الافتتاحية
التحرير
أقول: نحن أسرى المصطلحات الغريبة، وليس (الغربية) ، فليس الغرب
هو الذي يؤثر في ثقافتنا الحديثة عن طريق تثبيت مفاهيمه، بل الشرق كذلك، هذا
مع اعتبارنا أن الثقافة الغربية والثقافة الشرقية (ونعني بها: الفكر الماركسي
والاشتراكي السائد في دول أوربا الشرقية وروسيا ومن يدور في فلكها) وجهان
لموروث واحد.
إن الغزو الثقافي أخطر أنواع الغزو والسيطرة، فهو ببساطة يجعل المغزو
يتحرك وينشط بعيداً عن هيمنة الأساطيل والأسلحة المنظورة، ظاناً أنه يتحرك
مستقلاً حراً مالكاً زمام أمره، ولكنه في حقيقة أمره مسلوب الإرادة، مسخر نشاطه
وجهوده من أجل الأرض التي أنبتت الثقافة التي تثير إعجابه، فيرفع لواءها،
ويسير في ظلها، وقد يموت ويميت جموعاً لا تحصى في سبيل ذلك. وسواء علينا: أعَلِمَ بذلك أم لم يعلم.
ومن أشد العناصر الثقافية أثراً وفتكاً في ثقافات -الشعوب قضية (المصطلحات) .
فالمصطلح كلمة، أو كلمتان، أو ثلاث كلمات، وقد لا تتعدى ذلك إلا في
حالات نادرة، ولكن هذه الكلمة قادرة على أن تفرغ العقول والقلوب وتملأها، ولها
مفعول السحر الذي يستعصى فهمه على المنطق وقوانين العقل. وغالباً ما تكون
بعيدة عن المحاكمات المحددة، ملتبسة بأثر العواطف والغرائز، وتكتسب -من
خلال استعمالها بين شعب وشعب، وظرف وظرف- ظلالاً، ويصبح لها في
مسيرها تضاريس ناتئة، وانهدامات غائرة، وتنعكس عليها آثار النفوس من حقد
وحسد وضغينة وانتقام، وتصرخ من بين حروفها الأهواء والعواطف الملتوية ... التي تغلف التواءها بكثير من الادعاء والتطاول وحب التغلب والسيطرة.
والمصطلح باختصار هو (حبة) أو (جرعة) سحرية، يتناولها فرد أوجماعة؛ فتحول اتجاه تفكيره أو تفكيرهم من جهة إلى جهة - إن لم تفقده التفكير أصلاً-، وقد يتسلل هذا المصطلح إلى العقل العام تسللاً، كأن تطرحه جماعة أو شخص صاحب مصلحة أو هوى في شيوعه وانتشاره، فيطرح من خلال وسيلة عامة ككتاب أو إذاعة أو صحيفة أو مناهج دراسية.. فيُلْتَقَط ... ويُستعمل ويشيع، ولا يمضي وقت قصير حتى تضاف إليه الشروح والحواشي، وتشذب انعكاساته الضارة عن طريق تزيينه بأساليب الحكماء والمنظرين، فتمتد جذوره في أرضٍ وفِد عليها، ويبدأ يعطي ثماره: فكراً ... وافداً وثقافة هجينة.
وكتطبيق لهذه الرؤية، فلنتفحص نموذجاً واحداً من هذه المصطلحات الشائعة والتي تجري على الأقلام والألسنة هذه الأيام، وهو كلمة (الرجعية) .
ماذا تعني هذه الكلمة في أذهان مبتدعيها؟
وماذا تعني عند مردديها، وخصوصاً في المجتمعات المسلمة؟ ...
وما مدى الهوة بين مدلولها الأصلي، من حيث الوضع، ومدلولها في ... ... أذهان الناطقين بالعربية؟
وهل يمر هذا المصطلح في فترة شبابه، أم أنه دلف إلى الشيخوخة التي ستودي به إلى الموت والاندثار، وآذنت شمسه بالمغيب؟
أما ما تعنيه هذه الكلمة: فأمامنا ما ورد في الموسوعة السياسية؛ حيث تقول: «هي نقيض التقدمية (!) ، ويطلق الشيوعيون واليساريون هذه ... الكلمة على الأحزاب والتيارات التي تنادي ببقاء المؤسسات القديمة على ... قدمها» [1] .
وبناء على هذا فإن هذا التعريف يبين لنا مَنْ وضع هذا المصطلح، ومن روجه، وهم (الشيوعيون واليساريون) ، ويطلقونه على خصومهم ... جملة.
والشيوعيون وخصومهم، من حيث المبدأ والمنشأ، هم نتيجة لمجتمع وثقافة
تختلف اختلافاً كبيراً عن مجتمعاتنا وثقافتنا، وليس المجال مجال تفنيد آرائهم والرد
عليهم. ولكن الذين أدخلوا هذا المصطلح إلى ثقافتنا هم الذين تأثروا بتلك الأفكار،
ورأوا أن يحققوا عن طريق إشاعتها مآرب وغايات في نفوسهم، في ظل مطاردة
لكل ما هو أصيل، وهيمنة لكل ما هو غريب.
وقد كَثُرَ استخدام هذا اللفظ بعد خروج المستعمرين من البلاد العربية
والإسلامية، وتفرغت الشعوب لمواجهة تحديات البناء الداخلي، فكان أن برز
اتجاهان رئيسيان لوضع أسس هذا البناء:
الاتجاه الأول:
الذي يرى أن البناء لابد أن يعتمد أسساً نابعة من عقيدة الأمة (وهي الإسلام) ،
والتي لولاها لما أمكن لها أن تحمل خصائص الأمة، حيث إن الإسلام هو الذي
جعل لها دوراً تاريخياً محورياً، وبتجاهل هذه العقيدة، أو القفز فوقها، أو
استجلاب عقائد موازية؛ فإنه لا أمل في إصلاح، ولا رجاء في الخروج من
المأزق والمشاكل التي تعيق حركة هذه الأمة، بل سيؤول أمرها من ضعف إلى
ضعف، ومن تمزق إلى انهيار واندثار.
وهذا الاتجاه ممثل في غالبية الشعوب الإسلامية مع اختلاف مستوياتها
المعيشية؛ ففيه الغني وفيه الفقير، وفيه الذي حصل على قسط عال من الثقافة،
وفيه ذوو الثقافة المتوسطة، وفيه أصحاب المهن الحرة ...
ولو أن فرصة تتاح لاستقراء النفسيات والانتماءات لوجدنا أن غالبية هذه
الشعوب ذات انتماء إسلامي يصعب إخفاؤه، وإن تكلف بعض الناس إخفاءه تحت
قشرة رقيقة من فعل عوامل شتى، كالجهل والتجاهل الناتج عن الدعاية المضادة
المستمرة، وكالترهيب الواقع على كل من يفصح عن ارتباطه الحقيقي بهذا الدين
مبدأ ومعاداً، وكالخلط والتشويش المقنن الذي يقدم إلى عقول الناشئة عن طريق
المناهج التعليمية.
والاتجاه الثاني:
على النقيض من الأول، اتجاه إلى السيطرة على توجيه هذه الجموع بحجة
أنها جموع قاصرة التفكير، ولابد من استجلاب مبادئ (جديدة) لتحل محل عقائدها
البالية؛ ثم توصف هذه المبادئ المجلوبة بشتى الأوصاف الحسنة البراقة، وتضفي
عليها أنواع من التزيينات الموحية: كالتقدم، والتطور، والبناء، والتنوير،
والتجديد، والتحديث، والعلمية، والمنطقية، … الخ، في حين تقذف المبادئ
القديمة بأبلغ أنواع السباب والشتائم والأوصاف المقذعة مثل: الرجعية، والغيبية،
والتخلف، والجمود، والتحجر، والتقوقع، والظلامية، والسلبية، والتعصب،… إلخ.
ومن خلال تتبع استخدام لفظ الرجعية يلاحظ: أن هذا اللفظ يطلق دائماً على
شريحة من المجتمع تزداد ملامحها تحديداً كل يوم، ويرتبط أفرادها فيما بينهم
برباط فكري واحد، ألا وهو انتماؤهم لعقيدة واحدة هي الإسلام، ومن غير
المسموح لهم أن يردوا على التهم الموجهة إليهم، والقذف الساقط على رؤوسهم،
بطريقة متكافئة مع الطرق التي يتوجه منها إليهم الثلب والتنفير.
وهناك أمور مفروغ منها عند جميع الناس على اختلاف عقائدهم، فليس من
مسلم أو غير مسلم يرضى بأن تتوقف عجلة التاريخ عند نقطة معينة، ولا أن يبقى
النشاط الإنساني في مكان واحد، وليس من مسلم يريد الرجوع بالناس إلى عصر
الجَمَل بعدما ركبوا السيارة والطيارة والمركبات الفضائية، وكذلك فإن الحملات
الكلامية لا يمكن -لاعتبارات كثيرة- أن تتجه مباشرة وصراحة إلى دين الأمة إلى
في حالات نادرة، وفي أمكنة خاصة. وذلك لأن ما يترتب على هذا من مكاسب
وإنجازات لا يتناسب مع الأضرار المتوقعة، ولذلك فلابد من الالتفاف والمداورة
بشن هذه الحملات على الأشخاص، وتجريدهم من مكانتهم في النفوس، وجعل
صورهم تهتز في أنظار الناس من حولهم، حتى لا يكون هناك مثل أعلى يمكن
النظر إليه، فيخلد الناس إلى اليأس، ويألفون القنوط حينما لا يسمعون عمن يقول:
(لا إله إلا الله محمد رسول الله) إلا كل سمعة سيئة، ولا يعرفون عنه إلا الصورة ...
المشوهة التي رسمها له خصومه، وتكون النتيجة لا فقدان الأمل بالأشخاص فقط؛
بل فقدان المبرر للتمسك بهذا الدين من حيث هو، إذ أنه دين صعب التطبيق،
مكبل للنشاط الإنساني، داعٍ إلى الكسل والخمول. وتكون النتيجة النهائية أن هذا
الدين هو المتسبب الأول والأخير في تخلف هذه الشعوب، لذلك لابد من القضاء
على أثره في النفوس بشتى الطرق.
ومن المستحسن -بعد أن حددنا ملامح من يُرْمَون بهذا الوصف- أن نشير إلى
بعض السمات التي تربط بين من يستخدمونه.
فهناك قدر مشترك بين الجميع، وهو: كراهية الإسلام والمسلمين بشكل عام.
وهذه الكراهية إما أن تكون متوارثة لأن أصحابها يعيشون عقدة العيش على هامش المجتمع الإسلامي.
وإما أن تكون مستحدثة نتيجة جهل أو تربية معوجَّة في دهاليز التبشير.
وإما أن يكون الدافع إليها النفاق والحرص على الدنيا من منصب، أو مال،
أو امتيازات.
وهذا الصنف الأخير كثير بين صفوف المسلمين، وهو أشد الأصناف أثراً
وأكثرها وقاحة وإصراراً في حشر مصطلحات أسياده في ثنايا كلامه بمناسبة أو
غير مناسبة، وتكاد أهدافه القريبة وغاياته الشخصية تطل من بين ثنايا كلماته التي
لا يريد بها بناء مبادئ تبقى وعقائد تترسخ، فشتان ما بينه وبين العقائد الباقية،
والفرق بينه وبين الصنف الأول كالفرق بين الدعي الأفَّاق الوصولي وبين صاحب
المبدأ.
وقد كانت الفترة الذهبية لاستخدام هذا المصطلح هي فترة الخمسينات
والستينات، وبدأ انحساره -إلا في أماكن قليلة- منذ مطلع العقد الثامن من هذا
القرن، وهذا يعنى أنه قد استهلك، ومجه الناس، وفقد أثره، وذلك لشكهم وفقدانهم
الثقة فيمن يستخدمه، ولتجنيه وعدم صحته في إنفاقه على من يُرمى به.
وهاهنا لفتة لابد منها، فمحاولة زرع المصطلحات في الكيان الثقافي للأمة
الإسلامية ليست أمراً جديداً، بل هو قديم. ومع ما نتج عن هذه المحاولات الملحة
من نتائج سيئة إلا أن الفكر الإسلامي-بما فيه من أسباب المناعة- كان يلفظ كثيراً
من هذه المصطلحات الغريبة ويسقطها بعدما تبين ما تُحدثه في كيان الأمة من أثر
تخريبي ينعكس على كيانها المادي والفكري فرقة وبلبلة، ويعمل على عدم امتلاكها
القدرة لا على البناء، ولا على دفع مسيرتها نحو المستقبل.