مقال
سليمان عبد العزيز الربعي
في حيا ة الأمم، كل الأمم، مفترقات صعبة ومصيرية، ترسم على لوحة
الأفق روانق الغد المنتظر، إنّ ذلك لا يعني هلامية بعيدة الوقوع، أو قفزة ذهنية
تميل إلى الشطط الخيالي المستحيل، كلا، فالطرق المؤثرة هي في الوقت ذاته
إفراز طبيعي لمعطيات الحاضر عينه، غير متباينة عن محيطه ولا غريبة عن
تفاصيله وملابساته الخاصة لأن تلك سنة الله جل وعز المطردة.
إنها سبيل كوني قائم، يربط في غالبه بممارسات حكام الأرض ومدافعاتهم،
التي تتشكل كيانات من آثار السنة الآنفة، وهي في صورتها غير محتاجة إلى أمثلة
يمكن ترشيحها للتدليل، فمادتها قريبة من العيان يجتهد المرء فقط في عملية الانتقاء.
وأما في قليلها الشارد فترتبط بإحداث انقلاب عارم وتغيير يجوز أن يحكيه
بعض ما جاء في القصص القرآني كقصة النبيين نوح ولوط صلى الله عليهما وسلم
مع قوميهما، وما صحب ذلك من تبدل كوني هائل ليس في مسرح الواقعتين فحسب، بل في الأرض جميعاً، وهذا السنن هو ما عناه بعض العلماء رحمهم الله عند
الحديث عن مسألة طويلة اصطلحوا على تسميتها (بسنة الخلفية) وحتمية
المداولة، وهو ما ينطبق تماماً على الإرث السلوكي والنفسي والاجتماعي والمبدئي
والمصيري في حياة الشعوب كلها.
والأمة الإسلامية تبدو لنا في حاضرها رهينة مرحلة مخاضية لا بأس أن
نطلق عليها مرحلة «التغيير والتجذير» أو «مرحلة المكاشفة» ، وهذه المرحلة
خطيرة لا شك إذ تتحدد على ضوئها المناهج وتتضح إثرها أرضيات التفاعلات
الجديدة في مدى الأحداث الساخنة في العالم.
ونحن عندما نذكر طرفي المعادلة، أو المرحلة، في مادتها فلا يمكن أن نهمل
طرفيها الحسيين اللذين ينبثق منهما بيان التجسيد للصورة حقا لقد برزت على
السطح تيارات كثيرة، وهي تيارات تصطف جميعاً حين المواجهة مع خصومها
الألداء «الإسلاميين» علي نسق واحد يبهر المرء التفافه السريع وفي ذلك الظرف
بالذات، يدل عليه تواصٍ شديد بالمواجهة وعلى كافة المحاور كل بحسبه «وما
تخفي صدورهم أكبر» .
وإذا كنا نعيش في القرن الخامس عشر الهجري، فليس بمستغرب ألبتة
اختلال موازين القوامة، وبُعد البشرية عن تلمس طريق النجاة، ومضاؤها إلى
الهوى في صلف وتعنت غريب [أفرأيت من اتخذ إلهه هواه] [1] .
في غمرة ذلك لا نستطيع أن نطالب بما لا يمكن حدوثه على وجه كوني إلا
بمعجزة ربانية.
إذن، ماذا يُطلب من المسلمين على وجه التحديد؟ إن الجواب على هذا
التساؤل المهم يكمن في استشعار المسلمين، كل المسلمين، فيما يعايشونه من
أحداث ومدلهمات، تلك التي علمتنا بأنه ليس ثمة مكان للكسالى ولا وقت للدعة
والإخلاد للراحة، بل سباق مستعر في ميادين السؤدد، أو على الأقل إلى إبداء
الرأي والبحث عن موقع للاستقلال الفكري والاختياري. إنّ مشكلة جل المسلمين
ليست في سذاجة أفكارهم، بل في أنهم لا يفكرون، وتراهم يصادرون ملكاتهم
ويتسولون فتات الآراء والتوجهات من تحت موائد اللئام.
لقد مضت الأمة تتنكب سبل المبادئ إزاء أحداثها التي تدار منذ قرون بيد
شياطين من الإنس، ويظل السؤال الكبير المؤلم: من سينبه المكلومة إلى ضرورة
الوعي بدينها ومبادئها، ومتى سيتم ذلك؟ إن من الضروري أن نضع مشكلاتنا
تحت مجهر التشريع بمعاييره المعصومة، كي ننجح في إيجاد مرجعية موقرة في
نفوس الجيل المستشرف، مؤمنين بأنه ليس من المتعين أن نشاهد نتائج ذلك بأنفسنا، فنحن في الحق متعبدون بالبلاغ فقط، وأما مترتباته فهي بيد البارئ سبحانه
يُخضعها لحكم عديدة.
لقد سئمت الأجيال المسلمة دجل المتنفذين وسكوت الصالحين بحجة العجز عن
التغيير أو الضعف في التأثير، ولست أدري بالضبط متى يفقه أولئك أن مجرد
الإصرار على المبدأ ضمانة أكيدة لثقة الجماهير ودعامة حية للاحتذاء وإيمان خالد
بعدالة قضايانا، وأهليتها في سباق التصارع من أجل النصر والتمكين.
إن الرجال مواقف، وإن الموقف سجل تاريخي يُشرق به الغد أو يظلم. لقد
مضت سنة الله تُثبتُ أن رجال الحق قليلون وأن الحق على الدوام مُحارب وأن أهله
في الدهر مُصارعون، وتثبت أيضاً، أن هذا الحق لابد سيظهر ولو بعد حين،
وهنا يتبين أن الأهمية تتجسد في التجالد عليه، والمنافحة عنه. إن من حق الجيل
أن يرى قيم الدين واضحة في الحدث الممارس يطبقها المسلمون أجمعون ويدعو
إليها الدعاة والمصلحون، أوليس من حقه أن يقف في الغد القريب موقناً مما يحدث
في محيط المسلمين على امتداد خطوط العرض والطول؟ ها نحن نعايش في
ساعتنا ما يُحاك في قضية فلسطين من تلاعب سافر بالثوابت وخضوع ذليل لليهود، ومن قبله الزعم الكبير في اختزال مسؤولية القدس في ثلة من سقط الناس وبقية
من غثاء العرب، ومعه استمرأنا السكوت كما تعودناه في البوسنة والصومال
وكشمير وكثير من بقاع الإسلام الجريح.
إننا نتساءل: أوليس من حق كل مسلم أن يخبر عن السبب في تحول
مصطلح «إرهابي» إلى كل (رافض للاستسلام) من قبل من قبلوا التوقيع ورضوا
بأن يكونوا مع الخوالف؟ أوليس من حق كل مسلم أن تُقرى الصورة أمامه وتُحسر
عن دغل ودخل سياسات الدمى؟ أوليس من حق كل مسلم أن يطلع على النسخة
الأصلية من عمليات التشكيك في ثوابت الدين لظرف مفروض ومن المسلمين
مرفوض؟ أوليس من حق كل المسلمين أن يعلموا لم كُتب على المخلصين دفع
فاتورة الرأي والكلمة الهادفة في زمن التطبيل والطنطنة؟ أوليس من حقنا جميعاً أن
ندري لم سيم الشعب في ليبيا والجزائر وتونس و ... عذاباً ومهانة؟ أوليس من
حق الجيل القادم أن يعلم على الأقل ثوابت وجوده ومعالم الإرث الثابت كيما يواصل
مسيره؟ بلى، إن ذلك حق مشاع لهم جميعاً.
لقد آن تحقيق كل ذلك من خلال التعاون الجمعي البعيد عن التفرد، فإن من
الخطل أن نظن أن تلك مهمة طائفة تخصصية بعينها أو كوكبة فكرية مُسماة لأن
الدين بلاغ الجميع وقضية كل مسلم، وإذا كنا نعتقد أن ذلك البيان يُكلف الدعوة
والصحوة ما لا طاقة لها به، فنطرح حلول سياسة النعامة، فإننا لم نزل في سوء
ظنٍ بأهل الإسلام وجماهيره. إن الأمم الكافرة تجد في قوة جماهيرها ما يشجعها
على المطالبة بحقوقها المشروعة، ورفض كل واقع لا يسرها.
لقد شاهد العالم كله كيف وقف الروس بصدورهم العارية أمام أرتال الدبابات
حينما هُدد وجودهم بالدعوة إلى الردة الشيوعية الحمراء مرة ثانية وها هم الصينيون، يصمدون أمام ثورة القوة وصولجانها الغاشم، رفضاً للمارسات الديكتاتورية، بل
ها هم تجار المخدرات ورجال العصابات يغامرون بأرواحهم لأجل هدف تافه أو لذة
عابرة، أفترى أن المسلمين أصحاب الهدف السامي النبيل يجبنون عن التضحية في
سبيل تحقيق البيان الإلهي؟ ! إن ذلك ولا شك سوء ظن أثيم، ونحن حين
ارتضيناه منهاجاً بُلينا بليل مدلهم يُجيد الحداءَ فيه نُفّاخُ الأبواق، في حين بقي
الناصح هدفاً لأسهمهم الرائشة، ينعتونه بشتى الأباطيل ويحاصرونه على جُدر
الانفراد في غياب تام عن الوعي التراص، إن البيان للجيل مهمة خطيرة يجب أن
تعنينا جميعاً مشاركة في الإصلاح وسداً للثغرات حتى تشمل الداعية في مجلس
توعيته، والأستاذ في قاعة درسه، والأب في بيته والأديب في ساحة قلمه والطبيب
في مستشفاه والصانع في مصنعه والحرفي في حرفته، والزارع في حقله، والرسام
في مرسمه، والراعي في مراعي سهله وعلى سفوح جبله فتلك صناعة الحياة.
إن من الخطورة ألا نشعر بمصيرية المرحلة وافتراق الطرق وألا نضع
الخطط للأحداث. والدراسات للتأثير وألا نجهد في إصلاح حالة الضعف المزمنة
عند كثيرٍ من المسلمين.
والسفه الأضر الأطم أن نقع في سلبية أفجع حين لا نتفاعل مع أحداثنا
المدركة بحضور مؤثر، مع كونها شامات عظمى تظهر جلية على خارطة
الممارسات المباشرة. إن من حق السالكين للطرقات الواعدة قراءة يومنا من خلال
مساحات التأمل السليم والمعالجة المخلصة والرأي المسجل والمبدأ الراسخ السديد،
فتلك هي القضية.
والله المستعان.