الافتتاحية
شهور طويلة متتابعة منذ مسرح مدريد حين انكمش الزعيم وتقبل صفعات
الأسياد بكل امتنان، إلى احتفال واشنطن حيث كان يتنفس نسمات الفرح ويرش
الابتسامات يميناً وشمالاً، وحتى لحظات العبوس وقسمات الذل التي حملتها عدسات
المصورين في لقاء التوقيع الأخير في القاهرة.
هذه الشهور الطويلة كانت عند صناع الحدث ضرورية للغاية كي تكسر باباً
نسيجه الدماء والأشلاء، يغذيه نزيف عمره نصف قرن، وذاكرة تاريخية تمتد
جذورها إلى متون أربعة عشر قرناً من حركة التاريخ، حيث تتخللها صفحات
عديدة سود، تحكي عن حقد ممتد من خيانات بني قريظة وحتى كيد بني جنسهم من
«يهود» الدونمة، ويوقد جذوة ذلك كله آيات الكتاب المتلوة إلى قيام الساعة.
لقد كان هذا جميعه سداً منتصباً واقفاً، يمنع عابدي ذواتهم وعروشهم من
الولوج إلى الحضن الإسرائيلي، وتوقيع صكوك البيع بلا ثمن، الذي قال عنه
شاعر عربي يوماً:
ترقى العار من بيع ... إلى بيع بلا ثمن!
ومن مستعمر غاز ... إلى مستعمر وطني!
لقد بدأ البيع بثمن بخس في «كامب ديفيد» حين ابتلعت ثمنَه «القططُ
السمان» سريعاً، وكان من بعض آثاره التنموية أن يعم رفاه العيش تحت مستوى
الفقر! أكثر من 50 % من الشعب المصري، ويستوطن المقابر مليونان ممن
أدركهم الرفاه! واليوم انتهى القوم إلى بيع بلا ثمن في القاهرة.. بلى كان الثمن
توكيلاً رسمياً لمستعمر وطني قادم، سيطلق رصاصاً حياً بالنيابة عن جيش إسرائيل
وسينشيء دولة شرطة خالصة، تضيف رقماً جديداً في سجل عام اسمه «الدولة
ضد الأمة» وشعاره «إذا اختلف رأي الشعب مع حماقات الدولة وخياناتها فلا بد
من تغيير.. الشعب» ! .
ومع ذلك فليس ما تم إلا نموذجاً مُجسّداً لما هو قادم، حين تنتقل «الدولة»
في المنطقة من دور الممانعة السلبية للعدو الإسرائيلي إلى دور الشريك الأمني
والاقتصادي، الذي يقوم بمهمته في قمع الأمة، وتجفيف منابع هويتها الحقيقية كي
تموت روح المقاومة فيها، وتقبل بعيش العبيد في ظل العصر الإسرائيلي المرتقب، وستنتصب بالنيابة عن الصديق اليهودي في إنهاك كل عناصر الممانعة وتفكيكها
والقيام بدور الوكيل الأمني في «صراع الحضارات» القادم! .
وكما تم سحق محاولات الشعوب لاستعادة هويتها الإسلامية زمن الحرب ثم
المقاطعة من بعد باسم التفرغ لمواجهة إسرائيل، ومن خلال لغة: «لا صوت يعلو
فوق صوت المعركة» ؛ فإن الزمن القادم ينذر بوحشية أشد وإرهاب أعتى تمارسه
الدولة ضد الأمة، ولكن تحت لافتة جديدة وباسم: «لا صوت يعلو فوق صوت
السلام» ! ، ولا عجب فقد لحقت الحظيرة كلها بالثور الهارب الذي شجبت هربه
في الأزمنة الخوالي! .
وها هي أقلام «مرتزقة السلام» تحدثنا عن انفراج الصراع، بل يطالبنا
بعضها بالتخلي عن الحقد والبغضاء! والنظر إلى الآخر «الإسرائيلي» بعين
الرضا العمياء، ولم لا؟ ! أليس شقيقَنا القادم في أسرتنا الجديدة «الشرق
أوسطية» ؟ !
غير أن «الشقيق» لا يقبل المنطق نفسه، بل يزرع عيون السخط في كل
زاوية، ومن بين مطامعه التي يسعى إليها بجد في الحقبة القادمة ما صرح به «
رابين» أمام أركان اللوبي اليهودي في أمريكا حول ضرورة تحويل الـ 20 دولة
عربية إلى 40 دولة على الأقل في غضون السنوات العشر الآتية.
هذا الحلم.. يسعى «الشقيق» إلى تنفيذه على الأرض بدءاً من جنوب
السودان حيث يدعم التمرد النصراني بكميات من صواريخ «ستنجر» ، ويستقبل
بعض قوات «قرنق» لتدريبها في إسرائيل، ومروراً بالجزائر حيث اكتشفت
شحنة من الأسلحة مرسلة من إسرائيل في طريقها إلى الحزب البربري الأمازيغي
الذي يدعو الناس إلى حمل السلاح ومقاتلة دعاة الإسلام في الجزائر، وحتى تمويل
الدراسات والمؤتمرات التي تنبش عن الأقليات العرقية والدينية في أرجاء العالم
العربي، وتؤجج فيها نوازع الانفصال باسم الدفاع عن حقوقها المهضومة! !
إنه بعض من «السلام» الذي لم يكن يعني في قاموس «يهود» إلا
«السام» ! أما اللام الزائدة فحسبها أن تكون طلاءً يخفي عورة العصر الإسرائيلي القادم ويعطي لأبناء سلول وابن العلقمي فسحة في الترويج لبضاعة الوهم، وأحلام السراب عند أبناء أمتهم، حتى وهم يرقصون على دماء الضحايا وأشلاء المصلين! .. وبنو «يهود» هناك يطّاير بهم الفرح لما حققوه من سلام تحرسه قوتهم النووية، ومستعمرون بالنيابة يغسلون أذى التطرف من طريق الهيمنة الإسرائيلية وأسواق تصدر خاماتها إلى «الشقيق» القادم بثمن بخس، ومن ثم تستورد بقيمة الألف طن من خاماتها ما يعادل طناً واحداً تم «تعميده» في مصانع إسرائيل! .
ماذا بقي للأمة إذن؟ ! لقد بقي لها الكثير، بقي لها أولو الأمر من علمائها
الربانيين، وذوي الرأي من صالحيها المدعوين إلى جمع أمورهم، فلا تكون شتى
وأمر العدو مجتمع، وإلى وعي الكيد، فلا يكونون غائبين وعيون العدو تتقد بشرر
اليقظة والمكر، وإلى أن يكونوا فاعلين قادرين على المبادرة، فلا يقعد بهم اليأس
وبين أيديهم بشارة الله بالتمكين ولو بعد حين.
ثم يبقى من بعدُ دور الأمة كلها في الخروج من ربقة الغفلة، وإسار الخوف،
وقيود الشهوات.. أما الصراع فسيظل بعد ذلك وقبله صراع وجود لا يلغيه زمن
السلام الممتد، ولا عقود القران الاحتفالية المعلنة بين كفر أبي جهل ونفاق ابن
سلول وتسيّد حيي بن أخطب! .. حتى وإن توالت توقيعات عابدي الذوات، وشهد
عليها عمالقة القوة العسكرية في العالم.