في إشراقة آية
د. عبد الكريم بكّار
أكرم الله - سبحانه وتعالى - الخلق، فأرسل لهم الرسل تترى حتى تظل
أعلام الهداية منشورة، وحتى لا يكون لأحد على الله حجة بعد إرسال الرسل.
وينقسم الناس أزاء كل رسالة في العادة إلى فريقين فريق يصدق، وفريق يكذِّب،
وكانت حجة المكذبين الجاحدين ما حكى الله عنهم: [وكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي
قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ *
قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ]
[الزخرف 23- 24] .
وظاهر هذه الآية أن الرؤساء والوجهاء والمترفين هم - في الغالب - الذين
قاوموا دعوات الرسل؛ لأن أية رسالة ستحدث تغييراً في القيم السائدة والأحوال
المعاشة، وهذا التغيير سيمس مصالحهم ومكاسبهم، ومن ثَمَّ فإن موقفهم هو التأبي
والمعاندة. وبما أن الحياة الجمعية لا يمكن أن تستقيم، وتنتظم من غير ضوابط
عرفية تؤمِّن نوعاً من التعاون، وتَحُوْل دون بغي الخلطاء على بعضهم بعضاً كان
الجواب دائماً: أن ما تقوم عليه حياتهم الاجتماعية هو ما وَرِثوه عن آبائهم
وأجدادهم من الأعراف والعادات والتقاليد، وما حياتهم إلا استمراراً لحياة سلفهم
الذين يفاخرون بهم.
والخلف لا يكتفي عادة بالتلقي الأصمّ عن السلف لكنه ينشئ من الفلسفات
والمقولات والخرافات ما يمنح ما ورثه - من تقاليد - القداسة والاحترام مما يجعلها
محوراً للمنظومات العقدية والفكرية والرمزية والتاريخية! وهذا كله طبيعي؛ لأنه
في حالة اندراس معالم المنهج تصبح السوابق التاريخية هي المنهج، ومن ثم كان
من مهمات المصلحين وضع السوابق التاريخية في إطارها الصحيح.
ماذا تعني الآبائية؟
ليس كل ما يرثه المرء عن آبائه وأجداده رديئاً - لأنه لا يوجد جيل مختص
بالرذائل - لكن الرديء هو أن نفقد القدرة على الحكم على تلك الموروثات، ونُحلها
محلَّ القبول والاقتداء! وإذا تأملنا قضية التقاليد الموروثة وقبولها دون تبصُّر ولا
تمييز وجدنا أنها تعني أموراً عديدة منها:
- إن الإنسان قادر على امتلاك منهج يُسَيِّر حياته من خلال خبرته التراثية
دون مرشد خارج عن حدود ذاته، وهذا ما نجده واضحاً في جواب المترفين للرسل
حين قالوا لهم: [أَوَ لَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ؟] [الزخرف 24] ،
وكان الجواب: [إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ] [الزخرف 24] . وفي هذا الجواب
القاطع الخالي من أي تدليل أو برهان توصيف آخر للآبائية هو أن التقليد وإن بنى حوله بعض الفلسفات التسويغية إلا أنه يظل مع الدليل والبرهان على طرفي نقيض، فهو ظاهرة لا دليل لها سوى وجودها فحسب!
ومما تعنيه الآبائية أن البشر امتلكوا ناصية الحقيقة كاملة فيما يتعلق بشؤون
حياتهم الاجتماعية. والشعور بامتلاك الحقيقة مع أنه غير صحيح إلا أنه يدفع إلى
الجمود؛ لأن حركة الفكر والعلم لا تنشط إلا عند الإحساس بأن هناك حقائق خافية
أو مشكلات تحتاج إلى حل. ومن هنا كانت متابعة الآباء والأجداد من غير ميزان
عبارة عن حركة إلى الوراء تصادم منطق التاريخ، وتجعل أصحابها مخلفين بكل
ما تحمله هذه الكلمة من معنى! وإذا كان المنهج الحق يسعى إلى تجديد ذوات
معتنقيه ونقدها واستيعاب العظات والعبر من حياة الأولين فإن الآبائية تعني تعطيل
تراكم الخبرة البشرية وتقويمها؛ لأن ذلك يخلُّ بالمكانة التي أنزلوا آباءهم فيها!
وتعني الآبائية أيضاً إحالة العادات والأخلاق إلى إطار مرجعي لا منطقي
ومتحجّر، يحكم الناس في حالات اجتماعهم، ويتيح لهم الانطلاق الحر في خلواتهم، أي: يؤسِّس الحياة على نوع من الازدواجية، على حين أن الدين يجعل الوازع
الداخلي أساساً للانضباط الفردي والجماعي. وإن التفسير المستمر في كل شؤون
الحياة يجعل تقليد الآباء فارغاً من مضامينه في أحيان كثيرة، فإذا كان الآباء
يتقلدون السيف - مثلاً - لمواجة حيوان مفترس، فما معنى حمل الأبناء له وهم
يركبون الطائرة؟ ! وإن الآبائية بعد هذا أو ذاك توجد نوعاً من الانحباس
الاجتماعي المصادم لسنّة التغيير التي بثها الله - تعالى - في الكون، ومن ثَمَّ فإن
الانغلاق على مواريث بالية لابد أن يعقبه انفلات غير متزن يطيح بصالح
الموروثات وطالحها.
المصلحون والآبائية:
لا نبعد النجعة إذا قلنا: إن الآبائية هي أخطر مشكلة واجهت الأنبياء - عليهم
الصلاة والسلام - وتواجه أتباعهم من المصلحين على مدار التاريخ حيث تمتلئ
الساحة الاجتماعية بتركة الآباء ومخلفات الأجداد مما يجعلهم يحتاجون إلى تزييف
الموروثات أولاً، ثم إحلال المنهج الرباني محلها. وإن حملة الهدى الرباني
يصطدمون بالآبائيين صداماً مباشراً حيث يرون أن ما بأيديهم من الهدى يجعل
التراث مملوكاً خاضعاً للمحاكمة على حين يرى الآبائيون أن التراث هو مالكهم
والقاضي في حياتهم لا المتهم!
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل بإمكان البشر الفرار من الارتهان
للماضي بدون منهج منفصل عن خبرة الإنسان، أي: لا زماني؟ الواضح أن ذلك
غير ممكن؛ لأننا باعتبارٍ ما جزء من الماضي ومكوناتنا الثقافية أكثرها موروث،
فنقده وتجاوزه بمبادئ وأدوات منه غير ممكن. ونحن حينئذ كالجرَّاح الذي مهما
كان ماهراً فإنه عاجز عن استئصال زائدته أو مرارته بنفسه! وعلى المهتمين
بصلاح الأمة الغيورين على مستقبلها أن يخوضوا معركتين في آن واحد: معركة
الحياة العامة وتنقيتها من الرواسب والشوائب التي تولدها حركة الأيام، ومعركة
داخلية في مجال الحياة الفكرية، وما فيها من مشكلات التجديد والتقليد والاجتهاد
وحدود سلطان العقل والنقل الخ..
إن معالم المعركة الأولى تتمحور حول (مفاصل) التقاليد والسنن والتوزيع
الصحيح للاهتمام بمفرادت التكاليف الشرعية، وما يتصل بها مما يحفظ كيان الأمة. وعلى هذا الصعيد نلاحظ أن المسلمين منتشرون في بقاع الأرض؛ ولذا فإنهم
يعيشون في ظروف شديدة الاختلاف تؤدي إلى تفاوت عظيم في معرفتهم بالدين،
كما أن الثقافات الأجنبية التي تأثروا بها مختلفة أيضاً، والمؤثرات المدرسية
والمناهجية التي تعرضوا لها متفاوتة، وهذا كله يجعل إمكانات إقامة التوازن بين
متطلبات الدين ومتطلبات الدنيا مختلفة، كما يجعل تحرير الخلاف وترجيح
الصواب مختلفاً أيضاً! ولا ننسى في هذا السياق الآثار الكثيرة التي تتركها توجهات
الحكومات المختلفة في إبراز أجزاء من الدين وضمور أجزاء أخرى بحسب
المصلحة!
ونستطيع القول: إنه كلما خمدت حركة الفقه في دين الله، زحفت العادات
والتقاليد والبدع لتحل مكانه في حياة الناس، ذلك لأن من شأن البشر أن يجعلوا
الدين - الذي هو منهج رباني مطلق فوق الزمان والمكان - واحداً من عناصر
ثقافتهم بدل أن يكون الموجّه لتلك الثقافة والحاكم عليها، وذلك ميسور عليهم ولا
سيما حين تكون هناك بعض الملابسات بين العادات وحقائق الدين في الكُنْهِ أو
المظهر، وقد ذكر ابن الجوزي - رحمه الله - " أن من الناس من لو جلدته حتى
يصلي ما فعل، ولو جلدته حتى يفطر رمضان ما فعل! " مع أن أهمية الصلاة
أعظم. وفي زمننا صار إنكار الناس لتعدد الزوجات في كثير من بلاد المسلمين
أعظم من إنكارهم للزنا! كما صار هناك استغراب من إقبال الشباب على المساجد
لأن المساجد خُلقت لمن أكل الدهر عليهم وشرب، على ما تعودوه في عقود مضت. وفي زماننا تُشْتَنْكَرُ الفاحشة من البنات ويغضُّ الناس الطرف عنها إذا وقعت من
الرجال ولا سيما الشباب! !
وفي زماننا يُتَّخذ الاهتمام بليلة القدر والمولد النبوي وليلة النصف من شعبان
وإغراق الأسواق بالسلع في رمضان قناعاً وستاراً مشهوداً ومن خلف الستار لضرب
ركائز الإسلام ومبادئه الكبرى وجعل الداعين إليها غلاة متشددين إرهابيين! !
ويزداد الطين بلة حين يُسهم في هذا الخلل أشخاص تثق بهم العامة لما عندهم
من العلم والتقوى. والعامة غير قادرين على مناقشة الأفكار ولا التمييز بين الأدلة؛
مما يجعلهم تبعا للأعلى صوتاً والأكثر تابعاً. وهذا كله يجعل مسألة تحجيم الآبائية
أكثر صعوبة وتكلفة. لكن لا خيار: فإما المنهج وإما المنهج، وإلا فكيف يكون
خلود الرسالة، وكيف تستمر أنوار النبوة في العالمين؟ !
المعركة الثانية لا تبتعد في منطلقاتها وعقابيلها [*] عن المعركة الأولى؛ إذ
أنّ تقديس القديم لمجرد أنه قديم هو الطاقة المحركة لأبطالهما، لكن الخصوم
يختلفون فإذا كان الخصوم في معركة الحياة الاجتماعية من العامة والدهماء وأنصاف
المتنورين فهم في الثانية ممن يحمل العلم، ويحسب نفسه من المصلحين - وقد
يكون كذلك - لكن بُنَى ثقافتهِ العميقة لا تختلف كثيراً عما لدى العامة!
هذه المعركة هي معركة الاجتهاد والتقليد، والاجتهاد هو بذل الجهد لمد
سلطان النصوص إلى كلّ الحوادث والحالة المستجدة المشابهة في علة الحكم لحالات
ورود النص وتطبيقاته لدى السلف، على حين أن التقليد يحجم من فاعلية
النصوص، ويجعل مجالات الاهتداء بها تتضاءل يوماً بعد يوم؟ ذلك لأن أية
مرحلة سابقة لا تَتَّسِع في تنظيماتها وآلياتها ومعطياتها الجزئية لمرحلة لاحقة، وهذا
ما دعا الصحابة والتابعين من بعدهم إلى الاجتهاد، وهو ما يدعونا أيضاً إليه.
لعل نقطة الخلاف الأساسية ليست في تجويز الاجتهاد والتقليد لشرائح محددة
من الأمة، وإنما تكمُنُ في نزع (صفة دوام الصواب) عن المجتهد، ومع أن الجميع
يُصَرِّحون بأن المجتهد يُخطئ ويُصيب، إلا أننا نجد في الممارسة العملية مواقف لا
تحصى لا تدلّ إلا على اعتقاد أصحابها العصمة في بعض الأئمة والمجتهدين
لاعتقادهم أن إحاطة أولئك الأئمة بالأدلة وَحِدَّةِ ذكائهم وفهمهم مع ما أكرمهم الله به
من التوفيق يجعل وقوع الخطأ منهم نادراً أو معدوماً! وقد رأينا كثيراً من طلاب
العلم يلتزم الواحد منهم مذهباً واحداً في كل دقائقه، ويحاول الدفاع عن ذلك بكل ما
أوتي من قوة، ويوالي ويُعادي في ذلك، ويخسر إخوة في الله، وهو يظنّ أنه
يخوض معركةً لِنُصرة دين الله!
وهذا يدل على جهلٍ فاضح في العملية الاجتهادية المعقَّدة، والتي تلتحم فيها
عناصر أربعة، هي مجال رحب، للاختلاف بين المجتهدين، هذه العناصر هي:
الإمكانات الذهنية التي أكرمنا الله بها والنصوص والأدلة المتعلقة بالقضية موضع
الاجتهاد والخلفية الثقافية للمجتهد (وهي ما كان يُسْمّى بالأهلية) بالإضافة إلى الواقعة
نفسها والظروف والخلفيات المحيطة بها. وتَمَكُّنُ المجتهدين من كل ذلك متفاوت
إلى حدًّ بعيد، وهذا كله ينفي عن المجتهد دوام الصواب في كلّ ما ينظر فيه. وأن
من المفيد أن ننظر إلى المجتهد بعيون أبناء زمانه حيث تخلصوا من وَهْمِ التقديس
بسبب من المعاصرة والمعاشرة ومعرفة الخفايا والإمكانات لبعضهم بعضاً.
إننا إذا لم نتمكن من التجديد الذاتي فسنعرِّض أنفسنا إلى غزو من الخارج، أو
انحباسٍ داخلي يعقبه انفجار لا ينبع معه الترقيع! وإن تجاوزنا المعطيات مراحل
عديدة في حياة المتقدمين لنلتصق بالادلة في إطارٍ من مقاصد الشريعة العامة أمر
حيوي للغاية؛ حتى لا نقعَ ضحيةً للغرق في مراحل الانحطاط والتدهور التي مرت
بها هذه الأمة في قرونها المتأخرة! وعلى الله قصد السبيل.