المسلمون والعالم
يا بلاد المليون شهيد
الكلاشنكوف لن يسكت الأذان
د. عبد الله عمر سلطان
«الحالة الجزائرية» تعود إلى عناوين الصحف وصور التقارير الإخبارية
وقد توشحت بهذا اللون الداكن الذي يعكس حجم الأزمة التي وصلت إليها الجزائر
تحت المظلة العسكرية التي ترى أن جذور الواقع الراهن لا تمتد سوى لمسافة
قصيرة وعوامل سطحية تستطيع أن تصفيها وتقضي على أسسها من خلال جيش
مسلح وبندقية رعناء!
إن هذه الحالة/المأزق، تكشف بوضوح أن هناك معسكرين في الجزائر آخذين
في استقطاب البنية الجماهيرية العريضة، ليستأنفا حلقة من حلقات الوجود
الحضاري والتاريخي لهذا البلد المكافح الأشم..، يبدأ تاريخ الفريق الأقوى مادياً
وعسكرياً باحتلال الجزائر عام 1831 م حيث أقام الاستعمار الفرنسي بُنى ثقافية
وعقائدية واقتصادية مرتبطة بالمشروع الفرانكفوني الاستعماري، أما الفريق الثاني
فهو مغروس في تراب الجزائر منذ عقبة بن نافع وحتى اللحظة القاسية الحاضرة،
مروراً بجهاد الأمير عبد القادر الجزائري وعبد الحميد بن باديس، ووصولاً إلى كل
جزائري يعتبر أن المواجهة الحاصلة على أرض بلده هي مشهد آخر بين «عبيد
فرنسا» و «عباد الله» .
فرنسا الاستعمارية المستبدة لجأت خلال استعمارها للجزائر إلى الطرق
الصوفية التي أصبحت في عهدها الأداة «الدينية» المطلوبة لمحاربة المشروع
الإسلامي العبقري الذي أطلقته «جمعية العلماء الجزائرية» وروادها في وجه
المستعمر، أما المؤسسة المدنية الملتحقة بهذه الشبكة الاستعمارية فقد تنوعت
وتعددت فصائلها، وإن كان هناك ثقل لبعض كوادرها كالكادر العسكري الذي التحق
بالجيش الجزائري في مرحلة متأخرة من حرب التحرير، والذي يشكل العسكريون
الذين يديرون الحياة السياسية في الجزائر اليوم طليعتهم، بالإضافة إلى التكنوقراط
الذين تغلغلوا في جسد الدولة ومفاصلها ... أما أخطر الكوادر فهو الكادر العقائدي
الذي يحاول بصورة مضحكة للغاية أن يُعطي للجيش المنبث في شوارع وأزقة
وأسطح البلد غطاءً أيدلوجياً يبدو مهلهلاً من أجل أن يستمر المشروع التغريبي بأيدٍ
«وطنية» سمراء اللون!
الأقلية الانعزالية والأكثرية المحاصرة:
نحن أمام صراع «النخب» مع قطاعها الواسع المحكوم بالحديد والنار..!
(جورج الراسي) الكاتب اللبناني النصراني عبر عنه في مرحلة الثورة بعنوان
قصير هو «علمانية القيادة وإسلام الجماهير» ، القيادة التي اتخذت من تحرير
الوطن قنطرة لسلب الجماهير معتقدها، وتكريس الثنائية المتكررة في عالمنا
الاسلامي، نخب تحكم بالحديد والنار وجماهير متمسكة برغم الحصار بهويتها
وشرعية وجودها، وهو الإسلام!
مراسل النيوزويك علّق على تشكيل حكومة رضا مالك الجديدة بقوله: إن
على الحكومة الجديدة أن تحارب على جبهتين جبهة أعدائها من الإسلاميين وجبهة
أصدقائها من العلمانيين «، وهو يشير هنا إلى أن وقوف المعسكر المعادي للحل
الإسلامي في الجزائر كان متوحداً حول قضية واحدة هي وأد» الإسلام «في
الجزائر بعد أن اختاره الشعب الجزائري مرة بعد مرة خلال أقل من سنتين خياراً
وحيداً، أما الآن فإن هذا الشعار الذي التف حوله جل العلمانيين والانتهازيين
واللصوص والمستبدين والماركسيين وغلاة البربر والفرانكفونيين لا يخدم سوى
مصالح فريق صغير ضيق الأفق» شوفيني «السلوك! هذا الفريق يظهر يوماً بعد
آخر على حقيقته ويفقد باطراد أبرز حلفائه..
لقد أثبتت الأحداث المتتالية أن هذه المجموعة المعروفة باسم» المجتمع
المدني «هي فئة من المتفرنسين والبربر المتحالفين مع طغمة عسكرية فاسدة أخذت
في تصفية أبرز واجهاتها وحلفائها كما فعلت مع» بوضياف «و» قاصدي مرباح «وأنها تسعى لتهميش البقية، كحسين آيت أحمد وأحمد بن بلا فضلاً عن
الاتجاهات الإسلامية التي حاولت أن تبدو ذكية باللعب بورقة الاعتدال ثم ظهر أنها
موغلة في السذاجة، حين وظفَتْ لضرب الفصيل الملاحق والمطارد والذي يحظى
بثقة الغالبية، مع كل حركة تهميش حكومية وكل تحرك عسكري عشوائي.
لم تعد القضية إسلام الغالبية وعلمانية القيادة، فالدائرة تضيق يوماً بعد آخر،
حيث انقلبت الأقلية العلمانية على نفسها، وأخذت كل فئة تلعن أختها وأظهرت
الأحداث الأخيرة أن الأمر قد انحصر في يد أقلية الأقلية، التي كشفت عن هول
داخلها وبشاعة برنامجها.
إذا كان أمر الإسلام لا يعنيهم.. فهل يثأرون لعروبتهم؟
التعاطي الإعلامي والتحليلات السياسية التي تعطي للحدث الجزائري بعض
الاهتمام، تحاول التركيز بصورة متكررة ومن زوايا مختلفة على صورة واحدة من
صور الصراع في الجزائر كما لو أن الصراع المتعدد الجوانب محصور في هذا
الجانب فقط.. وبالطبع فإن الدوافع الخفية لآلة الإعلام العربية المتحيزة دوماً ضد
فريق معروف بسماته وملامحه في الساحة، تعرف أن حصر القضية في تعداد
» شهداء الواجب «، ونقل أخبار» ضحايا العنف «وحده يضر بالفريق الذي اكتسب شرعية منذ البداية من نبض الشارع وأحلام الأغلبية.. هذا النمط
» الأعور «من التحليل قد يحجب حقيقة وبشاعة الواقع الحاصل الآن، لكنه لن يستطيع بالتأكيد أن يلغي بعض الأسئلة المشروعة والملحة التي لا تجد إجابة سوى لدى المنتفضين رعباً من انهيار المشروع العلماني/الفرانكفوني في المغرب العربي عامة وفي الجزائر خاصة.. وإلا.. فمن المستفيد من إلغاء رفع الأذان عبر وسائل الإعلام الجزائرية ... بالطبع لن تكون الجبهة الإسلامية للإنقاذ هي التي سنته، أو أدرجته في الهيكل البرامجي لوسائل الإعلام الجزائرية التي أصبحت تتباهى اليوم بأنها نموذج لمشروع الرجل/الصنم» كمال أتاتورك «الذي نفذه في تركيا قبل ستة عقود ... ومن المستفيد من جعل يوم العطلة الرسمي هو الأحد بدلاً من الجمعة، فليس من جعل الجمعة عيداً لهذه الأمة سوى ربها عز وجل ولا دخل لهذا بالجماعات» الإرهابية «في زعمهم.
ومن المستفيد من إلغاء برامج اللغة العربية من المناهج الدراسية وإحلال
مناهج فرنسية الروح واللغة وضيقة الأفق والانتماء.. حتماً ليس لعباس مدني الذي
لم يُرحم بسبب مرضه أو الذبحة الصدرية التي تلاحقه علاقة بالموضوع فالعربية
لغة القرآن ولغة الجزائر رغم أنف العساكر ومن يحركهم..
ومن الذي يقف وراء منع الحجاب هذه الشعيرة التي فرضها رب السماوات
والأرض، لا شك أن الأصوليين لم يخترعوه أو يفرضوه أو يجبروا الناس على
ارتدائه بقوة البندقية، كما فعل الذين رفعوه عن رؤوس آلاف الفتيات في الجزائر..
... ثم لماذا تصر الفئة المنكفئة على ذاتها وهي مرعوبة، على استبعاد
الإسلاميين من الحوار والمشاركة في رسم مستقبل البلاد المجهول رغم أن بعضهم
مستعد كما صرح كثيراً لتقديم التنازلات في سبيل الوصول إلى حل.. صحيح أن
هؤلاء لا يمثلون الأغلبية لكنهم حتماً أثقل وزناً في الميزان السياسي من شراذم
الماركسية، ومليشيات السوربون الفكرية، وأحزاب البربر الغالية في الشذوذ عن
إجماع الأمة!
هذه الأسئلة تلقي بظلها وتطرح نفسها بعنف، ولا تجد سوى تفسير وحيد
وجواب مكرر.. إن الذين يحاربون الإسلام في الجزائر اليوم يتخذون من صراعهم
مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ، والحركات المسلحة هناك، واجهة لحربهم التاريخية
الطويلة مع الإسلام وطرحه الشمولي الحكيم، الذي يهدد مشروع الفرانكفونيين
المتحالفين مع مافيا السلطة، التي جّرت البلاد إلى هذا المشهد» العدمي «الذي
تُسال فيه دماء البلاد والعباد من أجل ترسيخ» الاستعمار الفرنسي «بصورة جديدة
تناسب اللحظة المعاصرة، ومن أجل مزيد من الاحتكار الضيّق للفرص والمصالح.
إن ساحة الصراع بين مافيا السلطة وجنرالات النظام التي تغطي صورتها
المظلمة بهذا التحالف مع عبيد فرنسا من أبناء الجزائر، أعمق وأشمل من كونه
صراعاً سياسياً أو عسكرياً، إنه يمتد إلى الجذور ... إلى العمق، ففي ظل هذه
الهجمة تهمش حتى الصحافة الرسمية الصادرة باللغة العربية ويضّيق عليها في
الوقت الذي تدعم فيه الصحافة الجزائرية الصادرة باللغة الفرنسية والفكر الفرنسي
حتى ينسى شعب الجزائر لغته.. عسى أن يفقد هويته.. هل ستقولون إن علي
بلحاج هو زعيم» تنظيم الصحافة العربية «في الجزائر لكي تسترد انتماءها
الحقيقي الذي دفعت ثمنه مليون شهيد قبل سنوات؟
إذا كان المحلل والإعلامي العربي لا يثور لدينه أو يتخوف من الإسلاميين حقاً
أو زوراً فهل يغار هؤلاء حتى على عروبتهم يا تُرى؟
إن الإسلام والعروبة في مغرب عالمنا العربي ظلان متلازمان منذ القدم ولم
تأتِ جرثومة القومية العلمانية المنفصلة عن الإسلام بثمار بالغة كما فعلت في مشرق
العالم العربي على يد نصارى بلاد الشام بالذات وهذا يعني بالتالي أن المعركة التي
قادها بالأمس ابن باديس والإبراهيمي قد عادت تطل اليوم بلا رتوش: العروبيون
(الإسلاميون) ... والفرنكفونيين (المافيا الحاكمة) ولم يعد حتى لهؤلاء العلمانيين
العرب من عذر حين يقفون في صف أعداء لغتهم وتراثهم إلا تفسير واحد هو أنهم
مستعدون لإلغاء مشروعهم وإطاراته في سبيل ملاحقة الحل الإسلامي وأهله، ثم في
صبيحة اليوم الثاني يتحدثون عن الحوار القومي الإسلامي ... دون حياء! !
المستقبل:
مراسل محطة التلفاز الفرنسية أجرى مقابلة مع أحد» صقور «العسكريين
الذي علق على التغييرات الاجتماعية مثل نزع الحجاب بقوله:» سوف نزيل كل
هذه المظاهر الأصولية بحزم ... حتى لو لجأنا إلى البندقية «. الشريط ينتقل بعد
ذلك إلى حي باب الواد.. ومسجد السنة الذي يصفه المراسل بأنه أشبه ما يكون
بالثكنة العسكرية المحصنة وهو الذي شهدت جنباته مولد الجبهة الإسلامية للإنقاذ..
امرأة عجوز تشير إلى الحروف الأولى اللاتينية للجبهة الإسلامية للإنقاذ ... قائلة:
» كانوا يأتون للصلاة وينصرفون بهدوء ويعبرون عن ما في صدورهم في العلن ... ثم أنزلوهم الأقبية ليظهر شباب ثائر في الظلام يشعر بالحنق ... أنا أشعر بالحنق حين أحصل على لقمتي ثم تنتزعها مني وأنا أضعها في فمي ... ألا تشعر أنت بالحنق لو فعلوا بك كذلك..؟ «
شاب عاطل عن العمل يقول:» لا أدري ماذا يحمل المستقبل ... على الأقل
كان لدى الجبهة برنامج كسبت به أصوات الناخبين بجدارة ... كان هناك حلم ...
لي ... بغد أفضل ونظام أعدل، أما الآن فأنا أشتهي الموز ولا أستطيع أن أقترب
منه.. الكيلو بحوالي 10 دولارات.. لقد حرموا الموز علينا لأن الذي يستطيع
تناوله هم «المافيا» التي قتلت بوضياف.. كان لي حلم ... والآن ... حلمي كيلو
من الموز! ! «.
إن خروج الشعب الذي أصيب في كرامته وهو العزيز وأهين في الصميم
وهو المجاهد، فجر أحداثاً من العنف والعنف المضاد، أراد الذي يفهم لغة القوة أن
يسود ... ، لقد تنبأ العقلاء منذ اليوم الأول لاغتصاب السلطة وتنحية بن جديد أن
الإنقلابات العسكرية وتحكيم لغة القوة لن تحل المعضلة السياسية في الجزائر،
والتي تراكمت مشاهدها منذ ذلك الحين ... والآن وبعد أن أنزلت البلاد إلى الهاوية
بدأ العسكر في التحضير للحوار واستبدال لغة الغطرسة بلغة المفاوضات، ولكن بعد
خراب الجزائر ...
المعلق الفرنسي ينهي شريطه بالقول:» كان بإمكان الجيش أن يتحاور قبل
عامين مع قيادة الجبهة المعتدلة «كحشاني» في سبيل ضمانات كافية تكفل
الاستقرار السياسي للنظام وتحفظ للجيش هيبته وكرامته ... أما الآن وبعد أن بلغ
العنف مداه فإن التفاوض مع الجبهة سيكون أصعب بلاشك خصوصاً أن الشعب
يرى مشروعه يقبض على زمام السلطة «بالجهاد» وليس بالديموقراطية العرجاء
التي وئدت لأن هناك «مخاوف» متوقعة، دون أن يُفَكَر في الخسائر التي نجمت
عن قتل خيار الأغلبية «. يضيف جوزيف سماحة قائلا:» الذين راهنوا على
قطع المسار الانتخابي في الجزائر يفترض فيهم أن يقدموا كشف حساب اليوم، فلا
الاستقرار عم ولا الإزدهار انتشر ولا البلاد خطت في اتجاه الخروج من المأزق،
على العكس تطورت حرب أهلية مصغرة وأثبتت الحكومات المتتالية عجراً فاضحاً
ولم تتدفق المساعدات الأجنبية وهي حين وصلت ابتلعتها خدمات الدين؛ لقد بدأ هذا
الخراب ضروربا من أجل العودة إلى البديهيات القائلة بأن الحل سياسي بالدرجة
الأولى، وبأن المعالجة الأمنية لا تكفي؛ لقد رفع مسؤولون جزائريون في الأشهر
الأخيرة لواء الدعوة إلى التناقش والتحاور لكنهم عمدوا إلى استثناء القوى التي لا
مجال لأي حل سياسي من دونها وكان واضحا أن استدراج أحزاب إلى ندوات
ومشاورات لا يعدو كونه استدراجها إلى فخ لا يستطيع بلورة مخرج «.
إذا كان الكلاشنكوف يستطيع نزع الحجاب الآن فإنه بالتأكيد لن يسكت الأذان
غداً. الأذان يسمع صوته عن بعد.. مخبراً عن مصارع الغابرين وبشارة أهل هذا
الدين الذين استضعفوا ... ولوحقوا وأوذوا ... عسى أن يكون هذا تمحيصاً ... قبل
التمكين.