مجله البيان (صفحة 1520)

الكتاب العرب بين السلام والاستسلام ...

مقال

الكُتَّاب العرب بين السلام

والاستسلام وبين الوطنية والخيانة

المحرر الثقافي

قِيل: (الجاهل عدوّ نفسه) ومعنى ذلك أن إضراره خاصٌّ منحصر في كل

محيط محدود إلى حدًّ ما، أما المتعالم فإن إضراره يتجاوز محيطه الشخصي ويمتد إلى أماكن أخرى متجاوزاً المحيط الخاص إلى المحيط العام، ولا سيما إن كان

المتعالم مُثقًّفاً، مِمَّن ثُقِّفوا ثقافةً موجَّهة لخدمة فئة سياسة معينة، أتاحت له فرصة

الوصول إلى مركز إعلاميّ يمكِّنه من بثِّ سمومه التي تنتشر انتشار (حُمّى

الأهواز) [1] أو (حمى خيبر) [2] ولئن كانت طرق انتشار الحمى مكشوفة واضحة الأعراض، فإن طرق انتشار الحمم الدخيلة مموهة بطريقة متقنة تتيح لها انتهاج المناهج المتعددة مستفيدة من تغير المناخ السياسي كاستفادة الحرباء من تنوع الألوان المحيطة بها، " فلكل مقام مقال، ولكل زمان دولة ورجال "، وبين الزمان والمكان يمتد " خيط الشيطان " [3] ليفعل فعله متوهماً ديمومة " ظل الغمام " [4] دون أن يوقظه من سُباته قول كثير عزة.. في أمالي القالي: (2/109) .

وإنّي وَتَهْيامي بعَزَّة بعدما ... تخلَّيْتُ عمّا بيننا وتَخَلَّتِ

لكالمُرْتَجِي ظِلَّ الغَمامةِ كلما ... تبوَّأَ منها للمَقِيْل اضمَحَلَّتِ

كل هذا يحصل وأمتنا مبتلاة بكتبة مبادئهم " كسحابة الصيف " و " إلمامة

الطيف " [5] يمرون على رزايا الأمة " مرَّ السحاب " دون أن يرفَّ لهم جفن، لأن

إخلاصهم " أبعد من مَناط الثريا " [6] وكأن الشاعر عناهم بقوله:

مَناط الثريّا من يَدِ المُتناوِلِ ... وأبعَد من هذا الذي قدْ أَرَدْتَه

لقد انسلك لفيفّ من حملة الأقلام في سلك (كُتَّاب النِّثار) [7] الذين ينطبق

عليهم قول الشاعر ابن عروس حيث قال: - في ثمار القلوب ص 686 -

ولمَّا أنْ رأَيْتُهُم وقُوفاُ ... على الجِسْرَينِ كالِحِدَءِ الضَّواري

سألتُ فَقيِلَ: كُتَّابٌ ولكنْ ... أَلَمْ تَسْمَعْ بِكُتَّاب النَّثارِ؟

وَكَمْ بَغْلٍ على بغلٍ وَكَمْ مِنْ ... حمارٍ قد أنافَ على حمارِ! !

وبرْذَوْنٍ تَراهُ وَقَدْ تَثَنَّى ... على بِرْذَوْنِهِ مثل الجدِارِ

أعداء الأمة المتلفعون بأقنعة التقدمية، المتسربلون بسرابيل المناهج الوافدة،

تفيض أقلامهم سماً زعافاً يفرق بين أبناء الأمة الواحدة. وأما آراء الكتبة فهي

(كمشية السرطان) [8] وشأنهم كشأن من عناه أبو منصور العبدوني بقوله: - في

يتيمة الدهر 4/43 -

فَرَأيُك في الإِدبار رأيٌ أَخَذْتَهُ ... وعُلِّمْتَهُ من مِشية السَّرطانِ

لقد أدمنوا على الإدبار، ورجوع القهقري، وتمجيد الاستسلام، وتزييف

صورة السلام، مستخدمين المصطلحات التضليلية التي صيغت صياغة ملغومة بغية

تفجير البنى الفكرية ونسفها من جذورها فأطلقوا على قوى الاحتلال اسم (الاستعمار)

والأصح من ذلك أن يطلق عليه اسم (الاستخراب) لأن أعمال الغزاة المحتلين

قائمة على التخريب العام، وليست قائمةً على التعمير، ولكن العملاء من الكتبة

روَّجوا الأخطاء فشاعت وأصبحت من المسلمات السارية كالأمراض السارية،

وينشر المخربون مزيداً من المصطلحات الفتَّاكة، ودورهم في ذلك كدور " فأرة

الْعَرِم " [9] و " بعوضة نمرود بن كنعان " [10] و " الصَّعوة " [11] و " الخرفان "

التي ورد ذكرها في قول الخوارزمى: - في تيمة الدهر 4/222 -

لا تَعْجَبوا من صيد صَعْوٍ بازِياً ... إنْ الأُسود تُصادُ بالخرِفانِ

قَدْ غَرَّقَتْ أملاكَ حِمْيَرَ فَأْرَةٌ ... وبَعوضَةٌ قَتَلَتْ بني كَنْعانِ

إن الإنسان ليعجب من عقوق اللاهثين وراء الأجنبي، وقد أصبح (عُقوقُ

الضَّبِّ) [12] شعاراً لهم، وهم (أهبَرُّ مِنَ الهبيرَّة) [13] التي تأكل أولادها، ...

وكتاباتهم تُخيِّم على الوطن، وتُقْلِق المواطن (كظل الموت) [14] و (طُغيان

أقلامهم) ينبئ عن أصلهم.

والغريب الغريب من أمور الكتبة خداعهم حتى لَتجِدَ الواحد منهم " أَخْتَلَ من

الذِّئب " [15] إذا رام صيده، " وأحرصَ من كلبٍ على جيفةٍ أو عِرْقٍ " [16] فيا

ويل من احتاج النُّصرة منهم لأن مصيره كمصير من عَنَاهُ الشاعر بقوله:

أَمسى لَعَمْرُكَ مُحتاجاً إلى الصُّوفِ ... مَنْ جَزَّ كلباً لِمَا في الكلبِ منْ وَبَرٍ

وإن سأل سائل عن رأس مال المتحذلقين المتخرصين فالجواب: إن رأس

مالهم " ورأسَ مال الدَّلال " [17] سواء، لا يتمشى بغير الكذب والتمويه والتضليل

أسوةً بإبليس أول دلاَّل دَلَّ [عَلَى شَجَرَةِ الخُلْدِ ومُلْكٍ لاَّ يَبْلَى] [طه/120] . إنهم

(كدودة الخل في الخل) ، و (ديدان السموم في السموم) نهجهم عجيب، وأمرهم

غريب، مولعون بالخلاف، ومَثلُهم الأعلى " لَجاج الْخُنْفُساء " [18] إذا تعلق الأمر

بخدمة العدو، وإيذاء الأهل، وهم كصاحب الشاعر خلف بن أحمر المقصود بقوله: - معجم الأدباء 16/161 -

لنا صاحِبٌ مُوْلَعٌ بالخلافِ ... كثيرُ المرِاءِ قليلُ الصَّوابِ

أشدّ لَجاجاً من الْخُنْفُساء ... وأزهى إذا ما مشى من غُرابِ

وهم (أخلف من وَلدِ الحمار) [19] إن كانت أمه فرساً، فهو (لا يشبه أباه

ولا أمه) وهم كذلك لا يشبهون الأهل في إخلاصهم، ولا الأعداء في أهدافهم،

وخير وصف لهم: أنهم (مفاتيح الفتن) و (كِلاب الناس) [20] الذين عناهم

الشاعر فقال:

كَكَلْبِ الإِنسِ إنْ فكَّرتَ فيه ... أشدَ عليك مِنْ كَلَبِ الكِلابِ

يروِّجون لكل ما هو دخيل، ويشيدون بالمتآمر والعميل، يطبِّلون للتنازلات،

ويزمرون للمُمَاحكات، يُدينون السلام، ويَدينون بالاستسلام، يهللون للأباطيل

الصهيونية ويلبسونها جلود الحملان، وينددون بالحقائق العربية الإسلامية،

ويصفونها بالرجعية والعدوانية والديكتاتورية المتخلفة، وكأن الشرق الأوسط مباح،

بل حق لكل طامع دخيل متآمر محتال من شذاذ الآفاق الذين ضاق العالم بهم،

فقذفهم على شواطئ بلاد الشام كما يقذف البحر زبده الذي يذهب جفاء، وبدلاً عن

الاحتجاج على هذا الأمر نرى مجموعة حاقدة من الكتبة تقوم بالدعاية - غير

الشريفة - لهذا الدجل السياسي الذي يُرتكب دون رادع، بل تحول قسم من النظارة

إلى [قِرَدَةً خَاسِئِينَ] [البقرة/65] ، أذلاء وكأن أمر الوطن والمواطن لا يعنيهم لا

من قريب ولا من بعيد، وإذا ما ثار ثائر على الذل، أو دافع مدافع عن قضية تَهُمُّ

المسلمين، أو رفض رافض أمراً مرفوضاً، نجد قيامة الكتبة قد قامت وبدؤوا

يتهمون الشرفاء بالتطرف والأصولية، وراحوا يتلاعبون بالمصطلحات على هواهم

حتى يُصبحَ الحقُّ باطلاً والباطل حقاً في غمرة العزف النشاز الصادر عن جوقة

المطبلين والمزمرين والمشعوذين من دعاة الاستسلام والتسليم لكل ما هو دخيل

وغريب، ولا غرابة بذلك، فالأمر سهل على من مات ضميره وانسلك في سلك

العملاء الموتورين غير المأجورين.

إذا ما طالب مطالب بالوحدة الإسلامية قالوا: هذا طرح أصولي، وهم لا

يعنون المعنى الحقيقي لكلمة أصولي ولا يعون معناه أصلاً إنما يعنون بكلمة أصولي

المعنى المترجم للكلمة الإنجليزية «Fundamentalism» التي تعني مذهب

العصمة الحرفية الذي ابتدعته حركة بروتستانتية تؤكد على أن " الكتاب المقدس "

الذي يضم التوراة والإنجيل معصوم عن الخطأ في كل ما يحتويه، كما تعني الكلمة: الإيمان بهذا المذهب البروتستانتي. فهل من يصفونهم بالأصولية من المسلمين

يؤمنون بما يؤمن به الأصوليون البروتستانت؟ أم أن استعمال هذا المصطلح هو

استعمال نابع عن الجهل المتأصل أو التجاهل المبرمج؟ ولا يقف هذا القذف عند

حَدِّ اتهام المتدينين المسلمين بالأصولية، وإنما يتجاوزهم ليشمل قطاعات أخرى من

أبناء شعبنا حتى يعمهم جميعاً ما عدا العملاء لا غير، فَمَنْ يُطالب بتحكيم شرع الله

يُتَّهم بالأصولية الإسلامية، ومن يطالب بالوحدة العربية يتهم بالأصولية القومية،

ويجهرون بآرائهم المتهافتة دونما خجل، وكأنما المعري قد عناهم بكتابه " زجر

النَّابح " [21] وجمع بينهم وبين نقيضهم في كتابه " الصاهل والشاحج " [22] فقدم

الصاهل لأصالته وأخر الشاحج لهجنته، وما أجدر دعاة الآراء الفاسدة بالحلول محل

الثاني في عنوان كتاب المعري، وذلك مقام لائق بمن يخلط بين الأصولية

البروتستانتية، ودين الله الذي لا يقبل من الناس غيره، ويسمى التطرف الديني،

ويضفي على الاغتصاب الصهيوني صفة الشرعية النابعة عن ديمقراطية المجازر

التي نفذتها عصابات الهاغانا في قِبية ودير ياسين، ومن ثم نسجت على منوالها

عصابات أخرى كتبت تاريخها بدماء أبناء الشعب الفلسطيني والشعب اللبناني،

واستمرأ الكتبة جرائمهم فعتَّموا عليها، وهاجموا من لم يمل للعاصفة الصهيونية،

لأنهم أكثر صهيونية من الصهاينة الأفاقين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015