المسلمون والعالم
المسلمون في بلغاريا
بين الاستئصال والبقاء
د. عبد الله البراهيم
مقدمة:
بلغاريا هي إحدى دول شبه جزيرة البلقان التي تشكل جزءاً من القارة
الأوروبية يخترق البحر الأبيض المتوسط في ناحيته الشرقية كما تخترقه شبه
الجزيرة الإيطالية في وسطه وشبه الجزيرة الأيبرية (أسبانيا والبرتغال) في غربه.
وقد دخل الإسلام إلى أوربا من عدة محاور، كان أقدمها من جنوبها الغربي
عبر الأندلس في القرن الأول الهجري، ومن جنوبها عبر صقلية وإيطاليا في القرن
الثالث، وتغلغل في شمالها الشرقي حول نهر الفولجا وبين جبال الأورال وبحر
قزوين فيما كان يعرف بروسيا الأوروبية، ثم عبر المسلمون إلى شبه جزيرة البلقان
منطلقين من تركيا إبان الفتح العثماني في القرن الثامن الهجري واتجهوا شمالاً حتى
المجر والنمسا. [1]
نبذة تاريخية:
البلغار إحدى الأمم السلافية التي كانت تعيش في منطقة الأورال بالاتحاد
السوفيتي سابقاً وفي حوض نهر الفولجا، وقد عبرت إلى شبه جزيرة البلقان في
القرن السابع الميلادي، ثم اتجهت جنوباً قاطعة نهر الدانوب لتستقر فيما يعرف
حالياً ببلغاريا، وتأسست المملكة البلغارية الأولى في الفترة (675-1018م)
والمملكة الثانية من 1187 حتى 1393م حيث سقطت أمام جيش الفتح العثماني
لتبقى قرابة خمسة قرون تحت الحكم الإسلامي. وكان العثمانيون قد عبروا آسيا
الصغرى (تركيا حالياً) إلى أوربا عام 1345م وجعلوا من (أدرنة) عاصمتهم الأولى
في أوربا عام 1360 م ثم اتجهوا شمالاً ليفتحوا مدينة تورنوفو (شمال بلغاريا) عام
1393م وكانت العاصمة آنذاك، ثم وصلوا عام 1396م إلى فايدن (شمال غرب
بلغاريا) ثم اتجهوا غرباً لينتصروا على الصرب 1389م، ثم توسعوا في أوربا،
فاتجهوا شمالاً قاطعين نهر الدانوب؛ ليفتحوا رومانيا وجنوب بولندا ومعظم المجر
وأجزاء من النمسا في نهاية القرن السابع عشر الميلادي.
وفي 2 ابريل 1877م أعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية مدعية أن
لها الحق في حماية المسيحيين الأرثوذكس البلغار الذين كانوا يعيشون في ظل الدولة
العثمانية (تشترك روسيا مع البلغار في الأصل السلافي وفي الديانة الأرثوذكسية) .
ويدّعي الكُتّاب الغربيون [2] أن البلغار آنذاك قد تعرضوا لمذابح عام 1876م
حيث قتل العثمانيون كما يزعمون الآلاف من الرجال والنساء والأطفال، وأحرقوا
القرى والمدن، وبهذه الحجة عبر الجيش الروسي نهر الدانوب جنوباً، حيث هزم
الجيش العثماني بمساعدة آلاف البلغار المتطوعين وامتد الزحف حتى مشارف
إسطنبول، وتدخلت بريطانيا خوفاً من استقلال بلغاريا مما قد يؤدي إلى تقوية نفوذ
روسيا في المنطقة، وتم توقيع معاهدة برلين عام 1878م التي انسحب بموجبها
الجيش الروسي، وقسمت بلغاريا إلى خمسة أقسام أعيد بعضها للسلطان العثماني،
وأعطي غربها لصربيا، وسلمت البوسنة والهرسك للمجر والنمسا (لإدارتها) ، وبعد
إلغاء الخلافة الإسلامية عام 1908م أعلنت بلغاريا استقلالها في العام نفسه، ثم
خاضت الحربين العالميتين حليفة لألمانيا، وفي عام 1946م آلت الأمور إلى
الشيوعيين وكان آخر رئيس للجنة المركزية للحزب الشيوعي هو زيفكوف الذي
حكم البلاد من 1979م حتى أسقط في 10 نوفمبر 1989م.
بلغاريا اليوم:
وتتكون بلغاريا حالياً من 28 مقاطعة، ويحدها من الشمال رومانيا ومن
الغرب ما يعرف الآن بصربيا، ومن الجنوب الشرقي تركيا، ومن الجنوب اليونان
ومن الشرق البحر الأسود، وأهم مدنها: بلوفديف، فارنا، روسي بورجاس،
ستارا زاجورا، بليفن، وعاصمتها صوفيا في الغرب.
ومن المنتجات الزراعية في بلغاريا الحبوب والفواكه والخضروات، كما
تصدر الأغنام والدواجن والأجبان وعطر الورد والزيوت النباتية وبعض المنتجات
المعدنية، وتنتج الفحم والغاز الطبيعي.
يتبع البلغار الأمم السلافية (كالروس والصرب) ويتحدثون اللغة البلغارية
(وتشبه اللغة الروسية والصربية والبولندية) وهي لهجة من اللغة السلافية القديمة،
كما يستخدمون الأبجدية الكريليكية، وهي الأبجدية نفسها المستخدمة في روسيا وفي
جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً.
يبلغ عدد السكان (حسب احصائية 1989م) قرابة تسعة ملايين [3] يشكل
البلغار الأرثوذكس 78% منهم والمسلمون 22% (قرابة 2مليون) ، ويوجد بعض
اليهود والأرمن واليونانيين.
مناطق المسلمين:
ينقسم المسلمون في بلغاريا من حيث الأصل العرقي إلى خمسة أقسام:
1- مسلمون من أصل تركي، ويبلغ عددهم مليون مسلم تقريباً، يتوزعون
على مناطق عدة في شرق وشمال شرق بلغاريا (روسي تشومن بورجاس) وفي
جبال رودوب جنوب بلغاريا، وقرب الحدود التركية ويتحدثون اللغة التركية
والبلغارية معاً.
2- مسلمون من أصل بلغاري (البوماك) وقد أسلموا في القرن السابع عشر
الميلادي [4] ، ويصل عددهم إلى سبعمائة ألف يعيشون في المناطق الجبلية كجبال
رودب وقرب بليفن ولوفك.
3- مسلمون غجر ويشكلون ثلاثة أرباع الغجر في بلغاريا (والباقي مسيحيون)
ويبلغ عددهم قرابة أربعمائة ألف، وإجمالي عدد الغجر (576. 927) حسب
احصائية 1989م، ويتحدث بعضهم اللغة التركية، وبعضهم اللغة البلغارية،
ويتركزون في صوفيا بلوفديف سليفن فايدن لور بيتريك أرمشار دونا فتسي رازلوج
فارنا وبازارجيك.
4- مسلمون من أصل مقدوني (ومقدونيا موزعة حالياً بين شمال اليونان
ويوغسلافيا السابقة) .
5- مسلمون من أصل تتري، وهم من التتر الذي فروا بدينهم إبان اضطهاد
روسيا القيصرية لهم عام 1860م، وعددهم قرابة خمسة عشر ألفاً يتوزعون على
قرى قليلة في شمال شرق بلغاريا على ساحل البحر الأسود مثل بالكيك وكافارنا.
وبالإضافة إلى ذلك توجد جالية عربية يصل عددها إلى خمسة آلاف شخص
تقريباً ويتركز معظمهم في العاصمة صوفيا.
معاناة المسلمين في بلغاريا:
عانى المسلمون في بلغاريا من الإرث التاريخي للصراعات الدامية التي جرت
في البلقان، وينسى النصارى تماماً المذابح فيما بينهم بينما لا ينسون أي حادث
جرى عليهم من المسلمين، فتقوم قائمتهم وينادي مناديهم، ومن أهم الحوادث التي
جرت على النصارى في المنطقة أحداث عام 1876م حيث يتهم الكُتّاب الغربيون
الحكام المعينين من قبل الدولة العثمانية في بلغاريا بارتكاب مذابح راح ضحيتها
(عشرات الآلاف) من سكان السفوح الشمالية لجبال رودوب، وعذب الآلاف
واعتدي على النساء وازدحمت المدن الكبيرة بآلاف المهاجرين الذين تعرضوا
لمجاعة في ذلك الوقت [5] ، وسواء أصحت هذه الأخبار أم لم تصح فإن الحقد على
المسلمين ومعاناة المسلمين من التعصب الديني في دول البلقان أمر لا يختلف عليه
اثنان.
وإبان الحكم الشيوعي مارست السلطات أقصى أنواع الحرمان للمسلمين من
حق ممارسة شعائر دينهم، فأغلقت المساجد (وكان عددها 1200) وهدمت بعضها،
ومنعت المسلمين من ممارسة أركان الإسلام كالصوم والزكاة، كما منعت ختان
الأطفال [6] بحجة أنه (تدخل إجرامي ضد صحة الأطفال) [7] ومنعت دخول
المصاحف والكتب الدينية لبلغاريا، وألغت المدارس الدينية ومنعت تدريس اللغة
التركية، وهجّرت المسلمين إلى مناطق شبه معزولة ومنعتهم من الاحتفال بأعيادهم.
في عام 1947-1948م جرى تنصير ما يقارب (150. 000) بلغاري مسلم، ... وبدأت حملة لتغيير أسماء المسلمين إلى أسماء سلافية عام 1948م ثم حملة أخرى
في الستينات، وفي 1971م بعد المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي بدأت حملة أخرى
لتغيير أسماء البوماك، وحملة لتغيير أسماء المسلمين الغجر حيث غيرت أسماء ما
يقرب من أربعمائة ألف مسلم غجري.. وفي أواخر 1984م وأوائل 1985م بدأت
الحكومة حملة عنيفة لإرغام المسلمين الأتراك على تغيير أسمائهم، حيث أحيطت
القرى ذات الأغلبية التركية بالقوات من الصباح الباكر، وأرغم المسلمون تحت
تهديد السلاح بقبول الهويات الجديدة ذات الأسماء السلافية، وتم قتل ما يقرب من
300-1500مسلم لأنهم رفضوا ذلك وسجن وجرح الآلاف [8] .
وقام المسلمون الأتراك في أواخر مايو 1989م بمظاهرات سلمية في شمال
شرق وجنوب شرق بلغاريا مطالبين بإعادة أسمائهم الحقيقية، وشارك فيها آلاف من
المسلمين، وردت السلطات الشيوعية بعنف إذ استخدمت الكلاب البوليسية والقنابل
الدخانية والدبابات والحوامات، وراح ضحية تلك الأحداث عدد كبير من المسلمين
وطرد الآلاف على إثرها من بلغاريا حتى الذين لم يتظاهروا خصوصاً من كانوا
يحملون الدرجات العلمية كالأطباء والأساتذة والاقتصاديين والمهندسين. قال رجل
شرطة يومها لأحد المسلمين: «أنت لغتك مختلفة ودينك مختلف وكنت ترغب دوماً
في الذهاب لتركيا فاذهب لها الآن!» .
وتم بذلك إرغام أكثر من ثلاثمائة ألف مسلم بلغاري من أصل تركي على ترك
أراضيهم وبلادهم في فترة أقل من خمسة أشهر، ليشكل ذلك واحدة من أكبر
الهجرات التي عرفتها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
أما الغجر المسلمون فيعانون من التمييز والاحتقار، ويسكنون في مجمعات
سكنية مزدحمة جداً وفي أحياء خاصة بهم في ضواحي المدن في بيوت أكثرها مبني
من الألواح الخشبية، وتعيش غالباً أسرتان أو أكثر في الوقت نفسه، وتفتقر أحياء
الغجر إلى الخدمات الأساسية كالماء والصرف الصحي أو دورات المياه.. ففي
(فايدن) مثلاً يوجد (6000) غجري اضطروا لحفر الآبار لعدم توصيل المياه لهم،
كما لا يوجد الهاتف إلا في خمسة بيوت من أصل (1100) بيت، وقد صدر قرار
عام 1962م يقضي بعدم اختلاط أبناء الغجر والبوماك المسلمين مع أبناء الأتراك،
وأن لا يعين أساتذة من أصل تركي في مدارسهم، وأكثر من نصف الغجر أعمارهم
أقل من 16 سنة، ولم يكمل الابتدائية إلا 30% من الغجر، وأكثر من نصف من
هم فوق الثلاثين أميون [9] كما يحرمون من الرتب في الجيش، وتعهد إليهم
الأعمال الشاقة والمهنية عند خدمتهم (وكذلك الأتراك) ، وفي مدينة (بازارجك)
يسكن حوالي (27. 000) مسلم غجري في إحدى ضواحيها، وقد زرت ذلك الحي
ولم أجد مسجداً واحداً، والمسلمون هناك يعرفون أنهم مسلمون فقط، وقليل منهم
من يعرف أي شيء عن الإسلام، رأيت الأطفال فرحين يمرحون في ساحة مبنى
جديد ذكروا لنا أنه جامع، وأخبرني المترجم أنه مبنى لكنيسة ستقوم في هذا الحي
الذي لا يوجد فيه مسيحي واحد، وحالياً تتصارع الإرساليات التبشيرية على هذه
(المادة الخام) ، فأين المسلمون؟ وبماذا يقابلون ربهم ويجيبونه عن هذا التفريط؟ !
واقع المسلمين في بلغاريا:
على الرغم من سقوط الشيوعية عام 1989م وانفتاح بلغاريا على العالم إلا أن
الدستور الحالي الجديد يمنع تأسيس أحزاب على أساس عرقي أو ديني، ولذا لا
يجد المسلمون من يمثلهم في البرلمان عدا (حركة الحقوق والحريات) وهي حركة
أعلنت نفسها علمانية وتدافع عن حقوق الأقليات (ومن ضمنهم الأتراك) وفازت في
انتخابات البرلمان في يونيو 1990 م بـ (6. 9%) من الأصوات، وفاز الحزب
الاشتراكي البلغاري بـ 32. 9% (الشيوعيون سابقاً) كما فاز اتحاد القوى
الديمقراطية (المعارضة) بالأغلبية.
وللمسلمين مفتٍ أكبر (في الثلاثينات من عمره) ولهم مفتون في المناطق
عددهم تسعة، والجميع أعضاء في المجلس الروحي (مجلس الشورى للمسلمين)
ويوجد معهد إسلامي في صوفيا، وتوجد حالياً ثلاث مدارس بها تعليم ديني: واحدة
في روسي شمال شرق بلغاريا، وأخرى في تشومن شمال بلغاريا، وثالثة في
كارجيلي في الجنوب الشرقي، وتشرف على هذه المدارس دار الإفتاء في بلغاريا،
وهذه المدارس هي مباني أوقاف سابقة استطاع المسلمون استردادها، وهي غالباً
للمسلمين من أصل تركي (ولكن لا يمنع المسلمون الآخرون من الالتحاق بها) ،
واهتم بها الأتراك للحفاظ على هويتهم القومية! والتعليم الديني لأبنائهم، ولا توجد
مدارس ذات طابع ديني في مناطق البوماك أو الغجر، علماً أن البوماك أكثر حفاظاً
والتزاماً بالدين من القوميات الأخرى.
وتشهد المساجد عودة طيبة ولله الحمد إلى الإسلام حيث تمتلئ بالمصلين في
صلاة الجمعة، وبدأ المسلمون في أكثر المناطق المسلمة بفتح حلقات تحفيظ القرآن
خصوصاً للأطفال.
احتياجات المسلمين في بلغاريا:
ما يحتاجه المسلمون حالياً في بلغاريا هو معرفة دينهم، ويساعد على تحقيق
ذلك ما يلي:
* بناء المساجد والمساعدة على تعيين الأئمة والدعاة المختصين بالعلم
الشرعي.
* إرسال بعثات من أبناء المسلمين البلغار إلى الدول الإسلامية للدراسة فيها.
* تأسيس المدارس الإسلامية لتبصير أبناء المسلمين بأمر دينهم.
* طباعة الكتب الإسلامية باللغة البلغارية التي يفهمها المتحدثون باللغة
الروسية أيضاً، وعسى أن تترجم بعض الكتيبات والرسائل الصغيرة في العقيدة
والعبادات والآداب والأخلاق.
ويعاني بعض المسلمين (وخصوصاً الغجر) من الفقر ويحتاجون للكساء والفحم
في الشتاء، مما يلزم عناية الجهات الخيرية بمدهم بهذه المعونات لسد احتياجاتهم
الماسة، حتى لا تكون هيئات التنصير أقرب لهم من إخوانهم مما يحملهم على ترك
الإسلام مادام المسلمون لا يحملون همهم.
الجهود الحالية:
توجد في بلغاريا حالياً عدة جمعيات خيرية هي:
- هيئة الإغاثة الإسلامية.
- جمعية الوقف الإسلامي.
- هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية.
وقد قدمت الهيئة الأولى أعمالاً بسيطة، وقامت هيئة الإغاثة الإسلامية
العالمية ببناء بعض المساجد وكفالة عدد من الأيتام، وأقامت دورة للدعاة والأئمة،
كما قامت مؤخراً بتقديم مساعدات مادية مقطوعة اقتصرت على الطالبات في مدرسة
روسي.
وتكفل جمعية الوقف الإسلامي بعض الدعاة والأئمة في بلغاريا، وقدمت
مساعدات إلى المدارس الإسلامية السابق ذكرها، كما اشترت مؤخراً مبنى من 4
طوابق في قرية (سارنيتسا) في مناطق البوماك المسلمين ليكون مدرسة وسكناً
للطلاب يتم فيها تدريسهم أمور دينهم، كما يقوم بعض المحسنين ببناء المساجد
وتقديم المعونات الإغاثية للمسلمين هناك.
وقد تم قبول 15 طالباً بلغارياً في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وتسعة
طلاب في كلية الشريعة بعمان الأردن.
هذا واقع المسلمين في بلغاريا وتلك احتياجاتهم، أدركوهم بالعون والمساعدة
قبل أن تقضي عليهم الجهود الكبرى للتنصير.
(ألا هل بلغت؟ ... اللهم فاشهد) .