دراسات اقتصادية
معالجة الأزمات الغذائية
- 2 -
د.محمد بن عبد الله الشباني
في العدد الماضي تطرقت إلى بعض من جوانب كيفية معالجة الأزمات
الغذائية على ضوء التصور الإسلامي باستعراض بعض الأحاديث التي وضحت
كيفية معالجة النقص الفعلي للمواد الغذائية أو غيرها من السلع، وفي هذا العدد
سوف أعالج جانباً آخر من الجوانب التي قد تؤدي إلى بروز ظاهرة الأزمات
الغذائية أو النقص في السلع التي يحتاج إليها الأفراد، هذا الجانب هو الجانب
الكمي للسلع وكيفية التحكم في ميكانيكية العرض والطلب، أي التحكم في حركة
السوق.
لقد جاءت أحاديث عديدة تعالج هذا الجانب بشكل يتفق مع واقع الحياة ولا
يتعارض مع ميكانيكية السوق، بل إنه يحفزها بالشكل الذي يجعل لميكانيكية السوق
دور في تنظيم العرض والطلب بالأسلوب الذي يخدم حركة التبادل التجاري.
روى البخاري عن نافع أن عبد الله بن عمر حدثه «أنهم كانوا يشترون
الطعام من الركبان على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فيبعث عليهم من يمنعهم
أن يبيعوه حيث اشتروه حتى ينقلوه حيث يباع الطعام» [1] ، وفي رواية للبيهقي:
كنا نتلقى الركبان فنشتري منهم الطعام فنهانها النبي -صلى الله عليه وسلم- أن
نبيعه حتى نبلغ به سوق الطعام، وذكر البيهقي في سننه أن الغاية من منع البيع
حتى ينقلوه إلى سوقه لئلا يغلوا الطعام هناك على من يفد، وأنه في ذلك الموقع
أرخص.
كما روى البخاري وأحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن
رسول الله «قال: لا يبع بعضكم على بيع أخيه [2] ، كما رُوي في الموطأ وفي
السنن للبيهقي عن عبد الرحمن بن أبي ربيعة أن عمر بن الخطاب خرج إلى السوق
فرأي ناساً يحتكرون بفضل أذهابهم فقال عمر لا ونعمة عين يأتينا الله عز وجل
بالرزق حتى إذا نزل بسوقنا قام أقوام فاحتكروا بفضل أذهابهم عن الأرملة
والمسكين إذ خرج الجلاب باعوا على نحو ما يريدون من التحكم، ولكن جالب
جلب على عمود كبده في الشتاء والصيف حتى ينزل سوقنا فذلك ضيف لعمر فليبع
كيف شاء الله وليمسك كيف شاء الله.
كما رُوي عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة
بسوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب فسأله عن سعرهما فسعر له (مدّين)
لكل درهم فقال له عمر رضي الله عنه حُدثتُ بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيباً،
وهم يعتبرون بسعرك فإما أن ترفع في السعر وإما أن تدخل زبيبك البيت فتبيعه
كيف شئت، كما روى مالك عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن عمر بن الخطاب كان
يأخذ من النبط من الحنطة والزيت نصف العشر، يريد بذلك أن يكثر الحمل إلى
المدينة ويأخذ من القطنية العشر.
بدراسة الأحاديث والآثار السابقة نجد أن الإسلام عالج جانب العرض والطلب
للسلع باستخدام بعض الأساليب التي تساعد على تحقيق التوازن بين العرض
والطلب، وتؤدي بالتالي إلى استقرار السوق، وإبعاد الوسائل المؤثرة على منحنى
العرض والطلب، وتتمثل هذه الاجراءات العملية في الأمور التالية:
أولا: إزالة إمكانية ظاهرة التأثير الكاذب على العرض أو الطلب والذي قد
يؤدي إلى تذبذب الأسعار مما قد يسيء إلى المشترين والبائعين؛ لهذا نجد أن
المنهج الإسلامي التطبيقي يحبذ وجود الأسواق المتخصصة والتي يتم فيها البيع
والشراء في سلع معينة مع منع البيع خارج هذه الأماكن، وهو بهذا يحقق عنصراً
مهماً من عناصر فعالية ميكانيكية السوق وهو اجتماع البائعين والمشترين في مكان
واحد، والغرض من ذلك تحقيق السعر العادل، وعلى ذلك نفهم الغاية من نهي
الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن الطعام قبل وصوله إلى سوق الطعام، حيث
يوجد المشترون الراغبون في الشراء والبائعون الراغبون في البيع، ويتحقق بذلك
حماية المشترين من احتكار بعض الفئات كما يحمي البائعين من حصول الغبن الذي
قد يصابون به من جراء تلقي بعض المشترين لهذه السلع قبل وصولها، ويندرج
ضمن هذا المفهوم منع احتكار بيع سلع معينة لأشخاص معينين، وهو ما يعرف
بنظام الوكالات التجارية لأنه يشبه بيع الحاضر للبادي وهذا النوع من الاحتكار
يعاني منه الناس كثيراً حيث يتحكم الوكيل في سعر بيع السلع، وسعر قطع غيارها
إذا كانت سلعة رأسمالية، وهو أمر مشاهد في النظام الرأسمالي، كما أنه يتحكم في
وجود سلع تعوّد عليها الناس واحتكرت له، فأصبح الوكيل هو البائع الوحيد للمنتج
مما يجعله يتحكم في الأسعار كيف يشاء.
ثانياً: حق الدولة في التدخل لمنع الظروف التي تجعل أصحاب رؤوس
الأموال يتحكمون في احتكار السلع بسبب قدراتهم المالية، فنجد أن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه عمد إلى حماية البائعين الذين يجلبون السلع من خارج مكان
تسويقها، وذلك بتوفير ظروف وجودها لهم في السوق فأمر بأن يتم إطعام وإسكان
الجالبين للسلع من خارج المدينة بأن تتولى الدولة توفير أماكن للسكن والإقامة
والتخزين للسلع، وذلك بأن تتولى الدولة توفير مخازن عامة في كل بلدة لتخزن
فيها السلع التي ترد إلى المدينة أو القرية، وهذه المخازن تعود ملكيتها للدولة
وتؤجر بسعر زهيد أو مجاناً مع توفير مساكن يقطنها الجالبون للسلع خلال فترة
تواجدهم للبيع، إما مجاناً أو بأسعار زهيدة تشجع على البقاء لفترة كافية تساعد على
إيجاد السلع للراغبين في الشراء من أهل القرية أو المدينة، أي أن الأمر متروك
للدولة الإسلامية وفق الظروف المتاحة لها لاتخاذ الأساليب التي تشجع على استقرار
الأسعار ووجود السلع بدون احتكار لها.
ثالثا: تعمد الدولة إلى التدخل لتحقيق الاستقرار السعري للسلع، أي منع
الانهيار السعري للسلع من خلال تنظيم وجود السلع في السوق لمنع ظروف الندرة، ولا يتأتى ذلك إلا بمراعاة ظروف العرض والطلب، وما فعله عمر رضي الله
عنه مع حاطب، إنما هو دليل يمكن الأخذ به وذلك بحق الدولة في التدخل في
العمل على استقرار الأسعار؛ لما يعود على حركة التبادل التجاري بالمنفعة، حيث
أن من واجبات الدولة العمل على توفير السلع في السوق، وتشجيع حركة التبادل
التجاري بين مختلف الأقطار والأقاليم، وهذا لا يمكن تحقيقه في ظل ظروف فساد
السعر السوقي فعمل عمر مع حاطب يرشد إلى أن على الدولة التدخل لحماية
الأسعار حتى لا يؤثر ذلك مستقبلاً على حركة التبادل، وبالتالي حتى لا يحدث
نقص في السلع مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار وحصول الشح أي أن على الدولة
تحقيق السعر العادل لمختلف السلع والخدمات ومنع الأفراد الذين قد يعمدون إلى
إفساد السوق من خلال تخفيض السعر مؤقتاً، ثم رفعه في فترة لاحقة بعدما يقل
توافر السلع، أي محاربة ما يعرف في هذا العصر بسياسة الإغراق المتمثلة في
تخفيض الأسعار بأقل من التكلفة الذي تعمد إليه بعض الدول أو بعض التجار عند
غزو سوق من الأسواق من أجل السيطرة عليه مستقبلاً، وتحقيق فرق السعر الذي
يتم بتخفيض أسعار السلع خلال فترة الإغراق بعد ذلك، وتحقيق السعر الذي ترغبه
بعد أن يفسد السوق ويقل العرض فيه.
رابعاً: استخدام الضرائب الجمركية كأداة لتحقيق وجود السلع في السوق،
أي أن تكون الضرائب الجمركية أداة مالية لتحقيق التوازن في حجم العرض مع
الطلب، أي أن وظيفة الضرائب الجمركية لا يقصد منها زيادة موارد الدولة المالية
كهدف، وإنما هي أداة لتحقيق كفاية وجود السلع في السوق المحلي؛ لهذا يمكن
للدولة الملتزمة بتطبيق التشريع الاقتصادي الإسلامي استخدام هذه الأداة المالية
كأسلوب من أساليب تحقيق الحجم الأمثل في وجود وتوافر السلع، وهي السياسة
التي اتبعها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سوق المدينة، وهي
سياسة يمكن انتهاجها لكن لا بد من معرفة أن الغاية من السياسة الجمركية ليس
زيادة الموارد ولا حماية فئات معينة من المنتجين المحليين على حساب المستهلكين، وإنما يكون الهدف تحقيق التوازن الكمي بين العرض والطلب وفق السعر العادل
الذي لا ضرر فيه ولا ضرار.
إن معالجة الإسلام لمشكلة الأزمات الغذائية لا يقتصر على الجانب التنظيمي
فقط، ولكن الإسلام ينظر إلى الجانب السلوكي للأفراد والذي قد يؤدي إلى إيجاد
الأزمات السلعية، فقد يكون السلوك من العوامل المؤثرة في تفاقم أزمات النقص في
السلع وارتفاع أسعارها، لهذا فقد عالج الإسلام هذا الجانب ضمن منهجه في التكامل
في معالجة المشكلات، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن مسعود أن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن التبقر [3] في المال والأهل، كما روى
مسلم وأبو داود عن جابر بن عبد الله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له
فراش للرجل وفراش لامرأته والثالث للضيف والرابع للشيطان [4] ، ورُوي عن
عروة بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال كلوا
واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير مخيلة وسرف [5] .
وباستقراء هذه الأحاديث نجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام وجه الأمة إلى
ضرورة إدراك أهمية السلوك الاستهلاكي في التأثير على وجود السلع وتوفرها،
وأن الإنفاق الزائد عن الحاجة مظهر من مظاهر التبذير التي لا يحبها الله، فهو
مسلك شيطاني قد حذر القرآن الكريم من انتهاجه كما في قوله تعالى [إن المبذرين
كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا] [6] .
إن من المشاكل التي يعاني منها المجتمع المعاصر والتي لها دور كبير في
التأثير على حركة الاقتصاد، الاتجاه المتزايد إلى الإنفاق الاستهلاكي واستخدام
جميع الوسائل الإعلامية لإيجاد هذا الاتجاه، إن تزايد الإنفاق الاستهلاكي يؤثر على
القدرة الإدخارية لأفراد المجتمع، مما يؤدي إلى ضعف توافر المال الكافي
للاستثمار، مما ينتج عن ذلك خلل في الدورة الاقتصادية.
المنهج الإسلامي في معالجة أزمات النقص في السلع بما في ذلك السلع
الغذائية، مما له علاقة بالسلوك الاجتماعي والذي يؤدي إلى إيجاد أزمات النقص
في السلع الغذائية، يتمثل في اتباع السياسات التالية:
1- ضرورة تقليص الإنفاق فيما لا تدعو الحاجة إليه، مراعاة أن يكون
الإنفاق الأسري متوازناً، فلا يكون هناك توسع إنفاقي لا تدعو إليه الحاجة ولكن
الإنفاق ينبغي أن يتقيد بمفهوم قوله تعالى [ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماْ
محسوراْ] [7] .
وعليه فإن الدولة التي تسترشد بالمنهج الإسلامي في معالجة أمورها
الاقتصادية إصدار اللوائح التنظيمية التي تحد مثلا من الإسراف في الإنفاق
الاستهلاكي الزائد عن الحاجة، ووضع الاجراءات التي تساعد على تقليص اتجاه
الإنفاق الاستهلاكي مثل وضع الضرائب المرتفعة على سلع الترف للحد من شرائها
على أن توجه حصيلة هذه الضرائب للإنفاق منها على تنمية المجتمع ومنع
الإعلانات المشجعة على شراء السلع الإستهلاكية وغير ذلك من الإجراءات التي
تحد من التوجه الإستهلاكي المخل بتوازن الدورة الاقتصادية.
2- توجيه الأفراد إلى انتهاج سياسة تقليص الرغبة في التراكم السلعي بدون
حاجة، وأن على الدولة انتهاج الأسلوب الذي يحد من الميل إلى التكالب على اقتناء
السلع بدون حاجة سواء أكان ذلك بإصدار التنظيمات الإدارية التي تدفع الأفراد إلى
الإحجام عن تملك ما يزيد عن حاجتهم، استرشاداً بالحديث النبوي الذي رواه جابر
بن عبد الله بالابتعاد عن المنهج الشيطاني في الإسراف بتملك ما لا حاجة إليه،
واتباع جميع الوسائل والطرق التي تحقق غاية ضبط السلوك الاجتماعي بما يخدم
فكرة التحكم في الميل الاستهلاكي.
3- منع المغالاة في الإنفاق بضبط السلوك الاستهلاكي، والتدخل في تحديد
رغبات الأفراد لما لذلك من تأثير في الميل الاستهلاكي والذي بدوره يؤثر على
دورة النشاط الاقتصادي، فتقليص الاستهلاك والحد منه قد يؤدي إلى التأثير على
الاستثمار مما يسبب في ضعف حركة التبادل والإنتاج ولذلك ينبغي أن لا يُفهم من
الحد من الإنفاق الاستهلاكي محاربة الإنفاق الاستهلاكي، ولكن ينبغي أن يكون
ضمن إطار عدم الإضرار بالنشاط الاقتصادي، وأن يكون الإنفاق الاستهلاكي
موجهاً نحو السلع ذات العائد الإنتاجي، أي أن يتم تشجيع الاستهلاك المعتدل الذي
يحقق التوازن في حلقات الدورة الاقتصادية.
إن معالجة الإسلام لمشكلة الأزمات الغذائية وفق ما تم استعراضه إنما ينبع من
التصور الأساسي الذي يقوم عليه الفكر الإسلامي والمتمثل في الوسطية في معالجة
الأمور، فلا إفراط ولا تفريط ضمن المفهوم الذي شرعه الله في كتابه في قوله
تعالى [وكذلك جعلناكم أمة وسطاْ لتكونوا شهداء على الناس] [8] وهذه الوسطية
هي التي يدور عليها مدار الأمر في الإسلام عند معالجته لجميع القضايا الاجتماعية
والاقتصادية.