مجله البيان (صفحة 1513)

بلاد الطاغستان والشيخ شامل (اقتباس)

بلاد الطاغستان والشيخ شامل [*] [**]

-شكيب أرسلان-

(يا شامل! جياد غريبة تشرب من ينابيعنا،

وأناس غرباء يطفئون قناديلنا فهل تمتطي

وحدك صهوة جوادك أو نساعدك على ذلك) .

شاعر من داغستان

على الضفة الغربية من بحر الخرز بين 43و41 من العرض الشمالي بلاد

يقال لها طاغستان، مساحتها نحو 297630كم2 وعدد نفوسها سبعمائة ألف،

أما إذا انضم إليها جميع بلاد القوقاس الشمالية فيقال أن أهلها يبلغون مليونين إلى

ثلاثة. وقد فتح العرب في خلافة هشام بن عبد الملك الطاغستان سنة 105 للهجرة

ووطد أخوه مسلمة الحكم العربي في تلك الديار، وكانوا يلقبونها بالدربند، وكانت

ثغراً من ثغور العرب ومنها انتشر الإسلام في تلك الأقطار، وكان الأهالي من قبل

وثنيين ونصارى ويهوداً.

ولما اجتاح المغول بلدانهم كان أكثر هؤلاء صاروا مسلمين، ولما كانت غارة

تمرلنك (سنة 1359م) كان أشهر شعوب الطاغستان قبيلتين أحدهما القايتاق،

والآخر القومق ويقال لهم: غازى قومق. وأكثر أشراف الطاغستان يدّعون أنهم من

أصل عربي وأن آباءهم قدموا مع مسلمة بن عبد الملك بن مروان. وقد صادفت في

الروسية بعض أشراف الطاغستان فقالوا لي: أن أصلهم من العرب يوم فتحوا

الدربند وهم يفتخرون بذلك. وقد طمع الروس في الاستيلاء على الطاغستان منذ

أواخر القرن السادس عشر للمسيح فلم يفلحوا وهزمهم أولاد الشامكال وأخرجوهم

من بلاد سولاك التي كانوا احتلوها، ثم سنة 1604 م كروا ثانية على الطاغستان

وقصدوا بلدة طاركهو فلم يفوزوا بطائل.

وفي سنة (1722م) ساق بطرس الأكبر جيشاً استولى الدربند وسائر سواحل

الخزر الغربية إلا أن نادر شاه صاحب فارس غزا هذه البلاد واسترجع أكثرها من

أيدي الروس (1735 م) وزحف تتر القريم التابعون للدولة العثمانية على

الطاغستان في تلك الأثناء ففشلوا؛ وبقي الحكم هناك للعجم لكن المملكة الفارسية

بعد نادر شاه تضعضع أمرها، فتقلص ظلها عن الطاغستان وزحف الروس ثانية

فاجتاحوا البلاد سنة 1755 وفي سنة 1784 خضع لهم الشامكال مرتضى علي

وبعد ذلك استولوا على القوقاس، فتمكنت قدمهم في الطاغستان.

ولما تخلى الترك من جهة والفرس من جهة عن الطاغستان، عقد أمراء البلاد

محالفة فيما بينهم على مناهضة الروس فاشتبك القتال بين الفريقين، وتجشمت

الروسية كلفاً عظيمة إلى أن تمكنت من تدويخ البلاد فألغت لقب العصمى من أمراء

قايتاق (1819) ولقب المعصوم أمير تبازاران (1828) وجعلت لدى الأمراء الباقين

ضباطاً روسيين يأخذون على أيديهم، فاستسلموا جميعاً للحكومة الروسية، فثار

الشعب على الروس وعلى الأمراء وتولى أمر الثورة علماؤهم وشيوخ الطريقة

النقشبندية المنتشرة هناك؛ وطلبوا أن تكون المعاملات وفقاً لأصول الشريعة لا

للعادات القديمة الباقية من جاهلية أولئك الأقوام؛ وكان زعيم تلك الحركة غازي

محمد الذي يلقبه الروس بقاضي ملا، وكان من العلماء المتبحرين في العلوم العربية؛ وله تأليف في وجوب نبذ تلك العادات القديمة المخالفة للشرع اسمه " إقامة

البرهان على ارتداد عرفاء طاغتسان ".

وفي 29 تشرين الأول سنة 1832 م بعد جهاد طويل أحيط بغازي محمد في

قرية جيمري، واستشهد في معمعة القتال - رحمه الله -، فخلفه حمزة بك الذي

استشهد أيضاً - رحمه الله - بقرب غنزاق بعد ذلك بسنتين، فتولى زعامة الثورة

الشيخ شامل افندي - المقصود بهذه الترجمة - الذي خرج من المشيخة إلى الأمارة، وتناول السيف من طريق القلم. ولم يكن الشيخ شامل في سعة علم سلفيه ولكنه

كان أحسن منهم إدارة للأمور، وبصيرة بالحروب، فشمر عن ساق الجهاد والْتَفَّ

ذلك الشعب الأبي من حوله، فذب عن حوض ملته نحو 35 سنة ظفر فيها بالروس

وفي وقائع عديدة وألقى الرعب في قلوبهم. وجلاهم عن جميع البلاد إلا في بعض

مواقع ثبتوا فيها في الناحية الجنوبية وكانت أعظم الدبرات التي والاها عليهم هي

في سنتي 1834 و 1844 حيث افتتح جميع الحصون التي كانت لهم في الجبال

وغنم منها 35 مدفعاً وأعتاداً حربية ومؤناً وافرة، وأخذ عدداً كبيراً من الأسرى،

فجردت الروسية بعظمة ملكها وسلطانها جيوشاً جرارة ونادت هي بالجهاد في

الطاغستان. ونظم شعراء الروس القصائد في وصف تلك الحروب؛ وما زالت

توالي الزحوف حتى تمكنت من البلاد ولكن بقي الشيخ شامل عشر سنوات يناوشها

القتال في الجبهات الغربية من الجبال ولم يُسَلِّم هذا المجاهد العظيم للروس إلا في 6

أيلول سنة 1859م فعمد الروس على أثر تسلميه إلى إعادة سلطة الأمراء، ولكن

لما استتب لهم الأمر بواسطة هؤلاء الأمراء عادوا فخلعوهم هم أيضاً؛ كما هي

العادة بأن هذه الدول تبدأ أولاً باستعمال نفوذ الأمير الوطني في أغراضها،

وتصريفه في حاجاتها، حتى إذا قضتها كلها رجعت إليه ونبذته نبذ الحصاة،

وذهب يقرع سن الندم على استرساله إليها واعتماده عليها. وبقي الأمر كذلك إلى

سنة 1877 إذ نشبت الحرب بين الروسية والعثمانية فثار الطاغستانيون وافتتحوا

قلعة القومق، ولكن لما دارت الدائرة على الدولة العثمانية في تلك الحرب، تمكن

الروس من قمع الثورة بدون عناء كبير.

ولما انحلت الحكومة القيصرية، وقامت الحكومة البولشفيكية سنة 1917

محلها وأعلنت استقلال الأمم المهضومة، وخيرت الشعوب التي كانت القياصرة

الروس قد أخضعوها بحد السيف بين أن تبقى منضمة إلى روسيا الأصلية، أو

تنفصل عنها، كان أهالي بلاد القوقاس أجمعين ممن أعلنوا استقلالهم التام، فتألفت

جمهورية في كرجستان [***] ، وأخرى في الطاغستان، والثالثة في آذربيجان،

والرابعة في أريفان [****] ، وأوفدت كل من الجمهوريات الأربع وفودها إلى

الآستانة لمفاوضة الأتراك والألمان في الاعتراف بهذه الجمهوريات الأربع، وصار

الحديث في ارتباطها بعضها ببعض بشكل حلفي، وكان الوفد الطاغستاني الجركسي

مؤلفاً من عبد المجيد بك، وعلي بك، وحيدر بك بامات الذي كان ناظر الخارجية

الطاغستاتية. وما مضت مدة قصيرة حتى داخل الكرج الدولة الألمانية وطلبوا

حمايتها فاعترفت لهم بالاستقلال دون غيرهم [1] وأحدث ذلك خلافاً بين الأتراك

والألمان لأن تركيا تقاضت حليفتها ألمانيا الاعتراف باستقلال الجمهوريات الثلاث

الباقية، حتى أن طلعت باشا الصدر الأعظم يومئذ سعى لدى ألمانيا في معرفة

استقلال جمهورية اريفان الأرمنية التي كانت تتقرب من الدولة العلية، وكان رجال

الدولة يريدون بمساعدتها إصلاح ذات البين بينهم وبين الأرمن [2] فتقدم أنور باشا

إلى هذا العاجز [3] أن أذهب إلى برلين وأتكلم في هذا الموضوع وأقنع نظارة

الخارجية الألمانية بلزوم المساواة بين جمهوريات القوقاس كلها، وإلا لم يكن مناص

من الاختلاف.. وكلفني الوفد الطاغستاني أيضاً أن أهتم بقضيتهم نوعاً لأنهم حسبوا

أن الترك قد يصرفون معظم عنايتهم في مصلحة جمهورية آذربيجان التركية فقط،

فبذلت في تلك الأيام جهدي مع نظارة الخارجية في برلين في تمهيد الخلاف، وكان

أكثر الكلام مع فون روزنبرغ الذي كان مديراً للأمور الشرقية، وهو هو اليوم بينما

أحرر هذه الأسطر ناظر الخارجية الألمانية. ولم يلبث أن حضر إلى برلين طلعت

باشا والكونت برنستورف سفير ألمانيا في الآستانة، واشتركنا في حل هذه المسائل

جميعاً وتم الاتفاق لولا أن الحرب في الجبهة المقدونية جاءت بما لم يكن في

الحساب. وطلبت بلغاريا الهدنة، وابتدأت نهاية الحرب فوقف كل شيء من جهة

ألمانيا وتركيا، واحتل الانكليز القوقاس، وعلق القوقاسيون عامة آمالهم بانكلترة.

أنها تعترف باستقلالهم وتوطد لهم حكوماتهم، لا سيما أنها كانت تعطف على

الطاغستانيين قديماً أثناء مقاومتهم الطويلة للروس فكان الأمر بالعكس إذ حصرت

انكلترة جهودها في مناهضة البولشفيك، وإعادة الحكم الإمبراطوري على أصله،

وأمدت الجنرال دنيكين عدو هؤلاء بالمال والسلاح، فما بدأ الجنرال بالحرب مع

البولشفيك حتى غزا الطاغستان، وحاول القضاء على استقلالهم، فجرت بين

الفريقين الوقائع الدامية، وما زالت إلى أن انقضى أمر دينيكين، واستتب الأمر

للبولشفيين أنفسهم، فجرد هؤلاء جيوشاً على جمهوريات القوقاس الأربع. فقبضوا

على أزمتها وألحقوها بحكومة موسكو خلافاً لوعدهم الأول؛ وثار أهالي الطاغستان

عليهم فتغلبت الحكومة البولشفية على الثوار وقبضت على بعضهم وألقتهم في

السجون، وشُرِّدَ قسم من رؤساء الحكومة المستقلة؛ ومنهم عبد المجيد بك،

وصديقنا حيدر بك بامات إلى أوربا، حيث يواصلون مساعيهم لأجل قضيتهم

القومية إلى يومنا هذا [*****] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015