الحياة

الدينية في الشرق الأوسط تافهاً، تميز الغرب بموقفه البارد تجاه الدين لأن الدين في

الشرق الأوسط في ظل الظروف التقليدية هو طريقة كلية للحياة: التنظيمات المهنية

هي تنظيمات دينية، ارتداء الزي المحلي أمر يقره الدين الطب والتعليم مهنتان

دينيتان، سلطة الدولة نفسها تقوم على الدين، ليس هناك ترتيب هرمي في الإسلام

كما هو في الكنائس المسيحية، وليس هناك قسيس أيضاً، العديد من سكان الحضر

منتظمون في دوائر دينية، والكثير من العائلات سواء أكانت في الريف أو الحضر

تحظى بتأييد المؤسسات الدينية، أما أكثر المؤسسات التي تمسك بقبضتها على الفرد

فهي الأسرة الممتدة، اعتماد الفرد على أسرته وتكامله معها مسألة عالية الأهمية في

ثقافة الشرق الأوسط إلى درجة أنها تعد ثقافة القرابة، الأسرة هنا مؤسسة دينية

يعضدها الدين، أي أن الدين يعضد الأسرة، وهي بدورها تعضد الدين.

ولما جاء التغريب أحدث انهياراً في السلطة الأبوية، وحطم الأسرة الممتدة

وغيّر نظام الاقتصاد العائلي بسبب حركة الهجرة من القرية إلى المدينة إلى نظام

اقتصادي يقوم على علاقات غيرشخصية، أصبحت الأسرة الغربية وأشكالها

الاجتماعية نموذجاً يحتذى به بين الطبقات العليا والوسطى، ولم يترتب على هذه

الأمور مجرد تغير جوهري في طبيعة الحياة الأسرية ذاتها فقط، وإنما ترتب عليها

أهم من ذلك كله وهو (علمنة الأسرة) وابتعادها عن الدين، فحينما ينفلت الشاب من

قبضة أسرته كان يخلف وراءه هذا الجو الديني الهام الذي كان يحيط به فيصبح

رفضه لهذا الجو جزءاً من رفضه للماضي، ولهذه الأسرة التي تحكم قبضتها عليه.

ثالثا الحياد الموجه للمشروعات الاقتصادية والفنية الغربية:

هناك الكثير من المشروعات الاقتصادية والفنية الغربية العاملة في البلاد

الإسلامية مهمتها الأساسية استنزاف خيراتها وربطها بالغرب، ولقد حرص

الغربيون وهم يدخلون هذا الواقع الجديد إلينا هذه المشروعات على تجنب الخوض

المباشر في أي موضوعات تتعلق بالعقيدة الإسلامية، وتركوا هذه المهمة للبعثات

التنصيرية بالرغم من تسليمهم بمحدودية عائدها وللشيوعية لكنهم أي الغربيين أولوا

الشيوعية اهتماماً وثقلاً أكبر، فهي في نظرهم التهديد الحقيقي الخطر على عقيدة

المسلمين الذي يمكن أن يطيح بتوازنهم الاجتماعي الثقافي، وقد تركزت الجهود

على إقناع المسلمين بأن الشيوعية لا تتطابق مع الإسلام فقط بل إنها التعبير

الحقيقي للشكل النقي من الإسلام في أصوله الأولى! ولا يهم هنا أن يكون نظام

الحكم القائم في بلاد المسلمين شيوعياً بقدر ما يهم تدمير بنائهم الاجتماعي الثقافي

الكلي.

يقول (با تاي) :

«تميز مدخل الغرب في الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة بصفة خاصة

بالاعتناء الشديد بتجنب الخوض في أي قضايا أيديولوجية، والتركيز على الناحية

الفنية فقط بالنسبة للمشروعات الاقتصادية والفنية وما هو على شاكلتها، دخلت هذه

المشروعات إلى الشرق الأوسط عبر الولايات المتحدة والأمم المتحدة ومعها توجيه

أساس بعدم التدخل في القيم والأيديولوجيات الخاصة بالبلاد.

لكن الأمر يختلف بالنسبة للبعثات التنصيرية، فليس أمر الكف عن التدخل

الأيديولوجي موضع حرية اختيار هنا، إلا أنه يجب أن يوضع في الاعتبار رد فعل

المجتمع الإسلامي للمحاولات المكشوفة لتنصيره، لقد نجحت البعثات التنصيرية في

علاج عشرات الآلاف من المسلمين، كما علمت الآلاف من مرضى الأطفال

المسلمين، وربما أثرت بسلوكياتها ومثلها على النظرة الأخلاقية للعديد من المسلمين، ورغم ذلك فإن الذين تحولوا إلى النصرانية قلة قليلة. إن الدين في الشرق

الأوسط يشغل وضعاً محورياً في بنائه؛ ولهذا يعتبر التنصير عند المسلمين ردة

يترتب عليها أن ينفصل المسلم إذا تنصر عن الأسرة والمجتمع والقيم الثقافية

ويتعرض لنبذ أصدقائه والمحيطين به، وأهم من ذلك كله أن اعتناق الإسلام اعتقاداً

ثابتاً لا يهتز والنظرة إليه على أنه الدين الحقيقي يعني أن الردة عنه غباء كامل.

رابعا تغريب النخبة:

عمد الغرب بهذا الواقع الجديد إلى ضرب التوازن المستقر الذي أوجده الإسلام

بين طبقات المجتمع المختلفة وإلى تمزيق الشرايين الحيوية التي تجري بين

الطبقات العليا والدنيا وإيجاد تناقضات بينها، إلى أن ينتهي الأمر بأن تنظر الطبقة

العليا إلى الطبقة الدنيا على أنها جماعة من المتخلفين البدائيين الذين يمثلون ما

يسميه الغرب» بالوجه الفقير لثقافة الإسلام التقليدية «.

وحتى تتسع الهوة بين هاتين الفئتين عمد الغرب إلى ما يلي:

1- تغريب واحتضان الطبقة العليا التي تملك المال الوفير والفرص المتاحة

للسفر والاتصال بالغرب وشراء منتجاته وتبني نمط حياته، ثم استغلال الدافع

الكامن عند الطبقة الدنيا التي تسعى إلى تسلق السلم الاجتماعي لتكون قريبة من

الطبقة العليا بإتاحة الفرصة لها لاكتساب الخاصية التي تفردت بها هذه الأخيرة.

2- تدمير الجسر الثقافي الذي يربط بين الفئتين السابقتين بتحويل الطبقة

العليا إلى جماعة من المستهلكين الشرهين لكل ما هو مستورد وقادم من الغرب،

بعد أن كانت هذه الطبقة تستخدم أحسن وأجمل وأفضل القوى الثقافية المتوافرة في

الأرض الإسلامية، لقد كان هذا الاستخدام في حد ذاته أساساً من أسس توحد الطبقة

العليا في المجتمع مع باقي الطبقات.

لم يكن تغريب الطبقة العليا إلا أحد أوجه سلسلة الواقع الجديد الذي أراد به

الغرب ضرب التوازن الاجتماعي المستقر في البلاد الإسلامية، وهناك وجهان

آخران: أولهما إيجاد طبقة جديدة من العمال الحضريين المحرومين، ولقد جندت

هذه الطبقة من المدن ومن الريف؛ لدفع عجلة التصنيع الفجائي والمفروض الذي

أدخله الغرب على عالمنا الإسلامي، لقد عاشت هذه الطبقة ظروفاً صعبة وقاسية

ولم يكن المهم أن تعيش هذه الظروف فقط، وإنما كان المهم أن تحرم من

الإشباعات العاطفية والروحية التي يمنحها الدين والأسرة الممتدة لأفرادها. كان

تجنيد هذه الطبقة من الريف لتحقيق هدف مهم آخر سعى إليه الغرب وهو إيجاد ما

يسمى (بثنائية الريف المدينة) حيث القدر الأكبر للمدينة وكل ما قدم منها ويرمز لها، مع الحط من قدر الريفيين والعمل على هجرتهم إلى المدينة لتشكيل الطبقة الجديدة

وتركيز المهنيين (الغير مهمين) والمثقفين في المدينة على حساب المهنيين الذين

تشتد الحاجة إليهم كالأطباء والمهندسين وغيرهم.

هذا هو الوجه الأول، أما الوجه الثاني: فقد كان تدعيم الطبقة الوسطى

وإضافة فئات أخرى لها تشابه أكثر وأكثر مثيلتها في البلاد الغربية، ويعهد إليها

بمهمة التطوير الثقافي للبلاد لحساب الغرب.

خامسا إدخال الصناعة والتكنولوجيا:

لم يكن التصنيع (الحديث) والتكنولوجيا واقعاً قائماً في بلاد المسلمين فجاء

الغرب وأدخلهما عن عمد كواقع جديد بهدف إحداث اضطراب خطير في النسيج

المكون لثقافة المسلمين أولاً، ولضمان تبعية المسلمين له واستنزاف خيراتهم

بطريقة عصرية، لأن الطرق القائمة لا تسعفه في تحقيق هذا الاستنزاف.

دمر الغرب الصناعات المحلية، وقضى على المهن التقليدية، ونشر بضائعه

الاستهلاكية، وأرغم الصنّاع والحرفيين إما على الخروج من الساحة والانضمام إلى

ركب العمال الحضريين، أو تعديل خبرتهم الفنية بحيث ينتجون بضائع ذات نمط

غربي يعرف الغرب أنها لن تقوى على المنافسة أمام بضائعه التي تستخدم التقنية

الحديثة العالية الجودة المعدلة وفقاً لأذواق المسلمين، ثم نافس الغرب بعد ذلك

المشروعات الصناعية القائمة، وأدخل مناهجه الغربية في إنتاج ما يصنع محلياً.

اعتقد المسلمون أنهم وهم يستخدمون المعدات والتقنية الغربية قد وصلوا إلى

مرحلة من التقدم الاجتماعي، وأن التغير الذي حدث عندهم بسبب هذا الاستخدام

تغير محدود لن يؤثر على قيمهم الأساسية، ولم يدرك المسلمون وهم في وهم هذا

التقدم أن الغرب قد وقف بهم عند حد (طريقة الاستخدام) ولم ولن يصل بهم أبداً إلى

(طريقة الإنتاج) .. لم يكن المسلمون وهم يستخدمون الصناعة والتقنية الغربية

يقفون عند الحدود الشرعية التي تحدد لهم الفرق بين الانتفاع بالثقافة وبين التأثر

بهذه الثقافة، في حين أن الغرب كان يعلم تماماً أن استخدام أي عنصر ثقافي غربي

لابد وأن يؤدي بالضرورة إلى استخدام عنصر آخر، وهكذا إلى أن ينتهي الأمر

إلى تبني طريقة الحياة الغربية ذاتها.

حال الغرب دون تمكين المسلمين من صناعة الآلات التي توجد فيها باقي

الصناعات، فلم توجد لدينا المصانع التي تصنع الآلات من (موتورات) وخلافه ولم

تتوفر لدينا آلات من صناعة البلاد تمكننا من صناعة باقي المصانع، ولقد أعاق

الغرب صناعة الآلات في بلاد المسلمين بحجة أنها تحتاج إلى وقت طويل وأنه لابد

لنا من صناعة الحاجات الأساسية، فانصرف المسلمون إلى الصناعات الاستهلاكية

وأصبحت بلادهم سوقاً لمصانع أوربا وأمريكا، وأرسلت أكثر البعثات إلى الخارج

لا لتعلم صناعة الهندسة الثقيلة وصناعة الفولاذ، ولكن لدراسة الآداب واللغويات

والعلوم الإنسانية والاجتماعية التي توسع الهوة بين المسلمين وثقافتهم، فانصرفت

البلاد إلى صناعة المنسوجات والورق وخام الحرير، وأهملت صناعة الآلات.

وبدلاً من استقدام خبراء صناعة الآلات استقدمت الخادمات والمربيات

الأجنبيات، صاغ الغرب لنا كتبنا خاصة في النمو الاقتصادي، فجعلنا نعتقد أننا

لابد وأن نسير في عدة مراحل وبشروط معينة حتى نصل إلى مرحلة التقدم فأطال

أمامنا أمل تسلم زمام رأس الصناعة ومنبعها وهو (صناعة الآلات) .

أجبرنا الغرب على شراء المصانع والآلات منه وبثمن باهظ، وإذا أصيبت

الآلات بعطب أو كسر اضطررنا لاستقدام خبرائه لإصلاحها أو استيراد الآلة منه

وإلا تعطلت المصانع كلية.

لم تكن لبلاد المسلمين سياسة اقتصادية محددة في أن تكون هذه البلاد

(صناعية) بمعنى (أن تصنع الآلات) ، ولهذا لم تخلص بلادنا حتى الآن ولم تستغنِ

عن الغرب لكنها أصبحت بدلا من ذلك أكثر ارتباطاً به وبمنتجاته وآلاته والأهم من

ذلك كله بطريقة الحياة الغربية.

يقول (باتاي) :

ما أن وجد الغربيون لأنفسهم قدماً في قلب الشرق الأوسط حتى بدأوا في

إظهار (تكنولوجيتهم) ونشر مظاهر معينة منها عمداً وعرضاً بين السكان المحليين.

إن المظاهر التكنولوجية للثقافة هو إيسر ما يمكن أن يستعار، وهذا صحيح فقط

عند النظر إلى (استخدام) المنتج التكنولوجي وليس (إنتاجه) . إنه يصعب عليك أن

تصنع مضخة مياه تعمل بمحرك لكنك تستطيع في دقائق قليلة أن تتعلم كيف

تستخدمها، وأن تتعرف على مزاياها التي تفوق استخدامك للأسلوب القديم لرفع

المياه عن طريق (الشادوف) .

إن قبول سكان الشرق الأوسط للتكنولوجيا الغربية بالإضافة إلى إمكانيات نقلها

ووظيفتها الكبرى كمؤشر هام للتقدم، قد تيسر بواسطة حقيقة مؤداها أنها لا تشغل

وضعاً مهماً في ثقافتهم الخاصة.. وبمعنى آخر إن شعوب الشرق الأوسط مثل

أصحاب أي ثقافات أخرى لم ترَ أن مجرد التحول إلى استخدام المعدات الغربية

يعنى أن قيمهم الأساسية سوف تتأثر، بل رأت أنه مجرد تغير ذو أهمية قليلة،

وأخيراً أدركت بعد أن فات الأوان أن قبول أي عنصر ثقافي غربي منفرد يؤدي إلى

قبول عناصر أخرى أكثر وأحدث فتكون النتيجة إحداث اضطراب خطير في النسيج

الحيوي المكون لثقافتهم التقليدية.

إن مقارنة نمو التصنيع الغربي بتصنيع الشرق الأوسط يبين لنا أن تصنيع

الأخير كان محدوداً وفجائياً، بالإضافة إلى أنه مفروض من الخارج، ولم ينمو

عضوياً في بيئته المحلية، ولهذا كان من المحتمل أن يصاحب بتوترات قاتلة

يترتب عليها انهيار الأشكال التقليدية من التفاعل الاجتماعي الذي تميزه العلاقات

الشخصية والأسرية وانتشار المكانات الموجهة قرابياً، وتحوله إلى الأشكال الغربية

من التفاعل الاجتماعي الذي يقوم على العلاقات غير الشخصية» .

هذه خمسة عناصر من عناصر هذا الواقع الجديد الذي أدخله الغرب على حياة

المسلمين لتغريبهم وتدمير التوازن القائم في ثقافتهم، وتندرج جهود الغرب هذه

تحت قوله عز وجل [ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفَاراْ

حسداْ من عند أنفسهم من بعدما تبين لهم الحق] [1] ، وتشير الوقائع السابقة إلى

أن الغرب قد نجح إلى حد بعيد في جهوده تلك رغم التحذير الذي وجهه الله عز

وجل للمسلمين من اتباع سبيل الكافرين كما جاء في قوله تعالى: [ومن يشاقق

الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله

جهنم] [2] ، وقوله تعالى [يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء

بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم] [3] وقوله تعالى: [لا تجد قوما

يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حاد الله ورسوله] [4] ... إلى غير ذلك من

الآيات.

لكن نجاح الغرب في تغريب المسلمين لم يكن راجعاً إى كفاءة تنظيره

المدروس الذي أسماه (تشويش الأحكام القيمية) ، فليس هذا التنظير كما يخيل

للبعض بجهد إبداعي خلاق يضيف هيبة أخرى إلى هيبة الغرب الحالية في عيون

المسلمين. إن هذا الجهد يتضاءل أمام قاعدة ابن تيمية رحمه الله التي يقول فيها:

«إن المشاركة في الهدى الظاهر تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين يقود إلى

موافقة في الأخلاق والأعمال ... فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة

والموالاة، فكيف بالمشابهة في أمور دينية.. فإن إفضاء هذا النوع من الموالاة أكثر

وأشد والمحبة والموالاة لهم أي اليهود والنصارى تنافي الإيمان» .

ويرجع نجاح الغرب في تغريب المسلمين إلى سببين أساسين:

الأول: أن هذا هو قضاء الله عز وجل النافذ فيما أخبر به رسوله -صلى الله

عليه وسلم- مما سبق في علمه، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (لتتبعن سنن من

قبلكم حذو القذة حتى لو دخلوا مجر الضب لدخلتموه، قال يا رسول الله: اليهود

والنصارى؟ قال فمن؟) [5] .

الثاني: ضعف إيمان المسلمين: الله سبحانه وتعالى ضمن نصر دينه وحزبه

وأوليائه القائمين بدينه علماً وعملاً، يقول ابن القيم رحمه الله في ذلك: «فإذا

ضعف الإيمان صار لعدوهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم فهم جعلوا عليهم

السبيل بما تركوا من طاعة الله تعالى، فالمؤمن عزيز غالب مؤيد منصور مَكْفيٌ

مدفوع عنه بالذات أين كان، ولو اجتمع عليه من بأقطارها، إذا قام بحقيقة الإيمان

وواجباته ظاهراً وباطناً.. وقد قال الله تعالى للمؤمنين [ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم

الأعلون إن كنتم مؤمنين] [6] ، وقال تعالى: [فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم

الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم] [7] .

فهذا الضمان إنما هو بإيمانهم وأعمالهم التي هي جند من جنود الله يحفظهم بها

ولا يفردها عنهم ويقتطعها عنهم فيبطلها عليهم كما يتر الكافرين والمنافقين أعمالهم

إذا كانت لغيره ولم تكن موافقة لأمره.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015