الافتتاحية
رئيس التحرير
جاء الإسلام والعرب من أشد الأمم استعداداً لقبوله، وهم - في الوقت نفسه -
من أشد الأمم تفرقاً، فجمعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الهدى،
وأنقذ الله بهم أمماً من الكفر والضلال عندما حملوا الرسالة وتمسكوا بها، ثم كان ما
كان من التراجع عن هذا المركز الخطير، حتى صاروا من أضعف الأمم، ولكن
الجذوة ما تزال باقية تحتاج من يوقدها، والراية تنتظر من يرفعها، ولا شك أن
الغرب يعي ويعلم أهمية المنطقة العربية، وأنها مَهْدُ الإسلام ومادته، وهي منه
بمثابة قطب الرحى، ولذلك كان التركيز لإبعاد المنطقة وأهلها عن الإسلام،
وتشجيع التيارات العلمانية والإلحادية، والمساعدة على الانقلابات العسكرية التي
أكلت الأخضر واليابس، وتسخير الأقليات التي تخدم الغرب خدمة تفوق توقعاته
أحياناً.
قامت الدولة الإقليمية العلمانية بالمهمة نفسها، فأبعدت الدين عن مواقع التأثير، وخرِّبت مرافق العلم والاقتصاد والبنية الاجتماعية، وتجرأت التيارات العلمانية
فجهرت بأفكارها وآرائها بكل وضوح وصراحة متحدية شعور الأمة، وطاعنة بأعز
ما تملك هذه الشعوب وهو الإسلام، وظهرت على الساحة فلول العلمانيين من بقايا
الشيوعيين، أو الأحزاب الغابرة والإلحادية الذين ارتكسوا في الضلال واستمرأوا
التبعية والذل لكل متسلط من الشرق أو الغرب. وقامت بدعم هذه الفئة فئات
مستهترة، تعرف وتحرف، وتعلم وتنكر، أصحاب أهواء وأتباع مناصب ومال،
أعمتهم الشهوات، وأضلهم طول الأمل، وهم في غمرة ساهون. وهناك فريق
ثالث قوامه أفراد متحيرون، متهوكون، جاهلون بأمر الله، لا يعادون الإسلام
ولكنهم يظنون أنه صلاة وصيام، وأما شؤون الحياة الأخرى فتنظمها القوانين
الوضعية والتراتيب الإدارية، فهؤلاء يجهلون عظمة هذا الدين ومنهجه في إصلاح
البشر، و [مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ] [الحج 74] إذ ظنوا أنه يخلق الخلق ثم
يتركهم هملاً، فلا ينزل عليهم كتاباً فيه حياتهم وسعادتهم، وتشريعاً يجب أن يطبق
في الأرض، وإن لم يفعلوا فهو الشرك، قال تعالى: [ولا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ
اللَّهِ عَلَيْهِ وإنَّهُ لَفِسْقٌ وإنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وإنْ أَطَعْتُمُوهُمْ
إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ] [الأنعام 121] .
تقف هذه الفئة موقفاً سلبياً تجاه الأحداث التي تعصف بهذا الدين، وتلحق
الضرر بالدعاة والدعوة الإسلامية، وتصدق هذه الفئة ما يُروج من دعايات تُصور
بأن المعركة مع (الأصولية والإرهاب) وليست مع الإسلام.
إن هذه الفئة وأمثالها بحاجة ماسة إلى من يوضح معالم الطريق الصحيح،
ويصدع بالحق دون وَجَلٍ، حتى تكون الصورة جلية مكشوفة لا عوج فيها ولا
تمويه ولا تضليل، وحتى تكون على بينة من أمرها، وتكون عوناً للمسلمين على
أعدائهم، وعدم الاكتفاء بالمواقف المحايدة فالله هو الخالق الآمر [أَلا لَهُ الخَلْقُ
والأَمْرُ] [الأعراف 54] ، ولا يكون الناس عبيد سوء يأكلون من رزقه ويطيعون
غيره، فالإسلام جاء لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله.
إن الاعتراف بربوبيته سبحانه يستلزم العبودية له، والخضوع لشرعه [أَمَّن
يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ومَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ أَإلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ
إن كُنتُمْ صَادِقِينَ] [النمل 64] ، [الله الَذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ
هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشرِكُونَ]
[الشعراء 40] .
ماذا يظن هؤلاء بآيات تحريم الربا (سورة البقرة) وآيات تشريع العلاقات
الأسرية (البقرة، النور، الأحزاب) وآيات الميراث (النساء) وآيات الحكم بما
أنزل الله (المائدة، الأنعام، النساء) وآيات الشورى (الشورى، آل عمران) وغير
ذلك من الآيات الكثيرة الموجودة في القرآن العظيم، مما يتعلق بشؤون الناس في
الدنيا؟ هل يظنون أنها للتلاوة والتبرك بها فقط؟ وكذلك أحاديث الرسول - صلى
الله عليه وسلم - الكثيرة التي تفصل أحكام معاملات المسلم في شؤونه اليومية، وما
قيده علماء المسلمين في الموسوعات الفقهية التي تضم أدق التفاصيل في المعاملات
والحكم. كل هذا جاء ليطبق في الأرض، ولا يطبق إلا بحاكم ودولة، وإلا فمن
الذي يطبق قوله تعالى: (والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَ.. [
] المائدة 38 [،] ولَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [] البقرة
171 [،] فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ.. [] المائدة 48 [.
إن الذين يقولون: إن هذه الآيات لا تصلح لهذا العصر - مع أن البشر هم
البشر، والأرض هي الأرض - فإن طرحهم هذا هو الخروج من ربقة الإسلام
والتفصي عن منهجه، وهذا الذي جعل المنطقة العربية والإسلامية تعيش النكد
والغصص في العيش، والذل والهوان أمام الغرب والشرق. ففي ظل الدولة
العلمانية الإقليمية، هاجرت أكثر العقول العربية المسلمة المتعلمة تعليماً عالياً إلى
أوربا وأميركا وعملت هناك، واستفاد منهم الغرب علمياً وتقنياً ثم عاد يضرب
المسلمين بعلمه وصناعته المتفوقة فكنا كمن يخربون بيوتهم بأيديهم، وفي ظل
الدولة الإقليمية قضي على العلم والجامعات، وأممت المساجد فأصبح الإمام كما قال
أحد المفكرين (شاويش صلاة) ، وفقدت الأمة روح المقاومة والاستقلالية، وتم
استيراد كل شيء من الغرب والشرق، وعندما نتأمل ما نأكله ونلبسه ونستعمله في
الإدارة، والتجارة والزراعة نجد أكثره ليس من صنعنا.
لقد طالت آثار هذا الضعف والهوان كل شيء بدءاً من فلسطين حيث يضرب
الأب في غزة أمام أولاده لتحطيم الأسرة في عزتها وكرامتها، مروراً بالبوسنة والهرسك حيث كارثة قتل واقتلاع شعب بكامله من أراضيه، ومرت هذه الكارثة ولم
تستطع دول العالم الإسلامي إيقافها، وبتنا نراقب المؤامرة الغربية الدنيئة دون أن
نستطيع الحراك، وما أظن أحداً يتجرأ على دولة في أميركا اللاتينية، أو شرق
آسيا كما يتجرأ الأعداء على العرب والمسلمين في هذه الأيام.
وصلت آثار هذا الذل إلى العرب والمسلمين المقيمين في الغرب فارين بدينهم، أو يعملون لكسب قوُتهم. فعندها تأججت نار العنصرية الأوربية وجد المسلمون
أنفسهم بين المطرقة والسندان، فلا دولهم تدافع عنهم، ولا الدول الغربية قلمت
أظفار الأحزاب العنصرية عندها، فأُحرقت أسر بكاملها، ودمرت بيوت وبدأ
التحرش بالمسلمين وإهانتهم بشكل سافر في فرنسا وألمانيا، وبشكل مستور في بقية
أنحاء العالم الجديد! !
ترى هل يتنبه الذين يقفون موقفاً سلبياً من الأحداث الجسيمة التي تلف العالم
الإسلامي، فيدركون خطورة مواقفهم؟ هل يفهمون أن حماية الإسلام ونصرته
ليست موقوفة على فئة معينة دون فئات كثيرة، ولا على قلة من الدعاة والعلماء،
بل هو واجب مشترك لكافة المسلمين؟
إن ما يفعله العلمانيون أو يريدون فعله، إن هو إلا تجريد للأمة من هويتها
وسلخها عن حضارتها، بل عن روحها وحياتها.
ماذا نسمي هذا الفعل، ألا يعني ذلك تسليم القلعة وما فيها إلى الأعداء
البغضاء؟
ما زال في الوقت متسع لمن يود العودة إلى رشده، وما زالت الفرصة متاحة
أمام من عقد العزم على النهوض من نومه العميق. وما زالت نيران أحقاد العدو
تستعر في قلب العالم الإسلامي وأطرافه ولكن إطفاءها ليس مستحيلاً على من تمسك
بحبل الله المتين وصراطه المستقيم.