مجله البيان (صفحة 1630)

تاريخنا بين كيد أعدائه وإعراض ابنائه

دراسات تاريخية

تاريخنا..

بين كيد أعدائه.. وإعراض أبنائه!

د. محمد بن صامل السّلمي

التاريخ هو الوقائع والأحداث والأعمال الصادرة من الإنسان بدوافعه المختلفة ...

أما معرفة الأسباب والبواعث والنتائج والربط بين الأحداث المختلفة فهو

تفسير التاريخ، ويختلف التفسير للأحداث والأعمال من مؤرخ لآخر حسب المنهج

الفكري الذي يسلكه، والعقيدة التي تحركه، والمعرفة الصحيحة لسنن الله في

الأنفس والآفاق ولقضائه وقدره.

وتاريخنا الإسلامي تعرض لحملات من الكيد والتشويه في تزوير الوقائع

والأحداث، وفي تفسيرها وتوجيهها.

فمن النوع الأول: الروايات المكذوبة التي لا أصل لها بالكلية، أو الأخبار

التي لها أصل ولكن أضيف إليها ما ليس منها، أو أنقص منها حتى تؤدي الغرض

المقصود من التشويه والتحريف، أو الوقائع والأخبار التي توضع في غير سياقها

الصحيح.

فمن الروايات المكذوبة التي لا أصل لها ما ذكره الطبري في تاريخه من

رواية هشام بن محمد الكلبي عن أبي مخنف لوط بن يحى الأزدي في خبر

المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعده، حيث ذكر أن علي بن أبي طالب في

وقت المداولة في سقيفة بني ساعده: كان دائباً في جهاز رسول الله -صلى الله عليه

وسلم-[1] وهذا كذب لمخالفته للخبر الذي أخرجه البخاري في صحيحه من رواية

مالك ومعمر من أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد لزم بيته [2] ، وكذا ما

ذكره من خطبة لأبي بكر في السقيفة يقول فيها مخاطباً الأنصار: «وفيكم جلة

أزواجه وأصحابه» [3] ، وهو كذب إذ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يتزوج

أنصارية قط فضلاً عن أن يكون جُلّ أزواجه من الأنصار، وكذا ما نسبه لأبي

عبيدة رضي الله عنه في قوله للأنصار: «يا معشر الأنصار إنكم أول من نصر

وآزر فلا تكونوا أول من بدّل وغيّر» [4] ، فقد تفرد بهذا أبو مخنف وهو رافضي

كذّاب.

وكذلك نسبته خطبة للحباب بن المنذر يقول فيها: «يا معشر الأنصار املكوا

على أيديكم، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه؛ فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر،

فإن أبوا عليكم ما سألتموهم، فأجلوهم عن هذه البلاد وتولوا عليهم هذه الأمور،

فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم، فإنه بأسيافكم دان لهذا الدين من دان ممن لم يكن

يدين [5] .

ومن ذلك أيضاً الرواية المشهورة في التحكيم التي أوردها الطبري في تاريخه

من رواية أبي مخنف، وفيها قوله عن عمرو بن العاص يخاطب أبا موسى

الأشعري:» إنك صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنت أسن مني،

فتكلم وأتكلم فكان عمرو قد عوّد أبا موسى أن يقدمه في كل شيء، قصد بذلك كله

أن يقدمه فيبدأ بخلع علي « ... إلى أن قال:» أرى أن نخلع هذين الرجلين

ونجعل الأمر شورى بين المسلمين، فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا ... فقال

عمرو: يا أبا موسى تقدم فتكلم، فتقدم أبو موسى فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال:

أيها الناس إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة، فلم نرَ أصلح لأمرها، ولا ألم لشعثها

من أمر قد أجمع رأيي ورأي عمرو عليه، وهو أن نخلع علياً ومعاوية، وتستقبل

الأمة هذا الأمر فيولوا منهم من أحبوا عليهم، وإني قد خلعت علياً ومعاوية ... ثم

تنحى، وأقبل عمرو بن العاص، فقام مقامه وقال: إن هذا قد قال ما سمعتم،

وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه، وأثبت صاحبي معاوية؛ فإنه وليّ عثمان بن

عفان والطالب بدمه ... الخ « [6] .

فهذه الرواية رغم شهرتها إلا أنها باطلة لضعف رواتها، وعدم اتصال إسنادها

، ولمخالفتها للأخبار الصحيحة، فمثلاً قوله إن أبا موسى أسن من عمرو بن العاص

ليس بصحيح، فقد توفي أبو موسى وعمرو في سنة واحدة وكان عمر أبي موسى

ثلاثاً وستين سنة، وعمرو بن العاص يناهز التسعين فالأسن والأكبر هو عمرو بن

العاص وليس أبا موسى، كما أن قوله بأنهما اتفقا على خلع علي ومعاوية غير

مستقيم لعدة أمور منها:

أن موضوع النزاع ليس على الخلافة بل على القصاص من قتلة عثمان

وأيضاً أن علياً قد بويع بيعة شرعية صحيحة، وإذا تم ذلك للخليفة فإنه لا أحد يملك

خلعه إلا أن يأتي بما يوجب ذلك، ولم يرتكب علي رضي الله عنه ما يوجب خلعه

من الخلافة.

وأيضا فإنه قد وردت رواية صحيحة أخرجها البخاري في التاريخ الكبير

وأخرجها ابن عساكر في تاريخ دمشق، تخالف هذه الرواية وهي أن الحكمين لم

يتفقا على شيء محدد فيما اجتمعا له [7] .

ومن الأمور أيضاً: أن معاوية لم يكن خليفة حتى يخلع، وإذا كان القصد من

إمارة الشام، فإن هذا أمر لا يملك الحكمان فعله، بل هو راجع إلى الخليفة فهو

الذي يولي ويعزل الولاة [8] .

ومن الأخبار التي قد يكون لها أصل، ولكن أضيف إليها، وزيد عليها بقصد

التشويه والتحريف، ما ذكره الطبري في تاريخه، قال: حُدّثْتُ عن هشام بن محمد

الكلبي قال: حدثني عوانة ابن الحكم قال: لما اجتمع الناس على بيعة أبي بكر أقبل

أبو سفيان وهو يقول: والله إني لأرى عجاجة لا يطفؤها إلا دم! ! يا آل عبد مناف

فيمَ أبو بكر من أموركم! ! أين المستضعفان؟ أين الأذلان علي والعباس؟ ! وقال

: أبا حسن أبسط يدك حتى أبايعك فأبى عليّ عليه فجعل يتمثل بشعر المُتَلمّس:

ولا يقم على هون يراد به ... لا الأذلان عير الحي والوتد

هذا على الخسفِ مربوط برمته ... وذا يُشَجّ فلا يبكي له أحد

قال: مزجره عليّ وقال: إنك والله ما أردت بهذا إلا الفتنة، وإنك والله طالم

بغيت للإسلام شراً! ! لا حاجة لنا في نصيحتك [9] .

هذا الخبر له أصل، ولكنه ليس بهذه الصورة، فقد أخرج الحاكم في

مستدركه وصححه ووافقه الذهبي: أن أبا سفيان لقي علياً بعد بيعة أبي بكر فقال:

» يا عليّ علامَ هذا الأمر في أقلّ من قريش؟ ! فقال علي: وما شأنك وهذا، إنا

وجدنا أبا بكر لها أهلاً، فطالما يا أبا سفيان بغيت على الإسلام وأهله «، فقد نهره

علي بهذه الكلمة، وليس فيها تلك الإضافات والزيادات الطويلة التي زادها الكلبي أو

عوانة بن الحكم، وهما من الرواة الضعاف والمتهمين في عدالتهم.

ومن الأخبار التي توضع في غير سياقها حتى تؤدي غرضاً مشوشاً، أو تُبْتَر

عن أسبابها، قصة ذلك الرجل المصري التي أخرجها البخاري في كتاب فضائل

الصحابة من صحيحه باب فضائل عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: حدثنا

موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة حدثنا عثمان بن موهب قال: جاء رجل من

أهل مصر وحج البيت، فرأى قوماً جلوساً فقال: من هؤلاء القوم؟ فقالوا: هؤلاء

قريش، قال فمن الشيخ فيهم؟ قالوا: هو عبد الله بن عمر قال: يا ابن عمر إني

سائلك عن شيء فحدثني عنه: هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد؟ قال: نعم، فقال:

تعلم أنه تغيّب عن بدر ولم يشهد؟ قال: نعم، قال الرجل: هل تعلم أنه تغيّب عن

بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم، قال: الله أكبر، قال ابن عمر: تعال أبين

لك، أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له، وأما تغيبه عن بدر فإنه

كانت تحته بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانت مريضة، فقال له رسول

الله -صلى الله عليه وسلم-: إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه وأما تغيبه

عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه فبعث رسول

الله -صلى الله عليه وسلم- عثمان، وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى

مكة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده اليمني: هذه يد عثمان فضرب

بها على يده فقال: هذه لعثمان، فقال له ابن عمر: اذهب بها الآن معك.

فهذا الرجل كان منحرفاً على عثمان، وقد صورت له الأمور على غير

صورتها وذكرت له بعض الأعمال التي فُصِلت عن أسبابها فتصور من ذلك

حصول النقص والتقصير من عثمان رضي الله عنه، ولذلك انتبه ابن عمر لقصده

وبيّن له الأسباب الموجبة لهذه الأفعال، وقرن كل مسألة بعذر عثمان فيها ثم قال له: الآن اذهب بها معك، فقد وضح الأمر وتبين عذر عثمان بن عفان رضي الله عنه.

ومن النوع الثاني: تفسير الأحداث وتوجيهها حسب الأهواء والمعتقدات،

وهو الميدان الكبير الذي عاث فيه الحاقدون على هذا الدين وأهله قديماً وحديثاً

وبخاصة المستشرقون ومن تتلمذ عليهم وتأثر بهم، ومن انحرف فهمه ولم يرجع

إلى أصول عقيدته ودينه، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً سواءً على الأفراد أو الدول

أو المفاهيم والموضوعات الإسلامية.

فمثلاً: حركة الرّدة التي وقعت بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-

تفسر من قبل الرافضة بأنها خروج على سلطان أبي بكر، وليست خروجاً من

الدين والسبب كما يقولون: أنهم لم يجدو الإمام الحق بعد رسول الله -صلى الله

عليه وسلم-، وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولذلك لم يطيعوا وينقادوا

لأبي بكر.

وتفسر في الدوائر الاستشراقية بأنها عصيان مدني على السلطة الحكومية ولا

علاقة لها بالدين، ويتابعهم بعض القوميين العرب على هذا التفسير حتى لا يوصم

العرب بهذا العار الذي هو الردة، وكذلك حركة الجهاد والفتوح تفَسّر بتفسيرات

غريبة وبعيدة في الواقع عن الجهاد وواقع المجاهدين المسلمين وهدفهم الواضح،

وهو إعلاء كلمة الله، وإدخال الناس في دين الله، فنجد من يفسر حركة الجهاد بأنها

حركة طبيعية، فطالما خرجت هجرات من الجزيرة العربية لطلب الرزق وسعة

العيش في بلاد الهلال الخصيب، لأن طبيعة الصحراء العربية طاردة للسكان، كما

تفسّر بأنها استرداد لملك الساميين الذين يرجع العرب إليهم، أو أنها طلبُ للملك

والسلطان، أو أنها استنقاذ للقبائل العربية التي كانت قاطنة في تلك المناطق

وتخضع للرومان أو الفرس.. إلى غير ذلك من التبريرات والتفسيرات التي لا

تمت إلى واقع المجاهدين المسلمين بشيء وإنما هي تصورات نابعة من فكر

وتصور الكاتب والباحث، وبحسب ما يرى من أغراض الناس وأهوائهم وشهواتهم

المتعددة التي لا تنضبط ولا تنحصر، أما المسلم الملتزم بشريعته فإن حركاته

وأعماله وأهدافه محكومة بالشريعة الربانية ومتابعة لما جاء به النبي -صلى الله

عليه وسلم-.

وإن تاريخنا الإسلامي بحاجة إلى رجال أمناء حريصين على تاريخ أمتهم

ويعرفون خطط أعدائهم وكيدهم المستمر، ويتلقون العلم من مصادره الصحيحة

والمأمونة، ويتبعون في البحث والتحقيق منهجاً علمياً رصيناً، ولا يقبلون قولاً

بغير دليل، ويفحصون كل ما يقدم لهم؛ حتى لا يقعوا فريسة لكيد أعدائهم.

وأسأل الله أن يقيّض لهذا العلم من يخدمه، ويزيل عنه الغبش والتشويش،

ويخرجه في صورة بيضاء ناصعة، كما هو الواقع الحقيقي لتاريخ أمتنا، وخاصة

الصدر الأول والقرون المفضلة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015