مجله البيان (صفحة 1748)

المشكلة الإقتصادية وعلاجها (2)

دراسات اقتصادية

المشكلة الاقتصادية

وعلاجها من المنظور الإسلامي

-2-

د. محمد عبد الله الشباني

في الحلقة السابقة تطرقنا إلى جانب من معالجة الإسلام لجانب من جوانب

المشكلة الاقتصادية، وهو جانب الندرة، وفي هذه الحلقة سوف نتطرق إلى

الجوانب الأخرى لمعالجة مشكلة الندرة، وهذا الجانب يتعلق بدور الدولة في معالجة

الندرة من خلال كيفية استغلال الموارد الطبيعية وتنميتها، أي دور الدولة المسلمة

في التأثير على الإقلال من تأثير قانون الندرة على المشكلة الاقتصادية.

إن من مهمات الدولة أن تعمل على البحث عن المصادر الطبيعية، فقد أشرنا

في الحلقة السابقة إلى الحديث الذي رواه أبو يعلى في مسنده عن عائشة رضي الله

عنها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي جاء فيه: (اطلبوا الرزق في خبايا

الأرض) [1] ، ففي هذا الحديث توجيه نبوي للأفراد وللحاكم المسلم باعتباره ...

مسؤولاً عن الأمة، والقاعدة التي يتبعها التشريع الإسلامي هي مخاطبة الأمة

فصيغت الأوامر كما جاءت في القرآن الكريم موجهة لأفراد الأمة بأجمعهم لكن

مسؤولية التنفيذ تقع على الحاكم نفسه، فمن ذلك قوله تعالى: [ولكم في القصاص

حياة يا أولي الألباب] [البقرة: 179] ، وقوله تعالى: [الزانية والزاني فاجلدوا

كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله] [النور: 2] ، كما

يلاحظ ذلك في الأحاديث النبوية الشريفة حيث يتوجه الخطاب إلى الأمة، لكن جهة

التنفيذ هم ولاة الأمر، وعليه فإن التوجيه النبوي في هذا الحديث يقتضي أن تقوم

الدولة بالبحث عن مصادر الرزق المخبوءة في باطن الأرض.

الحديث الشريف يوضح العلاج:

إن من وسائل علاج ندرة الموارد وفق ما يشير إليه ذلك الحديث الأمور التالية:

1- ضرورة بذل الجهد من قبل الأمة ممثلة في الحاكم المسلم بالعمل على

البحث عن الموارد الطبيعية، وتسخير القوى العاملة من الأمة بالعمل على بذل

الجهد والمشقة، فصيغة «اطلبوا» توحي بأهمية الحصول على موارد طبيعية

جديدة، أو اكتشاف مجالات جديدة في استغلال الموارد الطبيعية المتاحة، مما

يقتضي بذل كل جهد ممكن عضلي أو عقلي وبالتالي فإن مشكلة الندرة لن تحل

بدون بذل الجهد والعمل، فالله قد تكفل برزق جميع مخلوقاته، ويؤكد هذه الحقيقة

قوله تعالى: [وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها] [هود:

6] ، لكن الحصول على هذا الرزق يستدعي بذل الجهد، كما أنه لا يقتضي كثرة

الكمية المتاحة، ولكن اكتشاف مختلف مجالات الاستخدام للموارد المتاحة يؤدي إلى

إشباع حاجات الإنسان.

2- إن مفهوم الرزق كما أشار إليه الحديث لا يقتصر على شيء دون آخر بل

يشمل كل شيء يحقق إشباع الحاجات سواء أكان الأمر يتعلق بالإنتاج الزراعي، أو

المعدني، أو غير ذلك، وبالتالي ضرورة قيام الأمة ممثلة في ولي الأمر بالتنقيب

عن مصادر الرزق، إذ أن المصادر مخبوءة في باطن الأرض، فإذا تقلصت أو

قلت الموارد المتاحة على وجه الأرض فلا يعني ذلك أن الرزق قد انقطع،

والاكتشافات العلمية المعاصرة أكبر دليل على أن الله يفتح في كل يوم على البشر

مصادر جديدة من الرزق سواء أكان ذلك من خلال العثور على موارد جديدة، أو

اكتشاف كميات إضافية، أو اكتشاف مجالات جديدة لاستخدام الموارد المتاحة، التي

تساعد على إشباع متطلبات الإنسان.

3- يوجه الحديث الانتباه إلى حقيقة مهمة أغفلها المسلمون ولم يهتموا بها

وهذه الحقيقة هي أن الأرض مملوءة بالخيرات، وأن المشكلة تكمن في الإنسان

نفسه، فالأرض تمتلك في باطنها خيرات كثيرة، وما على الإنسان إلا أن يُعمل

فكره، ويبذل جهده في البحث عن مصادر الرزق في باطن الأرض، ولن يكون

هناك عجز في الموارد لتلبية احتياجات الإنسان إلا إذا كسل الإنسان عن البحث

عنها، أو انحرف فكره وسلوكه في استغلال ما أتاحه الله له من خيرات فصرفها في

مجالات مضرة تعود بالشر عليه، وإن الممارسات المعاصرة من قبل الدول لهي

أكبر دليل على أن العجز ليس في الموارد بقدر ما هو في نوعية استغلال الجهد في

ما يعود بالضرر على الإنسان نفسه.

ضرورة استغلال الموارد المتاحة:

إن من المسببات لإيجاد الندرة في الحاجات القصور في استغلال الموارد

المتاحة، ولهذا فإن من المهام الأساسية التي ينبغي على ولاة الأمر من المسلمين

الاهتمام بها هو استغلال الموارد المتاحة، وعدم تعطيلها، تلك التي يمكن من

خلالها سد حاجات المجتمع، وإن ما فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع

يهود خيبر لإشارةٌ واضحة الدلالة على ضرورة استغلال الموارد المتاحة، فقد روى

البخاري والبيهقي في سننه وأحمد والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن عبد

الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعطى خيبر

لليهود على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها [2] ، وفي رواية

للنسائي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر

وأرضها على أن يعملوها من أموالهم وأن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- شطر

ما يخرج منها، وفي حديث أخر رواه البيهقي بسنده عن عبد الله بن أبي بكر قال:

جاء بلال ابن الحارث المزني إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستقطعه

أرضاً فقطعها له طويلة عريضة، فلما ولي عمر قال له: يا بلال إنك

استقطعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرضاً طويلة عريضة أقطعها لك وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن ليمنع شيئاً يسأله، وإنك لا تطيق ما في يديك، فقال: أجل قال انظر ما قويت عليه منها فأمسكه وما لم تطق فادفعه إلينا نقسمه بين المسلمين، فقال: لا أفعل والله شيء اقتطعنيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال عمر: والله لتفعلن، فأخذ منه ما عجز عن عمارته فقسمه بين المسلمين [3] .

من هذين الحديثين نرى اهتمام الإسلام وحرصه على معالجة ندرة الحاجات

من خلال العمل على استغلال المتاح منها، والعمل على الاستفادة القصوى من

الموارد المتاحة وعدم تعطيلها، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- عمد إلى علاج

النقص في الأيدي العاملة القادرة على الحرث والزراعة بالاستعانة باليهود على أن

يكون للمسلمين شطراً مما تخرجه الأرض، وصنع عمر وهو ولي أمر المسلمين

مع بلال المزني باستعادته ما لم يستطع بلال عمارته مما تم إقطاعه إياه من رسول

الله -صلى الله عليه وسلم-، يؤكد حقيقة أن معالجة الندرة في أحد جوانبها هو

العمل على استغلال المتاح من المصادر، وتدخل الدولة حسب سلطتها لتنفيذ ذلك،

ولهذا نجد الواقع السيئ للمجتمعات الإسلامية في عجزها عن استغلال مواردها

وتعطيلها سواء أكان ذلك من خلال التنظيمات والتشريعات المالية والإدارية المعيقة

للمبادرات الشخصية، أو من خلال تبني مناهج في التخطيط الاقتصادي

والاجتماعي تساعد على تعطيل الموارد وجعلها في حالة عجز دائم.

تدخل ولي الأمر للمصلحة العامة:

إن من واجبات الدولة في حالة تعطل مورد من الموارد الطبيعية بسبب عدم

قدرة الشخص على التنفيذ لنقص في قدراته المادية أن تتدخل في تنظيم ذلك، ففي

عمل عمر رضي الله عنه باستعادة ما تم إقطاعه واعادة توزيعه على المسلمين،

تنفيذ لهذا الجانب من حيث عدم ترك الأرض غير مستغلة ولهذا فإن من مسؤولية

الدولة وضع الأنظمة الإجرائية التي تساعد على استغلال المتاح من الموارد

الطبيعية وغيرها ممن يُعجَزُ عن استغلاله بأحد عوامل الإنتاج ففي حالة توقف

المصانع الإنتاجية لعدم قدرة أصحابها على الإنفاق عليها، فإن على ولي الأمر

التدخل وعدم تعطيل هذه الموارد، فقد روى أبو داود بسنده عن عبد الله بن محمد

بن عبد الرحمن الحميدي أن عامر الشعبي حدثه أن رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- قال: (من وجد دابة قد عجز عنها أهلها أن يعلفوها فسيبوها فأخذها فأحياها

فهي له « [4] ، ففي هذا الحديث إرشاد لولي الأمر أن يتدخل في حالة عجز

المالكين عن استغلال عنصر من عناصر الإنتاج، وذلك باستغلاله وفقاً للقاعدة

الشرعية» لا ضرر ولا ضرار «بحيث يكون لولي الأمر وضع القواعد الإجرائية

التي تساعد على تدخل الدولة في حالة توقف المصانع أو المزارع الكبيرة عن

الإنتاج لعجز المالكين عن استغلالها، مراعاة لمصلحة الاقتصاد العام للدولة، مع

مراعاة حقوق المالكين، بشرط عدم تعطلها عن المساهمة في زيادة الناتج القومي.

أساليب تنمية الموارد:

إن من مسببات الندرة المرتبطة بالموارد الطبيعية سوء الأسلوب في استغلال

الموارد المتاحة، بحيث تؤدي إلى ضعف وعجز الموارد عن القدرة على الإنتاج

وتوفير الاحتياجات؛ ولهذا فإن طرق وأساليب استغلال الموارد الطبيعية يلعب دوراً

في اضمحلال وتقلص القدرة الإنتاجية للمورد الطبيعي، ولقد حرص الإسلام على

هذا الجانب، ووردت أحاديث عدة توجه الانتباه إلى هذا الجانب، وإن على قادة

المجتمع المسلم الاهتمام بهذا الجانب، ومن تلك الأحاديث ما رواه البيهقي في سننه

عن علي بن الحسن عن أبيه عن جده قال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

المدينة فقال: (يا معشر قريش إنكم تحبون الماشية فأقلوا منها، فإنكم بأقل الأرض

مطراً، واحرثوا فإن الحرث مبارك أكثروا فيه من الجماجم [5] ) ، وفي حديث

آخر رواه البيهقي عن علي بن أبي طالب أنه قال: نهى عن الحكرة بالبلد، وعن

التلقي وعن السوم قبل طلوع الشمس، وعن ذبح قني الغنم [6] ، وقد روى أبو

داود عن عبد الله بن حبشي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من

قطع سدرة صوب الله رأسه في النار» [7] .

من هذه الأحاديث يمكن فهم السياسة التي يوجه الإسلام أتباعه إليها فيما يتعلق

بأساليب المحافظة على الموارد الطبيعية بالعمل على المحافظة على الغطاء النباتي، ... وعدم قطع أو إزالة الغطاء الشجري، والتعامل مع الموارد المتاحة حسب

طبيعة البيئة، واستغلال الموارد وفقاً للظروف البيئية، ونلاحظ ذلك من توجيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمهاجرين من قريش بتغيير نمط الاستثمار من تربية الماشية التي تعتمد على الرعي إلى الحرث، حيث أن طبيعة البيئة لا تسمح لهذا النوع من الاستغلال بخلاف البيئة في مكة التي تقوم على الرعي وليس على الزراعة، كما أن الزراعة في منطقة المدينة أجدى وأكثر فائدة، ولهذا فإنه من الواجب استخدام البدائل والخيارات عند التعامل مع الموارد الطبيعية، وعدم استنزاف الموارد المنتجة، والإبقاء عليها من أجل زيادتها كما يرشد إلى ذلك الحديث الذي منع من ذبح إناث الغنم لما في ذبحها من استنزاف لمورد من الموارد المتاحة لإشباع حاجات الإنسان، وينطبق هذا على أي مورد من الموارد المتاحة للإنسان بضرورة العناية بتنمية الموارد الطبيعية وزيادتها من خلال حسن الاستغلال.

إن ما توحي به جميع الأحاديث التي أشرنا إليها من توجيهات، لهو مؤشر

قوي على مدى حرص الإسلام على معالجة جانب ما يحدث من عجز في توفير

الاحتياجات الفردية من خلال معالجة مسببات الندرة المرتبطة بالموارد الطبيعية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015