مقال
هكذا تذكرهم ذاكرة الشعوب
د. عبد الله عمر سلطان
بدون مبالغة أو تهويل مرت أحداث الصومال وأهواله لتضرب لي مثلاً آخر
على الكيفية التي أنفقت عليها القوى السياسية الإقليمية ومنابرها للتصدي للمتغيرات
الخاطفة التي تكاد تصيب المنطقة بالدوار، وقد تجلَّت تلك الكيفية حينما دخل إلى
أرض الصومال 30000 جندي من أفراد (المارينز) الأمريكيين، وكانت المواقف
المتولدة عن هذا التدخل غاية في التطابق لسابقاتها من الأحداث والأهوال، فالعالم
العربي والإسلامي قرر منذ الثاني من أغسطس عام 1990 أن يكون بمثابة العضلة
الآلية الصَّمَّاء التي تُستثار فتقذف الطاقة اللازمة للانتفاض قبل التفكير في الاتجاه أو
عواقب هذا التقلص الآلي.
احتُلت دولة مستقلة عدة أشهر، وبدا أن خط سير التدخل طويل المدى
ومتعرج المسار لا كما تخيل هتافة التدخل، أو المتخوفون من (أمركة) البلد ذي
النسبة الكاملة من المسلمين السُّنَّة..
أردت أن أكتب شيئاً عن التدخل، لا سيما وأن ظلاله بدأت تطير (شمالاً)
منذرة (بمناطق آمنة) .. فأدركت أن التصدي للوضع أعقد مما يحتمل مقال سريع، وأن الماء الذي في فمي يلجمني عن الحديث عن الظاهرة، والراصدين لها ...
والمتأثرين بها، وقررت هذه المرة أن أبسط الحديث عن ظاهرة وإحدة صاحبت
هذا (الغزو) ، وكنت قد أعددت العدة للحديث عنها قبل سنين حينما أُثيرت كقضية
شائكة على الساحة الأمريكية..، ففي عام 1987م سافرت وفود أمريكية شعبية إلى
فيتنام في محاولة منها لحل مشكلة جيل من اليافعين أطلق عليهم اسم (أمريكيي
فيتنام) .. أولئك كانوا أطفال السِّفَاح وشاهد الجريمة التي ارتكبها الجنود الأمريكيون
خلال الحرب في الهند الصينية.. كانت الأغلبية العظمى من أولئك من أبناء الزنى، ولا يتعدى الأبناء الشرعيون بضعة آلاف بين أكثر من 35000 طفل وشاب هو
مجموع نتاج الحضارة الأمريكية الزاحفة إلى مجاهل فيتنام..، وانطلقت الصحافة
الأمريكية ووسائل الإعلام الغربية تعرض جزءاً من المشهد الكالح.. وكيف تحولت
قرى بأكملها إلى فراش عُهر، وأن القاصرات كُنَّ هدفاً جماعياً لإغراء الدولار
الأخضر..، دُمرت أسر وهتكت أعراض وظهر جيش من الجراد البشري يذكّر
صباح مساء بالجريمة ومقترفيها من خلال المعالم والقسمات التي كانت تحكي عن
قصة حزينة جاءت بأولئك الذين لا يشبهون الفيتناميين ولا الأمريكان، إنهم أولاد (البين بين) كما يسميهم السكان المحليون..
(هكذا دخل الفاتحون من اليانكي) قالها شيخ فيتنامي عجوز، وأشار (لقد
أوجدوا مدناً ليس فيها إلا شيطان للشهوة يحكم ويعربد..) ويمضي العرض
التوثيقي فيبرز لنا (مدن الرذيلة) الشرق آسيوية، فلقد كانت بانكوك مدينة صغيرة
غارقة في أحلام وهموم أبنائها، حتى أتى الدولار الأخضر تحركه آلة بشرية
متوحشة، تبحث عن اللذة، وتدمر القيم، وفي سنوات قصيرة انقلبت بانكوك إلى
أكبر ماخور آسيوي وأخطر بيت للدبابير الوبائية في العالم.. وبالطبع كانت هناك
مدن أخرى كمانيلا وسنغافورة..
ربما تتساءلون ما علاقة الصومال بذلك؟ وأجيب: العلاقة ظاهرة لمن
يتذكر حادث الاعتداء على الفتاة الصومالية التي كانت) لا ترفِّه عن الفرقة الفرنسية
في مقديشو، والتي أفلتت من الموت بعد تدخل أهل (النخوة) من الجنود
الأمريكان لإنقاذها! .. وخوفي على الصومال زاد حين طُرحت المشكلة مرة
أخرى على نمط ما يحصل في الفلبين - حيث ينسحب الجنود الأمريكان من
قواعدهم العسكرية بعد عقود من التواجد الدائم - تفجرت مشكلة مشابهة حيث هناك
الآلاف من أطفال اللذة المحرمة الذين يرفض آباؤهم الاعتراف بهم ويتركونهم
يواجهون خطر الجوع والانحراف حيث أصبحوا مادة رائجة لتجار الانحراف في
العاصمة الفلبينية، لقد تعقدت المشكلة وتفاقمت لكن الذي بقي في ذهني من النقاش
حولها كلمة قالها (وحش بشري) من المارينز وهو متجهِّم: (يكفيهم شرف وجود
الدم الأمريكي بين أطفالهم..) ! .
هكذا ... هكذا.. والآن.. ماذا عن الفاتحين الغازين من جنود أمريكا في
الصومال؟ ؟ (إنهم يتجهون إلى هنالك لأداء مهمة لا يعرفون لها هدفاً ولا ...
يتحمسون لنتائجها..) هكذا يقول (أرنست دلسوك) المعلق الأمريكي ويضيف: (مأساة الجندي الأمريكي أنه ينفذ الأوامر دون أن يحمل قضية بل ربما حمل ...
تناقضات مجتمعه إلى البلد المغزوّ..) .
ماذا وجد هؤلاء في الصومال المسلم؟ :
بعض الشهادات من الجنود والمعلقين الأمريكيين تقول إنهم وجدوا:
(أناساً فقراء، لكنهم أعزة) .
(الشرف والعِرض أغلى ما يملكه الصومالي ولو كان لصا..)
(مقديشو أكثر أمناً من شوارع واشنطن، في واشنطن هناك أباطرة
المخدرات وزعماؤها، وهنا أباطرة الحرب والسلب، والفريق الثاني أقل خطراً من
الأول..) .
أحداث لوس أنجلوس والصراع العرقي الصاعد في المدن الأمريكية أثَّر بدوره
على التعايش، وفتح أعين العديد من الجنود السود على عالم يخلو من التفرقة،
ويعيش رغم مأساته في ألفة، وبعيداً عن العنصرية التي تعشعش داخل المؤسسة
العسكرية الأمريكية، كما تقول مجلة (نيوز ويك) [1] .
(نظر أحد الجنود البِيض إلى زميله في اللون (والعقلية) وقال: (سأطلق
النار على أول أسود ابن (..) أشاهده) .
ما الذي يجمع بين فيتنام والفلبين والصومال وبين جندي المارينز الأمريكي ... (الغازي) غير خيط رفيع يتمثل في عنصرية وبشاعة الرجل الأبيض الذي يثير هذه
العنصرية الفجة، خيط واضح كل الوضوح يجعله مسار السخط أينما حل وأينما
ارتحل حيث يعامل الآخرين من بني البشر بتعالٍ كريه ويتفضل عليهم حينما يلقي
بفضلاته على عرضهم وأرضهم التي يستبيحها.
الصومال فيه عرق إيمان سيظل نابضاً بحول الله. وهو حينما يرفض أن
يتحول إلى (لعبة سهام) أو (ساحة قنص بشري) أو (كباريه أمريكي) فإن أول تهمة ستُوجَّه له أنه: أصولي متطرف! !
خوفي على الصومال لا تطفئه إلا ثقتي باندحار كل حضارة تقدس القوة
وتحترف الرذيلة وتهلك الحرث والنسل، وهذا الاطمئنان يتأكد كلما ذكّرت البشرية
بنماذج الفاتحين الذين أحالوا الحرب إلى نموذج أخلاقي رفيع وفن في تبليغ دعوة
ورسالة.. هنا فقط تأتي المفارقة ساطعة كشمس الصومال المنيرة حينما تنتمي
الضحية إلى حضارة - وإن كانت مطمورة - بينما لا يحارب اليانكي (في قمة
صعود حضارته المادية الصماء) إلا بعضلاته وهي التي تسوقه إلى حتفه يوماً ما
سنراه قريباً.