من فقه الدعوة
نظرات تربوية
في خلق الصدق
-2-
عبد العزيز بن ناصر الجليل
في الحلقة الأولى، تطرق الكاتب إلى منزلة الصدق العظيمة، ومبررات
تناول هذا الموضوع، وحقيقة الصدق والفرق بين الصدق والإخلاص، ونواصل
مع الكاتب نظرات أخرى في الموضوع.
-البيان-
وعلى ضوء ما سبق يتضح للقارىء الكريم أن الصدق أنواع ومراتب تتجلى
فيما يلي:
1- صدق النية:
وذلك بأن تكون النية خالصة لله عز وجل وابتغاء مرضاته، وأن لا يكون
هناك باعث في الحركات والسكنات إلا مرضاة الله عز وجل، فإن شاب النية شيء
من حظوظها لم تكن صادقة، وإن تكلم العبد بلسانه خلاف ما في قلبه فهذا أيضاً
دليل على عدم الصدق في النية، والأدلة في ذلك كثيرة منها قوله تعالى في وصف
المنافقين: [يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم] [الفتح: 1] وقوله تعالى: [من
كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون]
[هود: 15، 16] .
ومن الصدق في النية: الصدق في العزيمة على الفعل إذا تمكن منه، لأن
النية قد تكون صادقة، لكن العزيمة على الفعل ضعيفة وصاحبها متردد، وقد تكون
العزيمة صادقة، لكن إذا جد الجد، وعزم الأمر، وهاجت الشهوات خارت
وضعفت، ولم يحصل الوفاء بالعزيمة، وقد لا تضعف في البداية لكن إذا باشرت
الفعل وذاقت مرارته ضعفت وخارت، والموفق من وفقه الله تعالى وأمده بعونه
ورحمته، ولو وكل العبد إلى نفسه ضاع وهلك، فيا حي يا قيوم برحمتك نستغيث،
أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبداً.
2- الصدق في الأقوال:
وذلك لا يكون إلا في الأخبار، أو ما يتضمن الإخبار، والخبر إما أن يتعلق
بالماضي فلا يخبر عن الأشياء على خلاف ما هي عليه، أو بالمستقبل كالوفاء
بالوعد والعهد [1] .
وهذه المرتبة من الصدق هي التي يحصر كثير من الناس الصدق فيها، ولا
يتجاوزونها إلى غيرها، ولا شك أنها مرتبة عظيمة وتكميلها من أعز الأمور وأشقها
على النفس، ولكنها يسيرة على من يسرها الله عليه، وجاهد نفسه في تحقيقها.
صور من الصدق في الأقوال:
والصدق في الأقوال له صور عديدة منها:
أ- الصدق في نقل الأخبار:
فلا ينقل المسلم إلا الأخبار الصادقة، وهذا بدوره يتطلب من الناقل التثبت
فيما يقال، واجتناب الظنون والأوهام والحذر من التحدث بكل ما يُسْمَعُ، فمن حفظ
لسانه من الإخبار عن الأشياء على خلاف ما هي عليه، فهو صادق في خبره وهذا
يقتضي الابتعاد عن الظنون والإشاعات. قال -صلى الله عليه وسلم-: «إياكم
والظن فإن الظن أكذب الحديث» [2] ، وقال: «كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل
ما سمع» [3] .
ب- الصدق في الوعد:
لأن إعطاء الوعد غالباً ما يكون بالقول، فالوفاء بالوعد من الصدق في
الأقوال، وإخلافه يعد كذباً، إلا إذا كانت النية عند إعطاء الوعد صادقة ثم حال
بينه وبين تنفيذ الوعد أمر خارج عن إرادته، فإن هذا لا يعد إخلافاً للوعد وبالتالي
لا يعتبر كذباً، والوعد قد يكون على مكان معين أو في زمن معين أو على أعطية
أو زواج أو أي أمر آخر يعد به الرجل أخاه، فإن الإخلاف في هذه الأمور وأمثالها
بدون مبرر شرعي يعتبر كذباً لقوله تعالى: [واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان
صادق الوعد وكان رسولاْ نبياْ] [مريم: 54] .
ج -الوفاء بالعقود والعهود:
وهذا أيضاً من الصدق في الأقوال، فإخلاف العهد والغدر فيه من أشد أنواع
الكذب. قال تعالى: [يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود] [المائدة: 1] وقال تعالى: [والموفون بعهدهم إذا عاهدوا] [البقرة: 177] . ومن الوفاء بالعهد حفظ
الأسرار وكتمانها، ولعل قوله -صلى الله عليه وسلم- في التحذير من صفات
المنافقين خير شاهد لما سبق ذكره، يقول صلى الله عليه وسلم: «أربع من كُنّ
فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق: إذا
حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» [4] .
3- الصدق في الأعمال:
وهو استواء الأفعال على الأمر والمتابعة، وأن يجاهد العبد نفسه في أن تكون
سريرته وعلانتيه واحدة، وأن لا تدل أعماله الظاهرة على أمر في باطنه لا يتصف
به حقيقة: كمن يتظاهر بالخشوع في الظاهر والقلب ليس كذلك أو يتظاهر بالحرقة
على الدين والغيرة على المحارم وهو في الباطن ليس كذلك والصور كثيرة جداً
فمنها صور الرياء المختلفة، والقول باللسان ما ليس في القلب، وهذا لا يعني أن
يترك المرء الأعمال الصالحة حتى يصلح باطنه، كلا ولكن يجاهد نفسه في أن
يستحيل باطنه إلى تصديق ظاهره، يقول صاحب الإحياء: «إن مخالفة الظاهر
للباطن إن كانت عن قصد سميت رياء ويفوت بها الإخلاص، وإن كانت عن غير
قصد فيفوت بها الصدق» ، وقال يزيد بن الحارث: «إذا استوت سريرة العبد
وعلانيته فذلك النّصَفُ، وإن كانت سريرته أفضل من علانيته فذلك الفضل، وإن
كانت علانيته أفضل من سريرته فذلك الجور» ، وقال معاوية بن مرة: «من
يدلني على بكّاء في الليل بسّام في النهار؟» أ. هـ.
4- الصدق في مقامات الدين:
وهو أعلى الدرجات وأعزها، الصدق في مقامات الدين كالصدق في الخوف
والرجاء والتعظيم والزهد والرضا والتوكل والحب وسائر هذه الأمور فإن هذه
الأمور مباديء ينطلق الاسم بظهورها، ثم لها غايات وحقائق والصادق المحقق من
نال حقيقتها، وإذا غلب الشيء وتمت حقيقته سمي صاحبه صادقاً فيه، كما يقال:
فلان صدق القتال، ويقال: هذا هو الخوف الصادق وهذه هي الشهوة الصادقة ...
وقال الله تعالى: [إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا] إلى قوله
[أولئك هم الصادقون] [الحجرات: 15] وقال: [ولكن البر من آمن بالله واليوم
الآخر] إلى قوله: [أولئك الذين صدقوا] [البقرة: 177] .
من علامات الصدق:
إن للصدق علامات ومظاهر تنفي ضدها، وإذا لم توجد أو كانت ضعيفة فإن
ذلك دليل على ضعف الصدق، وتسلط العوائق عليه، ومن هذه العلامات ما يلي:
1- طمأنينة القلب واستقراره:
إن الصدق في جميع الأحوال باطنها وظاهرها يورث الطمأنينة والسكينة في
القلب، وينفي عنه التردد والريبة والاضطراب التي لا توجد إلا في حالات الشك
وضعف الصدق أو عدمه، يقول صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا
يريبك، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة» [5] .
2- الزهد في الدنيا والتأهب للقاء الله عز وجل:
ومن علامة طمأنينة القلب النابعة من الصدق انشراحه وزهده في الدنيا
والتأهب للآخرة، قال تعالى: [فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن
يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاْ كأنما يصعد في السماء] [الأنعام: 125] ، لما
نزلت هذه الآية سئل الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن شرح الصدر فقال: «
نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح» ، قيل فهل لذلك أمارة؟ قال:
نعم، الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل
نزول الموت « [6] .
فالصادق مع الله عز وجل لا تراه إلا متأهباً للقاء ربه، مستعداً لذلك بالأعمال
الصالحة، والقيام بأوامر الله عز وجل والانتهاء عن نواهيه، يريد بذلك وجه الله
عز وجل متبعاً في ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم.
3- سلامة القلب:
إن من علامة الصدق سلامة القلب، وخلوه من الغش والحقد والحسد للمسلمين، فالعبد المؤمن الصادق في إيمانه لا يحمل في قلبه غلاً للمؤمنين ولا شراً، بل إن
حب الخير والنصح للمسلمين هو طبعه وعادته، وهذه الحالة القلبية تظهر علاماتها
على الأعمال، وذلك بتجنب الظلم والعدوان والاستطالة على الأعراض، والحرص
على العدل والقسط مع الناس، والانطلاق بما في الوسع لقضاء حاجات المسلمين
وإغاثة ملهوفهم ودفع الظلم عنهم والحزن على مصابهم والفرح لفرحهم. إن كل هذه
الخلال تفرزها سلامة القلب الذي يترتب عليه أيضاً مظهر من مظاهر الصدق ألا
وهو محبة الناس لمن هذه حاله، فيصبح مألوفاً لهم لأنه صدق معهم؛ فألفهم وألفوه، وتواضع لهم فأحبوه، وهذا مصداق قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-:»
المؤمن مؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف « [7] .
4- حفظ الوقت وتدارك العمر:
إن الصادق في إيمانه لا تجده إلا محافظاً على وقته شحيحاً به، لا ينفقه إلا
فيما يرجو نفعه في الآخرة، ينظر إلى العمر كله كأنه ساعة من نهار وإلى الدنيا
كأنها ظل شجرة نزل تحتها، ثم قام وتركها، فبادر بالأعمار الصالحة فراغه
وصحته، وشبابه، وحياته، وابتعد عن كل آفة تقطع عليه طريقه، وتضيع عليه
وقته، وتبدد عليه عمره القصير بما لا ينفع.
5- الزهد في ثناء الناس ومدحهم بل وكراهة ذلك:
ويتبع ذلك الزهد فيما عند الناس، والقناعة بما كتب الله عز وجل، وهذه
الصفة إذا وجدت فهي علامة على الصدق والإخلاص، وهي تنبع أصلاً من صحة
المعتقد، وكمال التوحيد لله عز وجل، وحول هذه الصفة والوصول إليها يقول
الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:» لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح
والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار «.
6- إخفاء الأعمال الصالحة وكراهة الظهور:
إن من علامة صدق العبد فيما يعمله لله عز وجل حرصه على إخفاء عمله
وكراهة اطلاع الناس عليه، كما أن كراهة الشهرة والظهور علامة من علامات
الصدق الذي يبعد صاحبه عن الرياء والسمعة والتصنع للخلق، فكلما كان العبد
صادقاً مع ربه عز وجل كلما كان حريصاً على إخفاء أعماله حيث لا يطلع عليها إلا
الله عز وجل، الذي يسمع ويرى ويجازي على الحسنة بعشر أمثالها، وإن حياة
سلفنا الصالح مليئة بهذه النماذج الوضيئة نذكر منها ما يلي:
* عن أبي حمزة الثمالي قال: كان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على
ظهره بالليل فيتصدق به ويقول:» إن صدقة السر تطفئ غضب الرب عز
وجل « [8] . ...
* وقال عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال: إن كان
الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه وما يشعر
به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزور وما
يشعرون به.
7- الشعور بالتقصير والانشغال بإصلاح النفس ونقدها أكثر من الآخرين:
إن من أخطر ما على النفوس أن ينشغل العبد بغيره بالنقد والتقويم وينسى
نفسه والتفتيش عن عيوبها، وهذا للأسف كثير عندنا في زماننا هذا، وإن من
علامات صدق العبد مع ربه ومع نفسه أن ينشغل بنفسه وإصلاحها وتقويمها أكثر
مما يعطيه لغيرها، وإذا وجدت هذه الصفة نتج عنها المحاسبة للنفس والتربية
والتزكية لها، كما ينتج عن ذلك أيضاً احتقار النفس في ذات الله عز وجل والنظر
إليها بالتقصير في جنب الله، وبالتالي تنتفي صفات العجب والغرور والاعتداد
بالنفس، وعلى هذا فلا يجتمع الصدق والعجب في قلب مؤمن أبداً، كما إن هذه
الصفة تطهر القلب من الحقد على المسلمين، وتصيّد أخطائهم وعثراتهم والتفكه
بذلك في المجالس بحجة الدعوة وبيان الأخطاء والتحذير منها.
8- الاهتمام بأمر هذا الدين والجهاد في سبيل الله عز وجل:
إن الصدق في محبة الله عز وجل ومحبة دينه تقتضي أن يكون أمر هذا الدين
هو شغل المؤمن الشاغل، حيث لا يقر له قرار، ولا يهدأ له بال وهو يرى دين الله
عز وجل ينتهك ويقصى من الحياة، وبالتالي يرى الفساد المستطير يدب في أديان
الناس ودمائهم وأعراضهم وعقولهم وأموالهم. إن المؤمن الصادق لا يقدّم على هذا
الهم الأكبر أي اهتمام من أمور الدنيا الفانية، ولكن إلى الله نشكو حالنا، وضعف
إيماننا وركوننا إلى دنيانا حيث إننا إذا رجعنا إلى قلوبنا وما هي الاهتمامات التي
تملؤها، لم نجد عند أكثرنا وياللأسف إلا اهتمامات دنيوية بحتة هي التي تحتل
الأرقام الأولِى في تفكيرنا، فمنا من همه الأول منصب يحصل عليه، أو شهادة
يستلمها ليعيش بها، ومنا من همه زوجته وأولاده أو تجارته وأمواله ... الخ. هذه
الاهتمامات الفانية، ثم إن كان هناك فضول تفكير واهتمامات جاء أمر هذا الدين
والدعوة إليه بعد الاهتمامات السابقة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على ضعف
الصدق عندنا في الدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله، يقول الإمام ابن القيم
رحمه الله تعالى» وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضاع
ودينه يترك وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- يرغب عنها، وهو بارد القلب،
ساكت اللسان، شيطان أخرس كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق «.
9- التميز:
إن التميز في حياة المؤمن أمر ضروري جداً خاصة في عصور الغربة، وإن
المسلم الصادق يُعرف بتميزه وإصراره على دينه بين الناس، فيعرف بصحة معتقده
عند فساد المعتقدات، وبالتزامه بالسنة عند فشوا المبتدعات، وبصدق إيمانه إذا فشا
الكذب والنفاق، وبعبادته إذا الناس يلهون ويلعبون، وبأخلاقه إذا هدرت الأخلاق
وضيعت.
هذه بعض صفات الغرباء الذين قال فيهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-:
» طوبى للغرباء أناس صالحون في أناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن
يطيعهم « [9] .
10- قبول الحق والتسليم له:
إن من علامات الصدق لدى المسلم إذعانه للحق وقبوله من أي أحد كان
فالصادق لا تراه إلا باحثاً عن الحق الذي يتعبد به لربه عز وجل ويقربه إلى مولاه، وإذا بان له الدليل ولا ح له الحق فرح به ووجد فيه بغيته، ولا يرده إبداً سواء
أكان قائله صغيراً أو كبيراً، أكان عدواً أو صديقاً، وإذا وجدت هذه الصفة الكريمة
عند المسلم، وصارت من عاداته وأخلاقه فإنها تنفي كثيراً من الصفات الذميمة مثل
الكبر والاستعلاء والتعصب للآراء والتحزب للأشخاص والهيئات، كما أنها تورث
المحبة والألفة بين أهل العلم والدين، وتورث الاجتماع والائتلاف وتنفي الفرقة
والاختلاف، كما أن قبول الحق والتمسك به يقتضي القول به والدعوة إليه دون
لبس أو تردد، فالصادق لا تراه إلا صادعاً بالحق لا يخاف في الله لومة لائم، ولا
يجامل ولا يداهن.
هذه بعض صفات الصادقين.. والله نسأل أن يجعلنا من الصادقين قولاً
وفعلاً.. والله المستعان.