مطالعات
مواقف العلماء تحيي الأمة
قد مات في حديدهم أقوام
حسن قطامش
حين يَدْلَهِمّ الخطب، ويجل الأمر، ويظهرالفساد، ويشيع الظلم في كثير من
البلدان التي نَحّت الحكم بما أنزل الله، حينئذ يخشى الناس على أنفسهم وأولادهم
وذويهم، فيضطرون إلى الانزواء بعيداً عن معترك الأحداث بل ويخضعون لهذا
الواقع المظلم، ويستسلمون له بعد أن ألجمت ألسنتهم تلك الأوضاع، فنجدهم قد
رضوا أن يتجرعوا مرارة الصبر، وربما شربوا كؤوس الذل والمهانة، لكن الظالم
ينسى حين بغيه وجبروته تدبير الخالق العزيز الجبار وأنه له بالمرصاد، فيتمادى
في بغيه ويزيد في طغيانه، ولكن يأبى الله إلا أن ينصر دينه ويتم نوره، ويدحض
الباطل، ويعلي الحق، فيقيض لتلك الشعوب الذليلة المنكسرة من يخرجها من
خنوعها وذلتها، ويبعث فيها روح العزة والكرامة وذلك حين يضحي العلماء والدعاة
بأنفسهم، حينما يقعون تحت سياط الجلادين وسيوف الجبارين وأعواد المشانق،
لأنهم لا يخافون في الله لومة لائم ليقولوا للناس: إن الموت في سبيل الله خير من
الموت جبناً وذلاً، ويقيض الله كذلك لأولئك الظلمة الطغاة من يرهب قلوبهم،
ويزلزل كراسيهم بالصدع بكلمة الحق ابتغاء مرضاة الله، بعد أن يتخذوا كل
الوسائل المتاحة والمشروعة لذلك، وبعد أن يصر الظالم على ظلمه، ويقف من
شرع الله موقف المعارض ويقف من الدعاة إلى الله موقف المعادي والمحارب.
إن إحياء الأمة من مواتها، وبعثها من غفوتها ونومها، وإخراجها من عبادة
غير الله، وقيادتها إلى ربها وسوقها إليه سوقاً جميلاً، وحمل هذا الدين والسعي به
والجهاد في سبيله، إن هذا وغيره هو من سمات العلماء الفحول عبر تاريخنا المجيد، ونستعرض هنا صوراً من مواقف أولئك العلماء لعلها تكون إحياءاً للغافلين،
ورهبة للظالمين، إذ ضحوا بأرواحهم في سبيل إعلاء دين الله سبحانه، وهي
العزاء لكل مسلم يسوؤه تلك التصرفات الجائرة ضد الدين ودعاته.
ولو استرجعنا التاريخ لوجدنا الأمر لا يكاد يختلف، بل يسجل التاريخ تلك
الحقيقة الجلية ألا وهي الصراع بين حزب الرحمن وحزب الشيطان، ولن تموت
أمثال هذه الكلمات الصادقة: «ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه
قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم ... » ! !
فإلى أولئك الذين يسقطون ظلماً وعدواناً في الدفاع عن الإسلام ودعوته:
ليعلموا أنه قد سبقهم أقوام على الطريق نفسه، وإليك أخي صوراً من تلك المواقف. [سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاْ ولن تجد لسنة الله
تحويلا] [1] .
الإمام البويطي [2]
هو العلامة، سيد الفقهاء، يوسف أبو يعقوب بن يحيى المصري البويطي
صاحب الشافعي ولازمه مدة وفاق الأقران، وكان إماماً في العلم قدوة في العمل
زاهداً ربانياً متهجداً، دائم الذكر.. سعى به أصحاب ابن أبي دُؤاد حتى كتب فيه
ابن أبي دُؤاد إلى والي مصر فامتحنه أي في محنة خلق القرآن فلم يجب، وكان
الوالي حسن الرأي فيه، فقال له: قل فيما بيني وبينك، قال: إنه يقتدى بي مئة
ألف، ولا يدرون المعنى! ! فأمر به أن يحمل إلى بغداد.
قال الربيع بن سليمان: رأيته على بغل في عنقه غلٌ، وفي رجليه قيدٌ وبينه
وبين الغل سلسلة فيها لَبِنَةٌ طوبة وزنها أربعون رطلاً، وهو يقول: «إنما خلق
الله الخلق» بكن «فإذا كانت مخلوقة فكأن مخلوقاً خُلق بمخلوق.. ولئن دخلت
عليه لأصْدُقَنّه يعني الواثق ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد
مات في هذا الشأن قوم في حديدهم» .
وتوفي رحمه الله في قيده مسجوناً بالعراق في سنة إحدى وثلاثين ومئتين من
الهجرة.
الإمام نعيم بن حماد [3]
هو العلامة صاحب التصانيف، وكان شديداً في الرد على الجهمية حُمل إلى
العراق في إبان تلك الغيمة مع البويطي مقيدين..
وكان يقول: «من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف به نفسه فقد
كفر، وليس في ما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيه» .
قال ابن يونس: حُمل على القول بتلك الفرية فامتنع أن يجيب فسجن ومات
في سجنه سنة تسع وعشرين ومئتين، وجر بأقياده، فألقي في حفرة، ولم يكفن ولم
يصلى عليه.. وأوصى نُعيم بن حماد أن يدفن في قيوده وقال: «إني مخاصم» .
الإمام الخزاعي [4]
هو أبو عبد الله أحمد بن نصر الخزاعي، كان أماراً بالمعروف، قوالاً بالحق
من أكابر العلماء العاملين، ومن أهل العلم والديانة.
حمل من بغداد إلى سامراء مقيداً، وجلس له الواثق فقال له: «ما تقول في
القرآن؟» قال: «كلام الله» ، ق ال: «أفمخلوق هو؟» قال: «كلام الله»
قال: «فترى ربك يوم القيامة؟» قال: «كذا جاءت الرواية» قال: «ويحك
يُرى كما يُرى المحدود المتجسم، ويحويه مكان، ويحصره ناظر؟ أنا كفرت بمن
هذه صفته ... » ، ما تقولون فيه؟ «
فقال قاضي الجانب الغربي:» هو حلال الدم «ووافقه فقهاء، قال الواثق:
» ما أراه إلا مؤدياً لكفره قائماً بما يعتقده «ودعا بالسيف وقام. وقال:» إني
لأحتسب خُطاي إلى هذا الكافر.. «فضرب عنقه بعد أن مدوا له رأسه بحبل وهو
مقيد.
قال الحسن بن محمد الحربي: سمعت جعفر الصائغ يقول: رأيت أحمد بن
نصر حين قتل ... قال رأسه: لا إله إلا الله والله أعلم.
وعُلق في أذن أحمد بن نصر ورقة فيها:» هذا رأس أحمد بن نصر دعاه
الإمام إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه فأبى إلا المعاندة فجعله الله إلى ناره «
وبقي رأسه منصوباً ببغداد، والبدن مصلوباً بسامراء وفي رجليه زوج قيود.
هذه صور لابتلاء العلماء على مر التاريخ من الظلمة والطواغيت والنتيجة أن
أولئك العلماء يترحم عليهم حتى الآن، أما أولئك الظلمة المحادون لله ولرسول
ولشريعته، فإنهم محل المقت والكراهية.. [وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب
ينقبلون] [5] .