مجله البيان (صفحة 1659)

دراسات اقتصادية

الإسلام والقضايا الاقتصادية المعاصرة

معالجة الأزمات الغذائية

(?)

د. محمد بن عبد الله الشباني

مقدمة:

ترتبط المشكلات والأحداث السياسية بالقضايا الاقتصادية، فالأوضاع

الاقتصادية لها تأثير في مسار الأحداث والتغيرات التي تصيب الدول والشعوب

والحضارات؛ لهذا فإن الأوضاع الاقتصادية وكيفية معالجتها تؤدي إلى التأثير سلباً

أو إيجاباً على صمود الدول والمجتمعات تجاه رياح التغيير، فكلما تمت معالجة

الأوضاع الاقتصادية وفق سنن الله ووفق قواعد العدل، فإن رياح التغيير لا تتمكن

من التأثير في أوضاع الدول والمجتمعات، ولكن إذا سارت المجتمعات في

تنظيماتها حسب الأهواء والرغبات، وخالفت سنن الله الكونية فإن مآلها إلى

الزوال.

إن الإسلام دين يجمع بين دفتيه خيري الدنيا والآخرة، ويعالج مشكلات الحياة

الدنيا بنفس القدر الذي يعالج فيه أمور العقيدة، وما يتصل بها من مسائل ذات

ارتباط بوجود الإنسان وغايته على هذا الكوكب.

يُتهم الإسلام من قبل أعدائه وجزء كبير من المنتسبين إليه ممن يدعي الثقافة

والعلم بأنه لا يمتلك تصوراً كاملاً لتنظيم شؤون الحياة الاقتصادية والاجتماعية وأن

المعطيات المعاصرة لا تتلاءم مع التنظيمات الجزئية التي أمر بها الإسلام. لهذا

فإنه ينبغي على المجتمعات الإسلامية إذا أرادت الخروج من واقعها أن تتبنى

المناهج الغربية في التنظيم الاقتصادي والاجتماعي، ولهذا تتجه الدول الإسلامية

قِبَل البنك الدولي ليضع لها السياسات الاقتصادية، والاجتماعية التي يجب على هذه

الدول اتباعها إذا أرادت الخروج من واقعها الاقتصادي السييء.

إن هذه المقولة وتبنيها من أصحاب القرارات في العالم الإسلامي والإيمان بها

من قِبَل قادة الفكر الاقتصادي والسياسي، إنما ينبع من جهل كامل بالإسلام وتعاليمه

وقلة الفقه بالتشريع الإسلامي، ومحاربة كل توجه للأخذ بالإسلام، والتسليم الكامل

بالمقولات الغربية الناتج عن الانهزام النفسي والمادي الذي أصاب العالم الإسلامي

تجاه القوى الغربية المتسلطة.

إن من أهم مجالات الدعوة للعودة للإسلام في هذا العصر هو إبراز التصور

الإسلامي لما يمكن أن يقدمه الإسلام من حلول في المجال الاقتصادي ولهذا فإن

الغاية التي أرمي إليها من نشر هذه السلسلة من المقالات في مجلة البيان هو

المشاركة في إبراز ما يحتويه الإسلام من ثروة علمية في تنظيم الحياة الاقتصادية

المعاصرة، وما يشتمل عليه من مبادئ اقتصادية علمية ينبغي للمجتمعات الإسلامية

الأخذ بها، وتطبيقها في الواقع المعاش.

إن المنهج الذي سوف أتبعه في استعراض القضايا الاقتصادية المعاصرة هو

أخذ أي مشكلة اقتصادية أو وضع تنظيمي اقتصادي معاصر وإبراز وجهة النظر

الإسلامية من خلال دراسة الأدلة الشرعية من القرآن والسنة بإيضاح المنهج الذي

يرشد إليه الإسلام في معالجته لهذا الوضع، ومدى قابلية هذا المنهج للاسترشاد به

في حل الأوضاع الاقتصادية المعاصرة، وإبراز مدى التفرد والتميز والواقعية

للمنهج الإسلامي في معالجة الأمور الاقتصادية.

النقص المؤقت للسلع:

من المشكلات الاقتصادية التي تواجه المجتمعات المعاصرة مشكلة النقص

المؤقت للسلع التي يحتاج إليها الأفراد: هذا النقص قد يكون ناتجاً عن سوء السلوك

الإداري للمديرين الذين يتولون إدارة الاقتصاد في المجتمع، أو قد يكون ناتجاً عن

عناصر التدخل في ميكانيكية السوق بالاحتكار وحجب السلع عن السوق، أو قد

يكون ناتجاً عن نقص فعلي في السلع.

إن معالجة النقص في السلع مرتبط بمعالجة السبب المحدث للنقص والإسلام

يعالج الأسباب الجزئية، لكن علاجه لا يمكن أن يؤدي دوره الكامل والفاعل إذا لم

يكن الإطار العام للتنظيم الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي للمجتمع يخضع

لقواعد وقيم الإسلام الحاكمة للفكر والتوجيه العقائدي والسلوكي، ولهذا ينبغي إدراك

هذه الحقيقة، وان العلاج لجزئية من الجزئيات لا تنفصل عن الإطار الكلي

للعلاقات التأثيرية لمختلف الأنظمة الاجتماعية.

لقد وردت أحاديث نبوية عديدة تعالج معظم الأسباب التي تؤدي إلى وجود

وظهور النقص في السلع، وفي هذه الحلقة سوف أقتصر على كيفية معالجة الإسلام

للنقص الفعلي، أما الأسباب الأخرى لمعاجة مشكلة الأزمات الغذائية فسوف

أستعرضها في مقالة لاحقة إن شاء الله.

روى مسلم ومالك والبيهقي، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الله بن واقد

أنه قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاثة، قال عبد الله بن أبي بكر فذكرت ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن، فقالت: صدق

سمعت عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- تقول: دف [1] أهل أبيات من

أهل البادية حضرة الأضحى زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول

الله -صلى الله عليه وسلم-: ادخروا ثلاثاً ثم تصدقوا بما بقي، فلما كان بعد ذلك

قالوا: يا رسول الله: إن الناس يتخذون الأسقبة من ضحاياهم ويحملون فيها

الودك [2] ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما ذاك؟ قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال: «إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت عليكم فكلوا وادخروا وتصدقوا» وفي رواية من طريق آخر لدى ابن ماجة عن عبد الرحمن بن عايش عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: إنما نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن لحوم الأضاحي لجهد الناس، ثم رخص فيها وفي رواية للبخاري عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:

«من ضحى منكم فلا يبقينّ بعد ثالثة وفي بيته منه شيء» فلما كان العام المقبل قالوا: يا رسول الله نفعل كما فعلنا العام الماضي؟ قال: كلوا وأطعموا وادخروا فإن ذلك العام كان بالناس جهدٌ فأردت أن تعينوا فيها.

وقد روى البخاري ومسلم عن أبي موسى قال: قال رسول الله -صلى الله

عليه وسلم-: «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة

جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم

مني وأنا منهم» .

بدراسة الأحاديث السابقة نجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام عالج النقص

السلعي في المدينة بأسلوب توجيهي للأمة ليقتدي به قادة الأمة الإسلامية حيث وضع

عليه الصلاة والسلام منهجاً تطبيقياً ينبغي على الدولة المسلمة اتباعه عند حدوث

النقص في السلع التي يحتاج إليها الناس خلال فترة النقص ويتمثل هذا المنهج في

التدخل وبالمعالجة الوقتية وفق هذا التوجيه النبوي القائم على مواجهة الظروف،

فمعالجة الرسول -صلى الله عليه وسلم- للمجاعة عندما وفدت أعداد من الأعراب

إلى المدينة في عيد الأضحى أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الاحتفاظ بلحوم

الضحايا لأكثر من ثلاثة أيام، وعندما انتهت الأزمة سمح بالادخار. هذا التوجيه

النبوي يمكن انتهاجه واعتباره استراتيجية يتم اتباعها عند مواجهة الأزمات التموينية، فعند نقص السلع يمكن تدخل الدولة بتقنين كمية الاستهلاك الفردي، ومنع الادخار. يؤكد هذا الأمر حديث أبي موسى عن الأشعريين حيث ورد في الحديث تحبيذ

الرسول -صلى الله عليه وسلم- لمنهجهم في حالتين: الأولى في حالة السفر،

وعند نقص الإمدادات، والثانية في المدينة عند نقص الكميات المتوافرة، والتوجيه

النبوي تعليم للأمة وإرشاد إلى المنهج الذي ينبغي اتباعه في حالة نقص المواد

السلعية الاستهلاكية سواء أكان بسبب نقص الإنتاج أو التأخر في الحصول عليه من

خلال الجلب، أي التأخر في الاستيراد لأي سبب، فعندئذ يمكن تحديد كمية

الاستهلاك من هذه السلع الناقصة بحيث لا يزيد الشراء عن حاجة ثلاثة أيام، كما

أنه يمكن حصر الكميات المتوفرة في الأسواق وبيعها على الناس وفق حاجة الفرد

الاستهلاكية لمدة ثلاثة أيام، وعلى الجهاز الحكومي استخدام الأساليب التنفيذية

اللازمة باستخدام جميع المعطيات العلمية المتوفرة لتنفيذ هذا التوجيه النبوي. إن

هذا الإجراء ليس إجراءاً مستمراً، وليس قاعدة عامة تتبع في كل حين، بل إن هذه

المعالجة جاءت لمجابهة واقع النقص فقد أوضح حديث الأشعريين أن هذا الإجراء

مرتبط بالأزمات، حيث أشار الحديث إلى اتباع سياسة التوزيع التمويني عند

النقص الفعلي للسلع، ولكن لا يكون ذلك أسلوباً دائماً وسياسة تموينية ثابتة، ونمطاً

في ممارسة إدارة الاقتصاد التمويني، لكن هذا الأسلوب يتبع فقط عند حدوث

الأزمات، وعندما تنفرج فإن القاعدة العامة ترك الناس يتصرفون وفق رغباتهم

وقدراتهم المالية، ووفق واقع السوق الذي يوجه عملية التبادل التجاري وفق قانون

العرض والطلب.

إن أسباب النقص الفعلي للسلع تتمثل في أمرين حسب ما أشار إليه حديث أبي

موسى وهما:

الأول: عند نقص الإنتاج من السلع لظروف طبيعية خارجة عن إرادة

الإنسان فنتج عن ذلك نقص في الكمية المعروضة للبيع عن الحاجة الاستهلاكية.

والثاني: قلة الجلب (الاستيراد) وهو تأخر أو امتناع المستوردين عن الاستيراد أو

ضعف الدولة عن استيراد كامل ما تحتاجه من السلع من خارج إقليمها أو نتيجة

لحصار اقتصادي مفروض عليها من أعدائها.

المعالجة الإسلامية للأزمات الغذائية لا تخرج في إطارها العام عن المعالجة

المعاصرة، إلا أن الإسلام يتميز بعنصر لا يوجد في أي نظام من الأنظمة

الاقتصادية المعاصرة، هذا التميز يتمثل في أن امتثال القرارات الإدارية التي

تصدر عن ولاة الأمر تلقى القبول النفسي والتنفيذي الطوعي لارتباطها بالإيمان

العقائدي للأفراد، فالمسلم يقبل ما تفرضه الدولة من إجراءات باعتباره تحقيقاً

لمصلحة عامة، ولكنه قبل ذلك باعتباره مطلباً شرعياً يرتبط بمفهوم تحقيق العبادة

لله. إن نجاح هذا المنهج لا يتوقف على التنفيذ التطبيقي الجزئي لهذا الإجراء فلا

يمكن نجاح هذا الإجراء في مجتمع غالبية شعبه مسلم إذا لم تكن أنظمة هذا المجتمع

في جميع مناحي الحياة تلتزم بالتشريع الإسلامي، لهذا نجد أن عمليات تقنين

الاستهلاك في المجتمعات الإسلامية غير ناجحة بسبب أن التنظيمات الاجتماعية

الأخرى مخالفة، وبالتالي لا تجد القرارات التنظيمية التي يقرها الإسلام ويأمر بها

القبول من قبل الجماهير الإسلامية في الدول الإسلامية بسبب التناقض في توجهات

هذه الدول ومناهجها التنظيمية الأخرى التي تتصادم مع أساسيات الدين وقواعده.

إن التنظيم الإسلامي في جزئية من الجزئيات لا يمكن نجاحه إذا فصل عن

التنظيم الكلي، لهذا لا يمكن نجاح أي تنظيم اقتصادي كجزئية إذا كانت بقية

الأجزاء تتصادم معه، وأكبر دليل على ذلك ما يتم انتهاجه بتقديم حلول فقهية

لمشاكل اقتصادية أوجدها نظام اقتصادي لا يرتبط بالإسلام بل يعارضه ويعاديه.

ومثال على ذلك نجد عدم قدرة البنوك الإسلامية في تحقيق التغيير في التنظيم البنكي

ولجوءها في كثير من الأحيان إلى البحث عن الحيل الشرعية لكي توائم واقعها

التنظيمي مع الواقع التنظمي الاقتصادي للنظام الربوي السائد في تلك المجتمعات،

التي أجازت قيام مثل هذه البنوك أي البنوك الإسلامية مع إلزامها بالخضوع لفلسفة

ومنهج النظام الربوي. هذا الوضع البيئي للبنوك الإسلامية أدى إلى عجزها عن

التفرد والتميز بل أصبحت في معظم الأحيان أدلة يعتبرها المعارضون لأسلمة

الاقتصاد، فيتخذون واقع هذه البنوك حجة لعجز الإسلام عن إيجاد البديل العملي،

مما دفع ببعض من ينتسب إلى العلم الشرعي بإجازة صور عديدة من الربا وتغيير

مسمى الفائدة أو الربا إلى الربح أو العمولة..

طور بواسطة نورين ميديا © 2015