مجله البيان (صفحة 156)

الحضارة المعاصرة ... الوجه الآخر

الانتحار

إعداد: ضيف الله الضعيان

قد يعجب القارئ من طرقنا لمثل هذه الموضوعات، وقد يظن ظانٌ أو يتوهم

متوهمٌ أن هذا ضربٌ من التكلف في نقد الحضارة الغربية وشيء من المبالغة في

إبراز الوجه الآخر لهذه الحضارة ... خصوصاً وأن كثيراً من بلدان المسلمين لا

تخلو من كثير من هذه الظواهر أو المظاهر ...

ونقول للأخ القارئ: إن الأمر ليس كذلك لسببين:

الأول: إنه وإن وجدت مثل هذه الآفات والأمراض الاجتماعية في بعض

مجتمعاتنا الإسلامية، إلا أنها لاتصل إلى حد الظاهرة العامة كما هي الحال في

مجتمعات الحضارة المعاصرة ... وعلى الأخ القارئ أن يقارن كل ما سبق مناقشته

من تلك الظواهر في المجتمعات الغربية بمثيلاتها في مجتمعات المسلمين كي يرى

الفارق في ذلك.

الثاني: إنه رغم ما بيَّناه في الفقرة السابقة من تباين حجم المشكلة، إلا أن

وجود هذه الأمراض الاجتماعية وغير الاجتماعية في بلادنا ومجتمعاتنا إنما هو في

الأصل نتاج وإفراز من إفرازات هذه الحضارة، انعكس على مجتمعاتنا الإسلامية

نتيجة الهجمة الاستعمارية الشرسة التي مارسها ويمارسها الغرب بجميع أشكالها

وفنونها.

فالهدف إذن: بيان الوجه الخفي من هذه الحضارة لمجتمعاتنا، والذي نراه

ويراه العقلاء من أبنائها سبباً رئيساً في إفلاسها ومؤشراً واضحاً على بداية نهايتها

وانهيارها.

وهي أيضاً إشارات تحذيرية نضعها على طريق شعوبنا اللاهثة خلف كل ما

هو غربي، علّها تقف عندها متأملةً.. لتعي وتدرك ما تأخذ وما تدع من هذه

الحضارة ...

ذكرنا في حلقات سابقة من هذه الزاوية أمثلة حية مما تعانيه المجتمعات

الغربية المعاصرة من أمراض اجتماعية وصحية واقتصادية؛ وغيرها كنتاج سلبي

لمعطيات الحضارة المادية التي تعيشها تلك المجتمعات، فتناول الخمور والمخدرات

وما ينبني عليه من آثار، جاء نتيجة محاولة ردِّ الاعتبار والبحث عن السعادة

بالهرب من الواقع المرّ..

ومرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) وغيره من الأمراض الفتاكة هو

النتاج الطبيعي للفوضى الجنسية والأخلاقية.. والاعتداءات الجسمية والجنسية على

الأطفال أثر من آثار التحلل الاجتماعي والتفكك الأسري..

وحديثنا في هذه الحلقة عن: ظاهرة (الانتحار) في المجتمعات المتحضرة

والتي هي الغاية في الهرب من جحيم تلك الحضارة وويلاتها ... حيث بلغت حداً

من الانتشار، حتى أصبحت في رأي علماء النفس والاجتماع صرعة غربية..

فالواقع السريع للتطور التكنولوجي المتلاحق، والاتجاه الشرس نحو المادية

المفرطة، وتفكك الروابط والعلاقات الاجتماعية والأسرية أوجد إحساساً بالضياع،

وأوجد أزمة هوية لدى الشباب والمراهقين في بلاد الغرب التي أصبحت مهددة

بانهيار نفسي وجماهيري ...

هذا الإحساس بالضياع الذي يعيشه مراهقو الغرب أوجد نزعة نحو التخلص

من مشاكل الحياة المادية باللجوء إلى الانتحار ... فقد أجرت (مجلة المراهق)

الأمريكية مسحاً بين عينة من الصبية والفتيات في فئة السن بين 15 و 19 عاماً

لاستطلاع مشاعرهم تجاه ظاهرة الانتحار المتزايد في المجتمع الأمريكي.. المسح

الذي شارك فيه أكثر من (500) صبي وفتاة جاء بنتائج مفزعة تقول:

إن الثلث ممن وجِّهت إليهم الأسئلة حاولوا فعلاً التخلص من حياتهم بعد أن

استسلموا لليأس والقنوط، ولقد رُوعي في تكوين واختيار تلك العينة أن تكون ممثلةً

لواقع المجتمع الأمريكي بجميع طبقاته.. وينتهي المسح أيضاً إلى أن 73% من

الشباب والمراهقين فكَّروا في الإقدام على الانتحار مرة أو أكثر خلال حياتهم..

ويشير الاستطلاع إلى ظاهرة خطيرة أخرى ... وهي: أن غالبية من حاولوا

الانتحار هم من الفتيات في أخطر مراحل العمر وأحوجها إلى الجو النفسي الأسري

عند رفضها أو عجزها عن دفع تكاليف سكنها ومعيشتها! ! .

يُنْشَرُ هذا الاستطلاع في وقت ينعق فيه أدعياء تحرير المرأة المسلمة!!

ليخرجوها من عش وجو الأسرة الآمن إلى حيثُ القلق والاضطراب النفسي

والأخلاقي..

أما عن أسباب الانتحار: فهي عديدة ومتنوعة، وأكثرها شيوعاً حسب ما

كشفت عنه الإجابات هو: صراع الجيلين، أي: الخلاف بين المراهق ووالديه،

ولاسيما وأن الأب ينتمي إلى عهد كان أقلَّ شراسة في ماديته.. وثمة دوافع أخرى

في رأي المراهقين، إذ يقول من أُجري عليهم المسح: أن الإحساس بالوحدة يدفع

إلى التفكير في الانتحار، وكذلك الانزعاج والاستياء من المظهر الشخصي للمرء

يُزَهِّده في حياته، وخلافه مع صديقه أو صديقته يجعله يريد أن يبرح الدنيا.. ومما

يزيد الطين بِلَّةً أن الشخصية الانتحارية لا تجد من تفض إليه بمكنوناتها لحين تزول

الغُمة وتنفرج الأسارير ... وفي ذلك تقول نتائج المسح: أن ربع من فكروا أو

أقدموا على الانتحار فعلوا ذلك بعد أن خاب أملهم في وجود من يُسرون إليه

بمعاناتهم [1] .

وفي اليابان حيث التقدم الصناعي والقفزات المادية السريعة: أفاد تقرير

رسمي نشر بتاريخ 12/2/1987م أن 802 من الشباب الياباني المراهق قد

انتحروا في العام الماضي، مما يشكل زيادةً بواقع 44% عن العام الذي سبقه، ...

وقال تقرير وكالة الشرطة القومية: أن 299 فتاة قد انتحرت خلال عام 1986م،

وذلك بزيادة 9. 6% سجلت أعلى رقم قياسي.

وذكر التقرير: أن مشاكل المدارس كانت حافزاً لانتحار 207 شاب، تليها

المشاكل العائلية التي أودت بحياة 107 أشخاص، والمشاكل الغرامية التي ذهب

ضحيتها أكثر من 90 شخصاً [2] .

وإذا كان وباء العصر (الإيدز) يقضي على مئات الأشخاص كل سنة في

المجتمعات الأمريكية والأوربية، فإن من المصابين به من يفضل أن يموت ... بيده لا بيد فيروس المرض؛ احتجاجاً على إصابته به، فيقدم على الانتحار، ... كما أقدم عليه زوجان إيطاليان بأن أطلقا على نفسيهما النار بعد أن أوصيا ... برعاية ابنهما الوحيد [3] .

وإن كان بعض ما تقدم من حالات أو محاولات الانتحار يبدو له ما يبرره على

مستوى العقلية المادية على الأقل، فإن كثيراً من ممارسي هذه الظاهرة قد قضوا

نحبهم لأسباب تبدو تافهةً أو مضحكة في نظر من أُوتي عقلاً وإيماناً..

* ففي تقرير حوادث الانتحار اليابانية -سابق الذكر-: تعتقد الشرطة أن

الزيادة الحادة في إقدام الفتيات على الانتحار جاءت بعد انتحار المغنية الشهيرة

(يوكيكو أوكادا 18 عاماً) ، التي قفزت من أعلى مبنى شاهق في طوكيو في إبريل

1986م [4] .

* وأقدمت الأم البريطانية على الانتحار بعدما فشلت في العثور على دواء

يضع حداً لتساقط شعرها، مخلفةً وراءها ثلاثة أولادٍ عن عمر يبلغ 43 عاماً [5] .

* وانتحر الأب الإنكليزي ذو الخمسين عاماً بسبب مضايقات حماته، بعد أن

نفَّذ مذبحة في أسرته ضمَّنها العجوز التي كانت سبباً في انتحاره [6] .

* وأن آخر يقذف بنفسه وطفله من الطابق التاسع عشر احتجاجاً على حكم

المحكمة بضم الابن لصالح الأم المطلقة [7] .

* وأخرى تقرر مفارقة الحياة بسبب مرض جلدي في وجهها [8] .

إلى آخر ما هنالك من الحالات الفردية التي فارقت الحياة لأتفه الأسباب ...

وما سياقنا لمثل هذه الحالات إلا ليتعرف القارئ المسلم عن كثب على ما

تعيشه الشعوب الغربية من قلق واضطراب نفسيين، وخواء روحي، وضيقِ أفقٍ

نتيجة البعد عن منهج الله، والنظرة المادية القاصرة للكون والحياة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015