مقال
نورة السعد
لما يزل بعض أساتذة الجامعات من مثقفي هذه الأمة المنكوبة ببعض أبنائها
يزعمون أنهم سدنة في محاريب العلم، لكنهم ما فتئوا يتصرفون بعنجهية.. إنهم
يظنون أنهم وحدهم! القادرون على تحليل مجريات الأحداث وأنهم وحدهم!
المخولون بالحكم عليها، لأنهم وحدهم! أصحاب المنهجية الفذة! ! والأدوات
الإجرائية الخارقة! ! وهم يدفعون من عليائهم تلك بالأجيال المتعاقبة من شبيبة هذه
الأمة نحو المشارب المختلفة والاتجاهات المتعددة لكنهم يمنعونها عن معين الدين!
نعم يمنعونها بالتخويف والحرب النفسية والإرهاب الفكري، ألم يصوروا الأمر كله
على هيئة معركة حاسمة بين العلم والإيمان؟ ! ! وهذه هي (الليبرالية) بل قل
الهروبية! ؟ ثم هل هذه واقعية فعلاً أم تعالٍ عن الواقع؟ !
إنها ولا ريب بلاهة النخبة، إنها في الحقيقة مثالية الماديين الذين يبنون
نظرياتهم (العلمية) المزعومة على تصورات غير علمية عن الإنسان والكون والحياة.
لقد دفعت إلينا أرحام الجامعات الكبرى في العالم الإسلامي!! بعبدة
الطواغيت، فقد أخرجت تلك الجامعات أرتالاً من الأجيال التي لم تنكر الغيب
صراحة، لكنها ما فتئت تعتقد بأن إنكار عالم الغيب بالذات هو سبب تفوق الغرب،
وتقدم علومه وازدهار حضارته!! وما فتئت تدعو وتعمل على أن يلزم الإسلام
عتبات التكايا والزوايا والمشاهد البدعية وحاملي المسابح؛ لأن أوربا تحضّرت يوم
طوت سلطان الدين عن الدنيا!!
إن تلك الأجيال المتأسلمة تعيش فصاماً نكداً بين نشاط علماني في الجامعة،
وتدين منقوص في الجامع! إنهم فئة من الأدعياء وحزمة من المنافقين، تشتاط
غضباً حين تُخدش أدواتها المنطقية والمعرفية وبدهياتها العقلية! ! بيد أنها تخفق
في اجتياز اختبار العقيدة الأول.
يقولون: آمنا، بأفواههم (وكأن الإيمان ليس وراءه مقتضيات وتبعات
وتكاليف!!) . وترفض عقولهم (المنطقية) المعجزات!! ولا يدركون أن ذلك
يعني منطقياً رفض الوحي، وبالتالي رفض الإيمان بالله سبحانه وتعالى ورسله
واليوم الآخر.
كم مرة انبرى خصوم الدين أولئك، للخوض في مسائل شرعية؟ كم مرة
اشتكوا من دعوى تزمت علماء الدين زاعمين أنهم يغلقون من الأبواب أكثر مما
يفتحون!! كم مرة دبجوا المقالات المسمومة، مقروءة ومسموعة، بعد أن توسلوا
بالمصطلحات الشرعية وطعموا مقالاتهم بالآيات والأحاديث النبوية؟ بل إن منهم
من يطلق عليه بهتاناً وكذباً الكاتب والمفكر الإسلامي!! وهؤلاء على وجه
الخصوص يتبنون تفكيراً مرحلياً ذرائعياً، فبعد أن قادوا تيار (المد القومي
الاشتراكي) منذ الخمسينات وآزروه وعزروه، انقلبوا الآن على اشتراكيتهم
المهزومة وهموا بركوب صهوة المد الإسلامي المظفر، لا توبة واعتصاماً بحبل الله
فيما يظهر وإنما ليقيموا بنية (إسلامية معتدلة) !! بديلة توازي البنية الإسلامية
(السلفية الأصولية) كما يزعمون. إن مبتغاهم هو ترويض الجماعات الإسلامية،
وعرقلة العمل الإسلامي، واحتواء شباب الصحوة، إن مهمتهم هي تفريغ الإسلام
الحق من أصوله، بانتحال الدين وتحت لبوس المصلحين وباسم الاعتدال
والاستنارة والتفكير العلمي!! فتراهم يثيرون الفتن، ويروجون الأباطيل،
ويجعلون القضايا كلها خلافية، والمسائل اجتهادية ويتواصون بدعوات الضلال
وتسوؤهم دعوات الخير.
هؤلاء ينالون حظوة في أعين مجتمعاتهم، ويتلقون تلميعاً إعلامياً وصدارة
اجتماعية وتزكية سياسية، عوضاً عن محاكمتهم اجتماعياً وعزلهم إعلامياً
و (أكاديمياً) ، وتفنيد حججهم، وتسفيه أحلامهم، أو بالأحرى تجاهلهم تماماً وإبعادهم
عن التسلط على عقول النشء والسيطرة على قلوب الجهال.
إن على الأساتذة الجامعيين ومشرفي الرسائل الجامعية على وجه الخصوص
والدارسين والباحثين أن يتوخوا إخلاص الدين لله فيما يفعلون وأن يتحرروا في
بحوثهم (العلمية) كما يسمونها من أنواع الشركيات من عقائد وقوانين وخرافات ومن
سائر الآلهة المصنوعة (خرافة العلم المادي وقوى الطبيعة وفعالية العقل) .
إننا نحضكم معشر الأساتذة على توجيه جهودكم وهممكم نحو بعث المضامين
العقدية والتشريعية والفقهية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية في
الإسلام ونشرها وتعميقها في الدراسات الجامعية، وفي واقع المجتمعات المسلمة.
إننا نحضكم وننبهكم إلى أن مسؤولية الأساتذة الجامعيين هي: توجيه طلبة
العلم إلى العلم الحقيقي، العلم النافع في مصادره ومظانه، وحثهم على ترشيد
طاقاتهم وبذلها في موضوعات تهم مجتمعاتهم وفي إسهامات قادرة على دعم الانبعاثة
العقدية والحضارية المشهودة للأمة الإسلامية. إن معظم طلبة الدراسات العليا لن
يكونوا بطبيعة الحال علماء جهابذة أو نقاداً أفذاذاً ولكن الكثيرين منهم يستطيعون
بإذن الله أن يصبحوا باحثين مبرزين في مجالاتهم، إن كثيرا منهم يمكن أن
يصبحوا محققين قادرين على ابتعاث مكنون هذه الأمة من الذخائر المخطوطة
والمطبوعة، فلماذا يوجه الطلبة إلى موضوعات مائعة وقضايا قميئة؟ ! لماذا توجه
جهودهم نحو بحوث حداثية، ومناهج كفرية وجزئيات مبتورة، ودراسات مشبوهة؟! لماذا لا يجند أبناء هذه الأمة لدحض الافتراءات والأباطيل الاستشراقية عن
أمتهم؟! لماذا (يُقَولبون) ويستخدمون بوصفهم أدوات طيعة لتزكية المبادئ العلمانية
وتبني المقولات المادية؟! لماذا يرمى بطالب الدراسات وهو أعزل في مهاوي تلك
الترهات والخزعبلات (العلمية) !! دون أن يفهمها أو يستسيغها عقدياً؟! لماذا
تهدر طاقاته ومواهبه وعمره في بحوث بلا طائل، تضاف إلى مكتبة (السطو
العلمي المشروع) المختوم بمصداقية الجامعات الرسمية؟! لماذا يقسر الطلبة على
اختيار الموضوعات السهلة والحداثية!! ، وتكسر في نفوسهم الهمم العالية،
وتصدم العقيدة السليمة، وتوأد الثقة في النفس؟ فالطالب حين يفشل في استيعاب
تلك (المتطلبات والأسس العلمية) !! يسايرها ويتبناها دون فهم أو تمحيص، بل
ويروج لها ويتسلقها باعتبارها سلم النجاح والترقي في المحافل العلمية والصحفية
والإعلامية!!
لا جرم أن الصحوة الإسلامية لم تخرج من جوف هذه الجامعات بل اقتحمت
أسوارها بقوة من الخارج.
اسألوا كثيراً من مشرفي الرسائل الجامعية ومناقشيها عن مستويات الرسائل
المقدمة ومضامينها! ! بل اسألوهم عن ظروف إجازة معظم الرسائل الجامعية! !
وبعد ذلك كله فكروا ما الأثر المستفاد من هذه الأفواج المتتالية من حاملي الأسفار
(العلمية) ؟ ! لاسيما في العلوم الإنسانية والاجتماعية ... أين صداهم الاجتماعي،
ودورهم الملموس في المجتمع؟ ! ماذا قدمت جل تلك الرسائل؟ ! غير ترديد كلام
الآخرين واقتباس أفكارهم وسرقة جهدهم وانتحال مواقفهم دون نقد أو تمحيص! !
حتى عمّ الانحراف العقدي الرجال والنساء معاً! ! واستوى الجنسان في النزوع إلى
العلمانية لا الميل إلى العلمية! ! أي علم هذا الذي حصل؟ ! أي خير هذا الذي عمّ؟!
لا تعدو المسألة إذاً تحصيل الألقاب وحصد المناصب ونيل العلاوات المالية
والدرجات الوظيفية والتباهي بالمكانة المرموقة اجتماعياً! !
ينبغي على هؤلاء الأساتذة أن يراجعوا موقفهم من مناهج البحث الغربية فإن
المناهج ليست أدوات علمية محايدة! ! والإفادة من هذا المنهج أو ذاك من منظور
إسلامي نقدي أمر يختلف جوهرياً عن الارتهان الكامل للمنهجية الغربية في البحث
والنظر والتقويم! !
إن همة المثقفين المسلمين ينبغي أن تنصرف نحو إحياء المنهج الإسلامي في
البحث العلمي، وهو منهج (يرتكز على الإيمان بالله عالم الغيب والشهادة ويقر
الإرادة الإلهية ويعترف بالجوانب الروحية للإنسان ويقوم على الموازنة بين
المؤثرات الروحية والاقتصادية.. وهو بعد ذلك يراعي الفطرة والغرائز ويتسم
بالموضوعية والبعد عن العصبية والاستعلاء العنصري، وهذه السمات تميزه عن
منهج البحث الغربي وتجعله يتفوق عليه) . [1]
إن على جامعات العالم الإسلامي أن تتعهد الغراس البشرية التي استرعيت
عليها، بالنصح والإرشاد والتوجيه، وأن تسعى إلى تطبيق المنهجية التربوية
الإسلامية في كلياتها ومعاهدها ومراكز بحوثها العلمية، تلك المنهجية التي تهدف
إلى تكوين الأفراد الصالحين في أنفسهم، المصلحين لغيرهم، المنتمين لهذه الأمة
الإسلامية، الحاملين همومها الدعوية والجهادية والحضارية، المجندين لرفعتها
ورقيها وسؤددها بين الأمم، إن الجامعات الإسلامية ينبغي أن تخرج أفواجاً من
الدراسين الذين يحملون إرث الأمة العقدي والثقافي والحضاري، لا أن تخرج
خصوماً للإسلام، وأعداءً له.
والله من وراء القصد.