مقال
من عوارض الإخلاص:
عبادة الذات
هيثم الحداد
إن من أشد الأمراض فتكاً بالأفراد والجماعات المسلمة، انعدام الإخلاص،
بل يمكننا أن نقول: إنه سبب رئيس لتأخر النصر والتمكين، وإنه السبب الرئيس
كذلك لتفرق المسلمين وبعدهم عن الألفة والمحبة ووحدة الكلمة التي هي من أهم
مقاصد الشريعة الإسلامية.
ذلك أن عدم الإخلاص نوع من أنواع الشرك، فهو إشراك غير الله مع الله في
نوع من أنواع العبادة، وقد يكون هذا الشريك بشراً كما هو الحال في الرياء، وقد
يكون غير ذلك.
وتكمن الخطورة الشديدة لهذا المرض في عدة أسباب منها:
أن عدم الإخلاص محبط للعمل، فلا يجني العامل من عمله إلا الحسرة
والندامة، قال تعالى: [وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراْ] [1] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش،
ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر والتعب) [2] ، فبذلك يخسر الإنسان الخسران
المبين.
كما أن عدم الإخلاص في كثير من الأحيان مرض خفي، بل خفي جداً:
(إياكم وشرك السرائر، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهداً لما يرى من نظر
الرجل إليه، فذلك شرك السرائر) [3] ، وصاحبه قد لا يتفطن إلى أنه مصاب به،
بل إن صاحبه يظن أنه يحسن صنعاً، وهو من الأخسرين أعمالاً.
ومن أظهر عوارض الإخلاص وأشهرها الرياء الذي يمكن أن نُعرّفه: بأنه
العمل لأجل البشر، وهناك عارض آخر يطرأ على الإخلاص لا يقل خطورة عن
سابقه وربما يكون قسيماً له لكن قل من يتفطن له وهو عبادة النفس بأن يعمل العامل
العمل لأجل نفسه.
فالمرائي يعمل العمل لأجل أن يقول عنه الآخرون ما يحب من الثناء
وصاحبنا يعمل لأجل أن يقول هو عن نفسه ... لأجل أن يرضي نفسه، حتى يحقق
الصفة التي يصفه الناس بها.
فهذا الإنسان يأخذ من الليل، ويصوم الهواجر، ويكثر من الصدقة ويحسن
معاملة بعض الناس، ويبذل من وقته وماله الكثير في الدعوة، وقد ترى عليه
مسحة من الزهد متزيناً بالورع لأجل من؟ لأجل أنه فلان ابن فلان الداعية أو
المربي أو الشيخ، لا لأجل الله وحده، ولا لأجل أن يلقى ثواب ذلك عند الله.
قد يكون هذا غريباً لا يمكن تخيله، ولكنه عند التأمل واقع، وواقع وللأسف
بين صفوف بعض المتصدين للدعوة وطائفة من المتعالمين، ولكن كيف يمكن
تشخيص هذا المرض؟
بادىء ذي بدء نقول: إن العلماء يعّرفون الإخلاص بعدة تعاريف منها: أن
يستوي حال الإنسان في الظاهر والباطن، فالمخلص لله وحده يعمل العمل سواء
أرآه الناس أو لم يروه، أكان له حظ من حظوظ الدنيا أو لم يكن له، أكان له ميزة
معينة أو لم تكن، فليس له توجه إلا لله، وليس له هم إلا الهرب من النار والفوز
بالجنة، فمهما تغيرت الظروف التي حوله فلن يزيد من عمله لأجلها وكذلك لن
ينقص، فالمخلص يعمل الطاعات سواء أكان هو فلاناً المربي أو الشيخ، أو لم يكن
(إن كان في الساقة فهو في الساقة، وإن كان في الحراسة فهو في الحراسة) وهذا
معيار لمن أراد الكشف عن وجود هذا المرض الخفي في نفسه.
ولا يظن ظان أن العمل الدعوي هو المعرض للإصابة بهذا المرض فقط بل
إن كل أعمال الإنسان من دعوة وغيرها معرضة للإصابة بهذا المرض، لأنه يغزو
القلب الذي هو منبع الأعمال وأساسها، فمتى ما أصيب القلب أثر ذلك على جميع
أعمال الإنسان البدنية وغيرها، حتى في عبادته الخاصة من صلاة وصيام وذكر،
فالمصاب بهذا المرض قد يؤدي كثيراً من العبادات، وقد خلى قلبه من نية التعبد
والتقرب إلى الله بها، وحقيقة نيته وأصل دافعه لها أن هذه العبادات من صفات
طالب العلم أو الداعية، فلابد من الإتيان بها لأجل أن تكتمل صورة هذا الداعية أو
طالب العلم أمام نفسه، كمن حصل على منصب ديني، فإنه يبدأ بالإتيان بلوازم
هذا المنصب من عبادات وغيرها، فمن عُيّنَ قاضياً مثلاً لا بد أن تكون هيئته هيئة
طلبة العلم وسيماه سيماء العلماء، فإن أتى ببعض السنن بناء على ذلك فإن دافعه
ربما كان لتحقيق لوازم هذا المنصب لا نية التقرب إلى الله بتلك السنن.
قد يقول قائل إن ما تتحدث عنه أمر لا يكاد يعرف، بل قد لا يظهر لكل أحد، فعلاجه من الصعوبة بمكان، فلا داعي للدخول في هذه التفاصيل ولنأخذ الأمر
بكل يسر وسهولة.
وجواباً على ذلك يقال: موضوع النيات موضوع خطير جداً، إذ هو أساس
قبول الأعمال وردها، فهو أساس الفوز أو الخسران المبين، أي أنه طريق الجنة
أو النار، والجميع مقرون بأن أمره شاق، بل شاق جداً، وكما قال سفيان الثوري:
«ما عالجت شيئاً أشد من نيتي فإنها تتقلب علي» ، وعن يوسف بن أسباط أنه
قال: «تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد» [4] . وقد
نقل عن بعض العلماء أنه قال: وددت أنه لو كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا
أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم، ويقعد للتدريس في أعمال النيات ليس إلا،
فإنه ما أتي على كثير من الناس إلا من تضييع ذلك [5] .
وقد تكلم الأستاذ «عبد الجليل حسن» عن هذا المرض في لمحاته التربوية
من السيرة النبوية، وأجد من نسبة الفضل لأهله أن أقتطف من كلامه ما يناسب
الموضوع وإن طال لأنه أجاد فيه وأفاد.
يقول: «ولمحتنا التربوية التي نشتمها من هنا هي التفرقة بين عبادة الله
وحده الذي لا شريك له، وبين عبادة أنا، التفرقة بين الحق الذي لا مرية فيه سواء
أكان هذا الحق الذي أتى على يدي أو على يد غيري، سواء أكنت أنا فيه أو كان
غيري، وبين الحق الزائف الذي يكون فيه أنا وأنا فقط، فإن كان غيري فهي الردة
والنكوص والهلاك والخسران، إنها التفرقة بين عبادة الله وعبادة أنا، أو بين عبادة
الله وعبادة النفس من دون الله.
إن كثيراً جداً ممن ينتسبون إلى الدعوة الإسلامية اليوم يتعاملون مع الدعوة
ورجالها بمنطق أبي عامر [6] ، فهو لا ينشط في دعوته إلا إذا كان هو صاحب
الإمارة وصاحب المنزلة، صاحب التوجيه، صاحب المقام في قلوب الخلق هو
القائل، وهو المتحدث، هو القائد ... المهم أن يكون هو وهو فقط، فإذا كان الأمر
كذلك كان النشاط والحركة، والدعوة والهمة العالية، العمل الدائب وربما يغلف كل
ما سبق من عمل وحركة بشيء من التواضع، والزهد الزائفين فإذا اهتزت في
نفس هذا النمط من الدعاة (أنا) فوجد نفسه نزل من موضع إلى موضع، أو سبقه
من هو دونه، أو لم يحز ما ترنو إليه نفسه، انقلبت الأمور وهدأت الحركة،
وانطفأت شعلة النشاط، وبردت جذوة الأمل، وانكفأ إلى بيته، وعلى أحسن
الأحوال أخذ إجازة من الدعوة، تنم عن غضب ومشاحنة ينطوي عليها الصدر،
وقد يسوء الحال عن ذلك، فتكون الردة والنكوص عن الطريق كله، بحجة أن
الجماعة قد انحرفت عن خطها الصحيح، وهو لا يرضى هذا الانحراف، ثم يبدأ
البحث كما يزعم عن طريق آخر فيه أنا وأنا فقط» .
«أخي الحبيب: إن لنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة،
فلابد لنا من وقفة صادقة مع النفس لتتوجه من جديد إلى الله، إلى الله وحده لا
شريك له، إنه صفاء الابتداء، فمن خانه ذلك وكان في النفس شيء فليبدأ من جديد، بتوبة صادقة، ونية صادقة، على ألا يكون في القلب والنفس إلا الله وحده لا
شريك له، إن كل ما سوى الله من غايات إنما هي أقذار وأوحال وعفن وعطب
يصيب القلوب فَتَهْلَك وتُهْلكْ، فيبعد النصر ويطول الطريق، فمن كان يريد السير
إلى الله عز وجل في دعوته المباركة فلا يتطلع إلى شيء، ولا يعمل بشرط أن
يكون كذا وكذا، ولا ينظر إلى تقدم أو تأخر ولا يرسم لهدف في النفس لا يعلمه إلا
الله» .
( «إن السعادة والسداد والفوز في الدارين، والتقدم والفلاح إنما هما في
توجه النية دائماً إلى الله وحده لا شريك له، دونما التفات إلى ما سواه، ولو كنت
ذَنَباً في الحق وأنت على ذلك خير لك من كونك أميراً مطاعاً ورأساً مرموقاً وأنت
على غير ذلك [كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون] [7] » ) [8] .
إذاً فمن أنجع أساليب علاج هذا المرض والكشف عن الإصابة به المحاسبة
والمراقبة الدائمتين، ليسأل الإنسان نفسه دائماً، ويفتش عن حقيقة دافعه للعمل أي
عمل ولا يتسامح أو يتساهل مع نفسه، وبخاصة في أمر النية والباعث على العمل، إذ مدار الثواب والعقاب على صلاح النية وفسادها وليعلم أن معالجة أمر النية من
أصعب وأدق الأمور كما تقدم.
لكن هنا ينبغي لنا أن ننبه على أمر قد يقع خلط بينه وبين ما نحن بصدده فقد
يفعل الإنسان أموراً لا يفعلها إلا لأجل أن الناس يقتدون به، ولو لم يكن في موضع
القدوة لم يفعلها، وهذا أكثر ما يكون في باب التروك، وقد تحدث العلماء عن هذا
فرغبوا لمن يقتدى به أن يترك بعض الأمور خشية أن يعتقد الناس فيها ما ليس
بصحيح.
وما نحن فيه ليس من هذا الباب وإن كان الفرق بينهما دقيقاً، فمن يقتدى به،
إذا فعل أو ترك أمراً كي يقتدي به الناس فعلاً أو تركاً إنما يفعل ذلك حتى لا يكون
هو سبباً لوقوع الناس في الحرام، أو سبباً لترك الناس المستحب أو الواجب فيعاقبه
الله على ذلك كما يعاقب فاعل المحرم، إذ الوسائل لها أحكام الغايات.
فالغاية النهائية لمثل هذا هي الدلالة على الخير لأنه سبب لمرضاة الله ونيل
ثوابه، والتحذير من الشر، لأنه من أسباب سخطه ونيل عقابه.
لكن صاحبنا الذي سبق الكلام عنه هنا لم ينظر إلى الآخرة، ولا إلى الثواب
أو العقاب، وإنما غايته النهائية تحقيق منزلته عند الناس.
وكذلك نيته هنا إلى الفرق بين الشعور بالمسؤولية إذا ألقيت على الإنسان ومن
ثم النهوض بأعبائها، وبين هذا الذي نتحدث عنه، فعمر بن عبد العزيز كان غاية
في التنعم والترفه، حتى إذا ولي أمر المسلمين أبدل غاية ما فيه من تنعم وترفه
بغاية الزهد والتقشف، فالفرق كبير، فإن الذي دفع عمر بن عبد العزيز لذلك القيام
بالمسؤولية التي امتحنه الله بها، ذلك أن القيام بها كما أراد الله يستلزم انشغالاً
بمصالح المسلمين عن مصالح نفسه، وورعاً في المال الذي وكله الله عليه، وعبادة
يستعين بها على القيام بأعباء هذا الواجب الثقيل، فمقصده النهائي طلب مرضاة الله
بالنهوض بما أوجبه الله عليه، والقيام به على أتم وجه.
فإذا حُمّل أحد من الناس أعباء أو تكاليف منصب ما، فالواجب أن يبذل غاية
ما في وسعه للقيام بهذا الواجب الذي تحتم عليه، فما من شك أن ما أوجبه الله عز
وجل على من يتحمل أمراً من أمور المسلمين، ليس كما أوجبه على آحاد المسلمين، وعليه فلابد أن يكون عمل ونشاط وحركة الأول أكثر من عمل ونشاط وحركة
الثاني بكثير، إذ لا يتم له القيام بذلك الواجب إلا بهذا الكم من العمل والحركة،
فعلى كليهما أن يقوم بواجباته طلباً لمرضاة الله، وتخلصاً من إثم الإخلال بحقوق
الله وحقوق الناس.
إخواني الدعاة وطلبة العلم: إن أخشى ما أخشاه على أنفسنا أن نأتي يوم
القيامة، وقد أخذ كل مكانه من الجنة بمن فيهم من كنا نظن أنه أقل رتبة منا، ثم لا
نجد مكانا لنا لأننا لم نمهد لهذا المكان بعملنا، ولم يكن الهرب من النار وطلب
مرضاة الله حادينا إلى العمل، بل كانت دوافعنا إما حزبية من باب تكثير الأتباع،
أو من أجل التصدر، أو غير ذلك، فالله الله في أنفسنا وفي قلوبنا ولندعُ الله أن
يجعل همنا في أعمالنا الصالحة التقرب إليه إنه سميع مجيب.