مجله البيان (صفحة 1588)

مصطلحات

النفاق

عثمان جمعة ضميرية

النون والفاء والقاف أصلان صحيحان في لغة العرب، يدل أحدهما على

انقطاع الشيء وذهابه، ويدل الآخر على إخفاء شيء وإغماضه، ومتى حصل

الكلام فيهما تقاربا.

ومن الأصل الثاني يقال: النّفَقُ وهو سَرَبٌ في الأرض له مخلص إلى مكان

آخر، والنافِقَاءُ: موضع يرققه اليربوع من جحره، فإذا آُتي من قبل القاصعاء

ضرب النافقاء برأسه، فانتفق وخرج، ومنه اشتقاق النفاق لأن صاحبه يكتم خلاف

ما يظهر، فكأن الإيمان يخرج منه، أو يخرج هو من الإيمان في خفاء.

ويقال: نافق في الدين: ستر كفره، وأظهر إيمانه، وسمي المنافق منافقاً

لأنه يستر كفره ويغيبه، فشبه بالذي يدخل النفق، أو لأنه نافَقَ كاليربوع. [1] وقد

تكرر في القرآن الكريم والحديث الشريف ذكر «النفاق» ، وما تصرف منه اسماً

وفعلاً، وهو «اصطلاح شرعي» لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به وإن

كان أصله معروفاً في اللغة العربية.

وأما تعريف النفاق في الاصطلاح الشرعي: فهو أن يكون كافراً بقلبه ويظهر

للناس أنه مسلم بقوله أو بفعله.

قال ابن رجب رحمه الله: «النفاق الأكبر وهو: أن يظهر الإنسان الإيمان

بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو

بعضه» . [2]

فيطلق النفاق على الدخول في الدين، من باب أو بوجه التلفظ بالشهادتين مثلا

والخروج منه من باب أو بوجه آخر.

وعلى ذلك نبه الله تعالى عن المنافقين بقوله: [إن المنافقين هم الفاسقون] أي الخارجون من الدين والشرع. [3]

وهذا النفاق نوعان: نفاق أكبر وهو نفاق الاعتقاد، ونفاق أصغر وهو النفاق

العملي.

وفيما يلي بيان موجز لهذين النوعين:

النفاق الأكبر: (أو نفاق الاعتقاد)

وهو أن يظهر المرء للمسلمين إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر..، فيعصم بذلك دمه وماله وعرضه ويتخلص من القتل والعذاب العاجل،

ويصبح ظاهراً في عداد المسلمين، ويحسب على أنه منهم، وهو في حقيقة أمره،

منسلخ من الدين كله، مكذب به، لا يؤمن بالله، ولا بكلامه الذي أنزله على رسوله، فليس معه من الإيمان شيء، وهذا النفاق يوجب لصاحبه الخلود في النار، بل

هو في الدرك الأسفل منها، وهو أعظم كفراً من صاحب الكفر الواضح المستبين [4]

[إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاْ] . [5]

[إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار] . [6]

وليس من غرضنا هنا أن نقف عند ظهور حركة النفاق في المدينة في عهد

النبي -صلى الله عليه وسلم- دون مكة والأسباب التي أدت إلى ذلك، ولا بيان

مواقف المنافقين الكيدية ومؤامراتهم، ولكن حسبنا الإشارة إلى أن خطورتهم قد

بلغت غايتها وجاءت الآيات الكريمة، ترسم صورة واضحة لهم من خلال صفاتهم

ومواقفهم، ولا تكاد سورة في القرآن الكريم مما نزل بالمدينة تخلو من الإشارة إليهم

والحديث عنهم وفي زماننا هذا كثير ممن يقتفون أثر المنافقين، في سلوكهم وأقوالهم

واعتقادهم، ومن أبرز هذه النماذج المعاصرة: الباطنيون وأتباع الأحزاب

والمنظمات الجاهلية التي تنادي بتحكيم غير شريعة الله كالشيوعية، والقومية،

والعلمانية والملأ من أعوان الطواغيت الذين هم من كبار المسؤولين والمستشارين.

وإذا كان الأمر بهذه الخطورة، فهل نستطيع اليوم أن نحكم على إنسان بعينه

بهذا النفاق؟

يقول الإمام الخطابي رحمه الله:

كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يواجه المنافقين بصريح القول،

ولا يسميهم بأسمائهم، وإنما يشير إليهم بالأمارة المعلومة على سبيل التورية، وكان

حذيفة رضي الله عنه يقول: إن النفاق إنما كان على عهد رسول الله -صلى الله

عليه وسلم-، وما كان بعد زمانه فهو كفر.. أو يقول: ولكنه «كفر بعد الإيمان» .

ومعنى هذا: أن المنافقين في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم

يكونوا أسلموا، إنما كانوا يظهرون الإسلام رياءً ونفاقاً، ويسرون الكفر عقداً

وضميراً، فأما اليوم وقد شاع الأمر وانتشر، فمن نافق منهم فهو مرتد؛ لأن نفاقه

كفر أحدثه بعد قبول الدين، وإنما كان المنافق في زمان رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- مقيماً على كفره الأول فلم يتشابها.

وإنما اختلف الحكم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتألفهم، ويقبل ما

أظهروه من الإسلام، ولو ظهر منهم خلافه، وأما بعده فمن أظهر شيئاً فإنه يؤاخذ

به، ولا يترك لمصلحة التألف، لعدم الاحتياج إلى ذلك. [7]

النفاق الأصغر: (النفاق العملي)

وهو ترك المحافظة على أمور الدين سراً، ومراعاتها علناً.

قال ابن رجب:

«النفاق الأصغر، وهو نفاق العمل، وهو أن يظهر الإنسان علانية صالحة، ويبطن ما يخالف ذلك» . [8]

وقد نبه النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذا النوع في أحاديث كثيرة كقوله: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» . [9]

وقوله: «أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن، كان

فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد

غدر، وإذا خاصم فجر» . [10]

فهذه خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال، ولكنه ليس

على كفرهم اعتقاداً وباطناً.

وقد يجتمع نفاق العمل مع أصل الإيمان، ولكن إذا استحكم وكمل فقد ينسلخ

صاحبه عن الإسلام بالكلية. [11]

قال الإمام الذهبي عقب حديث «أربع من كن فيه» :

«وفيه دليل على أن النفاق يتبعض ويتشعب، كما أن الإيمان ذو شعب

ويزيد وينقص، فشعب النفاق كلها من الكذب والخيانة والجور والغدر والرياء

وطلب العلم ليقال، وحب الرئاسة والمشيخة، وموادة الفجار والنصارى فمن

ارتكبها كلها وكان في قلبه غلٌ للنبي -صلى الله عليه وسلم-، أو حرج من قضاياه، أو يصوم غير محتسب أو يجوز أن دين النصارى أو اليهود دين مليح ويميل إليهم، فهذا لا تَرْتَبْ في أنه كامل النفاق، وأنه في الدرك الأسفل من النار، فإن كان فيه

شعبة من نفاق الأعمال فله قسط من المقت حتى يدعها ويتوب منها» . [12]

وبعد أن بينّا معنى الكفر والشرك والنفاق، نشير إلى العلاقة بينهما بإيجاز

حيث يطلق الله تعالى على المشركين اسم الكفار ويصفهم بالكفر، كما يطلق على

الكفار من أهل الكتاب وغيرهم اسم الشرك ويصفهم به.

وباستقراء استعمال الكلمات الثلاث في القرآن الكريم: اسماً أو وصفا نجد أن

كل واحد من الألفاظ قد يرد مستقلاً في السياق، وقد يرد مقترناً باللفظين الآخرين،

فإذا اجتمعت هذه الألفاظ في سياق واحد دل كل منها على معنى غير المعنى الذي

يدل عليه الآخر، وإذا انفردت دخل في كل لفظ معنى الآخر.

فلفظ الكفر مفرداً يدخل فيه النفاق والشرك، ولفظ الشرك يدخل فيه الكفار من

أهل الكتاب وغيرهم، ثم قد يقرن لفظ الكفر بالنفاق، ويقرن لفظ المشركين بأهل

الكتاب، أو يقرن بالملل الأخرى، وعندئذ ينصرف لفظ المشرك إلى من ليس له

كتاب من المجوس والوثنيين، ولفظ أهل الكتاب ينصرف إلى اليهود والنصارى

وهكذا يجتمع الكل في وصف الكفر ثم يخصهم التقسيم بأسماء معينة لكل

منهم. [13]

طور بواسطة نورين ميديا © 2015