من إيجابيات الدعوة الإسلامية
«مقاومة التغريب»
د/ عابد السفياني
التغريب مصطلح يستعمله بعض الكتّاب للدلالة على جهود
الغرب في نشر أفكاره وقوانينه ونظمه في أقطار العالم الإسلامى.
لقد بذل الكفار - على اختلاف مللهم ونحلهم - جهداً كبيراً في نشر التغريب
الذي يمثله النموذج الغربي في مجالات الحياة المعاصرة في التشريع والنظم
الوضعية، وفي مجال الإعلام، والاقتصاد، وفي مجالات أخرى متذرعا تارة
بالديمقراطية، وتارة بالمحافظة على حقوق الإنسان، وتارة بالمشاركة في تنمية
أحوال «العالم الثالث» بشرط الالتزام بتلك النظم نفسها.
وأكبر عائق يقف في وجه «النموذج الغربي» هو تطبيق الشريعة الإسلامية، ولهذا كانت جهود الكفار تبذل في تغيير مفهوم تطبيق الشريعة.
يقول المستشرق «جب» في كتابه «الاتجاهات الحديثة في الإسلام» ص26، «ليس لدى الإنسان أنظمة كبرى في العقيدة، والفكر، والإرادة من شأنها أن
تظل ثابتة أكثر من عشرة قرون» .
والبديل عن الشريعة الإسلامية هو بزعمهم انتشار العلمانية:
يقول أيضاً في ص 74 «إن انتشار العلمانية في البلدان الإسلامية طيلة
المائة سنة الماضية قد جعل مثقفي المسلمين عرضة لنفس التأثيرات التي زعزعت
التفكير الغربي بالنسبة للمسائل الدينية» .
ويرى هذا المستشرق أن تكوين «الرأي العام» على الطريقة الأوروبية عن
طريق نشر التعليم «العلماني» أي الغزو الفكري الأوروبي، وذلك هو السبيل
الوحيد لإدخال التطور والتحرر من سلطان الدين، «وجهة الإسلام» ص 214-
217.
وعندما يتحدث عن استبدال، القوانين الوضعية بالشريعة الإسلامية، وأن
ذلك قد أدى إلى تمكن القوانين الوضعية وانتشار النموذج الغربي فإنه يحذر قومه
من الاطمئنان القائم على هذه المكاسب، ويطالبهم بإدخال الاقتناع بها إلى قلب كل
مسلم عن طريق التعليم ص 213 -214 وهذا الطريق هو «التغريب» وتغيير
المفاهيم وأما تغير مفهوم تطبيق الشريعة، فبدلاً من أن يكون مفهوم الحكم بالشريعة
شاملاً لجميع المجالات، فلا بأس أن يكون قاصراً على جوانب معينة، وبقية
الجوانب يحكمها «التغريب» ، المهم أن يكون له سلطان مع الشريعة.
ولذلك يقول هذا المستشرق - وهو من المستشرقين الذين يعرفون هذا الدين
كما يعرفون أبناءهم كما قال الله - تعالى - عنهم: [الَذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ
كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ] 2 - الأنعام يقول في
كتابه السابق الذكر ص 121، «إن قبول القانون الإسلامي كان منوطا بقبول
الشريعة الإسلامية، كما كان ذلك النتيجة الحتمية لكون المرء مسلما» وبالنسبة
للذين يتمسكون بهذا المعتقد تعتبر فكرة تعديل هذه القوانين الأساسية أو إلغائها من
باب الكفر 123 - 124.
وأمامكم هذه العقيدة الإسلامية التي هي أكبر عائق في وجه التغريب، لابد -
كما يقول هذا المستشرق - من نقد تاريخي خاص، «فعجز الإسلام من طريق
اللجوء إلى عناصر قد سبقت نتائج التغريب وما على العالم الإسلامي أن يعيش من
جديد مجمل التطور الذي صادف العالم الغربي الحديث» [1] .
وخلاصة ما يخطط له الأعداء للتمكين للتغريب هو أن يصبح النموذج الغربي
سائداً ومنتشراً في العالم الإسلامي، ويكفي أن تبقى معه بعض أحكام الشريعة،
وأما مفهوم التحاكم إلى الشريعة الإسلامية في جميع المجالات - والاعتقاد بأن ذلك
واجب، وأن قبوله شرط لصحة الإسلام فمفهوم يمكن أن يغير ويبدل، ليصبح
مقصورا على بعض المجالات، وحينئذ لا يكون قبول الشريعة - في جميع
المجالات - شرطا لصحة الإسلام، ولا يكون التشريع من دون الله كفرا، فيأمن
حماة التغريب والقوانين الوضعية من وصمة الكفر، وهذا ما يريده الاستشراق.
وللمشرعين من دون الله أن يحكموا ببعض أحكام الشريعة، ويحكموا بالأنظمة
القانونية، ويأذنوا تارة للناس بأن يتحاكموا تارة إلى هذا وتارة إلى هذا، فالشريعة
والحالة هذه ليست حاكمة بإطلاق بل هي محكومة، والدين ليس كله لله، بل بعضه
لله، وبعضه لغير الله، وحينئذ يستقر التغريب في العالم الإسلامي. ولاريب أن
أئمة المستشرقين - وهذا أحدهم - يعرفون هذا الدين، ويحسنون التخطيط للتمكين
للنموذج الغربي في العالم الإسلامي، وقد عملوا لذلك دهرا طويلا.
وإذا أدركنا هذا المكر والدهاء منهم علمنا أن من أعظم إيجابيات الدعوة
الإسلامية مقاومة ذلك التغريب، وقد سخرت الصحوة - ولله الحمد - كثيرا من
طاقتها وفي جميع المجالات لمحاربته وتحذير الناس منه، وتنشأ في هذه المرحلة
بالذات أسئلة كثيرة أمام حملات الإبادة التي يتعرض لها المسلمون، فيقول قائلهم:
ماذا يريد الكفار منا؟ ألم تنتشر مذاهبهم وتحكم قوانينهم، وينتشر سلطانهم،
ويقطعو الطريق على المسلمين كل ما أرادوا أن يتميزوا بشريعتهم، بل ويلاحقوهم
بالفساد عن كل طريق؟ والآن وفي هذه المرحلة بالذات - يقتلون بصورة لم يسبق
لها نظير، ويهجرون، ولا خيار لهم، فإما الخضوع للقوانين الوضعية، وعبادة
النموذج الغربي، والتمكين لشهواته، وإما تدمير الإنسان المسلم وحقوقه باسم حقوق
الإنسان الغربي. والنتيجة أن المسلمين لا حق لهم في الحياة إلا تحت إشراف
حقوق الإنسان الغربي، وانتشار مذاهبه وأفكاره، وهذا يمثل قمة الصراع بين
النموذج الغربي والشريعة الإسلامية، فلا عجب أن تبذل الدعوة الإسلامية من خلال
علمائها ودعاتها وأنصارها في هذا المجال كل غال ونفيس، وأن تستنهض همم
المسلمين في كل مكان لمناصرتها، وأن تنادي بإخراج آثار التغريب من مجال
التربية، والإعلام، والاقتصاد، وجميع المجالات التي حاولوا التغلل فيها.
ولنضرب أمثلة محدودة تدل على حتمية الصراع بين الصحوة الإسلامية
ودعاة التغريب، وأن على جميع المسلمين مناصرة علمائهم ودعاتهم؛ ليتمكنوا من
إقامة الدين الحق، وتقديمه لسائر الملل بصورته الشاملة الصحيحة، لعل ذلك يكون
سبباً في هداية الكثيرين منهم للإسلام.
المثال الاول: - يتسلط «النموذج الغربي» لا على الناس ويعطي باسم
حقوق الإنسان «الحق» للقوانين الوضعية، لتتستر على مظاهر الشرك والكفر،
وتمنع الدعوة الإسلامية من أن تنتشر مبادئها، وتعبد ربها، وأن تظلل الأرض
بتحكيم شريعته، وفضح دعاة التغريب، الذين يعتبرون قتل المجرم وحشية،
وتحريم الزنى تدخل في الحرية الشخصية، والفوائد الربوية ضرورة اقتصادية.
المثال الثاني: - يبذل دعاة التغريب جهودهم لاستمرار الاختلاط والخلاعة،
ومحاربة التستر والفضيلة.
والشريعة الإسلامية تأمر اتباعها بالتستر، كما قال الله - سبحانه وتعالى -:
[قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ويَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ
بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ويَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ ولا
يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ولْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ]
[النور: 30 - 31] .
وحرم الله سبحانه وتعالى الزنى بقوله [ولا تَقْرَبُوا الزِّنَى إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً
وسَاءَ سَبِيلاً] [الإسراء: 32] .
فهل يقتنع الكفار الغربيون، وغيرهم من دعاة التغريب بأن يسلمو ويتبعوا
الشريعة الإسلامية، وينبذوا الجاهليات التي زينوها للناس؟
وهناك أمثلة أخرى في مجال الاقتصاد وغيره من المجالات لا يتسع المقام
لذكرها.
ولقد كان من جهود الدعاة والعلماء والمصلحين أن يبينوا للناس أحكام الشريعة
ومقاصدها، ووجوب التحاكم إليها، ونبذ ما سواها والكفر به، ودعوة الكفار
للإسلام، ونصحهم وجدالهم بالتي هي أحسن، وقد استفاد الناس من جهود الصحوة
الإسلامية التي تواترات بها الأخبار في كل مكان، والتي أصبح همها إحياء صفات
النموذج القدوة - جيل السلف الصالح - ليكون منهجهم هو الطريق العملي لمقاومة
أثار النموذج الغربي، وقد تربى كثير من المسلمين - ولله الحمد - على هذه
الصفات، وانتشرت طريقة السلف في مجال الاعتقاد، والتربية، والتعليم،
والصبر، والورع، والعطاء، والبذل، والولاء، والبراء، ونشر الدعوة،
والاحتساب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على مناصرة الدعوة، وحذر العلماء من الجاهلية الحديثة ومسائلها وقوانينها، ودعوا إلى وجوب إزالتها
وتغييرها، وأجمع العلماء أيضاً في هذا العصر على وجوب تطبيق الشريعة
الإسلامية في جميع المجالات، وانتشرت - ولله الحمد - جهودهم عن طريق الكتب، والمقالات، والأشرطة، والبحوث العلمية، والإفتاء والرسائل العلمية،
والمجلات الإسلامية، وهذا قليل من كثير أُشير إليه مجرد إشارة لأذكّر بالجهد
المبارك الذي بذلته الدعوة الإسلامية في مقاومة التغريب، متمنين لجهود العاملين
لنصرة الإسلام التوفيق لمزيد من العمل والصبر حتى تزول آثار التغريب من العالم
الإسلامي من كل مجال دخلت فيه، ويحل محلها الأحكام الشرعية والاعتقادات
الصحيحة، ومن المعلوم أن من أحب شيئا تمسك به، وقدمه على غيره، وأن من
أبغض شيئا تركه، فيجب على جميع الدعاة بيان الحق للناس، حتى يؤمنوا بأن الله
هو وحده المستحق للعبادة، وأن شريعته هي الحاكمة على أمورهم بإطلاق، فيحبوا
الله سبحانه وتعالى، ويحبوا شريعته ورسوله -صلى الله عليه وسلم-: [قُلْ إن
كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] [آل
عمران: 31] ، وبيينوا لهم ويبشروهم بأن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً
من عند الله.
وفي الوقت نفسه يجب عليهم أن يحذروهم من أسباب الشرك والكفر وأثاره
وقوانينه، فيبغضون أثار «التغريب» والقوانين الوضعية وجميع مظاهر البدع
والشرك، القديم منها والجديد، ليعرف ذلك الجميع، وعلى الدعاة إلى الله ...
والمصلحين بذل الجهد والصبر حتى يجتمع الناس على عبادة الله وحده بلا شريك،
ويحكموا شريعته في جميع أمورهم، وحتى يزول سلطان الجاهليات والأديان
الباطلة والفساد الذي صنعته وزينته للناس الأفكار المنحرفة والأهواء المضلة،
ويكون الدين كله لله، ولا يكون منه شيء للأرباب المتفرقين، وللشرائع المتفرقة،
كما قال يوسف -عليه السلام- وهو يبين هدف دعوته للناس: [يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ
أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إلاَّ أَسْمَاءً
سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا
إلاَّ إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] [يوسف: 39، 40] .