خواطر في الدعوة
محمد العبدة
إن مما تتطلع إليه همة المسلم ويراه من أوجب الواجبات العودة بالناس إلى
هذا الدين الذين ارتضاه الله، وتطبيقه في حياتهم تطبيقاً عملياً، والمسلم عندما يريد
ذلك لابد أن يرتفع بالناس إلى مستوى الإسلام، ولابد لمن يقوم بمثل هذه المهمة
العظيمة أن ينتزع نفسه من الآثار السلبية للبيئة المحيطة به حتى يستطيع انتشال
الناس مما هم عليه من الهوى واتباع العادات والمألوف، وحب الدنيا والانغماس
فيها.
ولكن كيف يقوم بهذه المهمة إذا كان مكبلاً بالواقع غارقاً فيه؟
إننا - في الحقيقة - نحمل في عقلياتنا وتصرفاتنا آثار البيئة التي عشنا فيها،
بسلبياتها وإيجابياتها، بيئة المنزل والمدرسة، بيئة الشارع والمجتمع، بل وبيئة
النظم السياسية والاقتصادية التي حولنا، وهذا من الأمراض الخفية التي لا ينتبه لها، لأننا لم نتعود النظر إلى مشكلاتنا بعمق وتبصر، للابتعاد عن مواطن الضعف
والخلل، أو على الأقل النظر بين كل مرحلة وأخرى لمعرفة السلبيات التي تعوقنا.
قد يكون المجتمع الذي يعيش فيه المسلم مجتمعاً تعود على الإسراف في إنفاق
المال، دون حساب أو تخطيط أو تدبير ولا يستفاد من هذا المال بتوظيفه في طرق
الخير التي تنفع الفرد والجماعة، يتأثر المسلم بهذه البيئة فينفق أحياناً على
الكماليات أو المأكل والملبس والمسكن مالا يليق بالمسلم الداعية في مثل هذه
الظروف الصعبة، ولهذا فهو لا يوفر جزءاً من دخله ليستثمره في وجوه الخير،
ومع ذلك فهو يظن أنه لم يقدم على خطأ لأنه لا يعرف قيمة المال وأهميته في حياة
الأمم وتقدمها، بل ربما ظن أن الكلام في التدبير والاقتصاد هو من قبيل الكلام في
(الماديات) التي يترفع عنها، ولا يجب الخوض فيها، لأنه مشغول بأمور أهم من
المال، ولقد نزل القرآن الكريم والعرب يتفاخرون بالكرم حتى وصلوا به إلى حد
الإسراف فأرجعهم الله سبحانه وتعالى إلى حد الاعتدال، فقال: [ولا تَبْسُطْهَا كُلَّ
البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً] والحقيقة أنه رباهم تربية حضارية، وعلمهم أن المال
هو من بعض مقومات الدول والحضارات، وإلا فهو التفاخر الفردي، وإن كان في
الأصل هو خلق كريم.
وقد يعيش المسلم في بيئة اجتماعية معينة، بيئة الريف والمدن أو البدو
والحضر، أو بيئة الفقر والغنى، فماذا نجد؟ .. نجد أن المسلم يتصرف أحياناً
بسذاجة وسطحية في تقويمه للناس، أو يتصرف بخديعة ومكر، وهو يظن أن هذا
من الذكاء و (الشطارة) وينسى قول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: (لست
بالخب لكن الخب لا يخدعني) وكان الأولى أن يوجه مكره إلى أعداء الإسلام.
وقد يعيش المسلم في بيئة الإقليميات الضيقة التي ابتليت بها مجتمعاتنا في
العصر الحديث هذه الإقليميات النتنة التي لا تكتفي بأن يتعصب ويفخر أهل إقليم
على إقليم آخر بل تصل إلى تعصب كل مدينة على أختها، وقد يقع المسلم في
حبائل هذه الإقليمية دون أن يدري، فينظر للمسلمين الآخرين نظرة أهل بلده، وكلٌ
يظن أن الآخرين لا يفهمون الإسلام مثل فهمه، وأنهم مقصرون وهو الحقيق بأن
يعيد مجد الإسلام، وقد يأتي بهذه النظرة على شكل المزاح والطوائف، ولكنك
تشعر أنه في داخله يحمل هذا المرض. والعجيب أن هذا المسلم يدعو إلى العالمية
، وهو يعتقد فعلاً أن دعوته عالمية وأن الإسلام لا يقبل هذا المنطلق الإقليمي -هذا
مع أن الله قد بين أنه خلق الناس شعوباً وقبائل من أجل التعارف، لا من أجل
التناكر والتناحر- وأن الإسلام جاء ليهدم هذه العصبية، وقد يقع المسلم في نوع من
الجاهلية ولكنه إذا ذُكّر تذكر وآب إلى الحق، أو هكذا يجب أن يكون.