الهند والديموقرطية الضائعة
د. أحمد محمود عجاج
ليس من باب المبالغة القول إن الهند - بما تمثله من تعدد طوائفها، وتنوع
لغاتها، وتوزع شرائحها الاجتماعية - هي بالفعل حالة فريدة من نوعها قل نظيرها
في عالم اليوم. فهذا البلد الذي يتجاوز عدد سكانه الثمانمائة مليون نسمة انتهج
لنفسه النموذج الديموقرطي الغربي واستمر في تطبيقه في خضم اختلافات عرقية
ودينية كان من المفترض أن تؤدي في أسرع وقت إلى تفكيك الهند كبلد متعدد
الأديان والأعراق. وقد تغنى بعض الكتاب والنقاد بهذه الديموقرطية ولكنها كانت
قشرة رقيقة ضعيفة حافظت على زخمها قليلاً، وكانت تخفي تحتها - ومنذ البداية
- تعصباً هندوسياً لا يحتمل التعدد ولا يحتمل وجود الإسلام بالذات، ولذلك شهدت
الفترة الأخيرة ما لم يكن متوقعاً، وأبرزت ما لم يكن ممكناً تصوره، وذلك عندما
انطقت كتل بشرية يبلغ تعدادها مائتي ألف نسمة - تركض باتجاه مسجد في بلدة
أيوديا الواقعة في شمال الهند وهي تصرخ باسم (الإله رام) رمز الشجاعة والتسامح
عند الهندوس لتبدأ لدى وصولها بهدم جدرانه وسط الأناشيد والتهاليل والهرج
والمرج. ويقول هؤلاء الهندوس إن المسجد - وهو المسجد البابري - قد بناه الفاتح
المغولي بابر على أنقاض معبد هندوسي، وهو المكان ذاته الذي وُلد فيه الإله رام
المعظم بدعوى أن بناء المسجد على أنقاض المعابد تقليد درج عليه المسلمون
الفاتحون آنذاك.
وقصة المسجد ليست جديدة على الإطلاق فقد نجحت جماعة من الهندوس
المتشددين في التسلل إلى المسجد في عام 1949م، ووضعت لاحقاً صنماً للإله رام
في داخله، وادعت أن ما قامت به هو استجاية لتدخل مقدس. وتطورت قضية
المسجد منذ ذلك الحين بعد أن رفعت دعاوى تطالب بتثبيت ملكيتهم الوحيدة للمسجد، ووصلت المشكلة أوجها في عام 1984، وذلك عندما نظمت مجموعة من
الهندوس المتشددين مظاهرة تدعو إلى تحرير مكان ولادة الإله رام ولكن اغتيال
رئيسة الوزراء أنديرا غاندي آنذاك وما تبعها من عمليات قمع قامت بها الشرطة
حالت دون ذلك.
وجد حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي الفاشيستي في قضية المسجد فرصة ذهبية
لا يمكن تضييعها على الإطلاق في ظل ديمقراطية تسمح له بممارسة التحريض
والتزمت وبث الفرقة، وإثارة النعرات في سبيل الحصول على مكاسب انتخابية
تضمن له الوصول إلى السلطة؛ وإن كان على حساب الأملاك والأرواح والقيم
والمثل. وبالفعل ساعدت السياسة النفعية المحضة واللا أخلاقية الحزب الهندوسي
الفاشيستي على كسب المزيد من الأصوات، واستمالة شرائح واسعة من المجتمع
الهندوسي مما زاد من شهيته وحضه على تصعيد العداء الديني، وبث الروح
الهندوسية وإحياء الماضي والدعوة إلى إقامة مجتمع هندي خالص؛ لذا جاء في
دليله الخاص على لسان الفيلسوف (أ. م. غولكار) أن المسلمين في الهند
والمسيحيين والشيوعيين يمثلون خطراً أجنبياً على الهند وأن ما هو مطلوب منهم
ليس إلا التخلي عن ردائهم الأجنبي المعقد، ودمج أنفسهم في التيار الوطني
المشترك، وهو بالطبع القومية الهندوسية. وقد ساعدت الحزب الهندوسي عوامل
محلية عديدة منها اعتقادات خاطئة ومنتشرة على نطاق واسع في صفوف الهندوس
مفادها أن المسلمين يتكاثرون بسرعة فائقة تفوق سرعة تكاثر الهندوس، وأن
الأحزاب بمجملها - وعلى رأسها حزب المؤتمر - تحابي المسلمين في سبيل كسب
أصواتهم مما يسمح للأقلية - وهم المسلمون - أن تفسد الأغلبية الهندوسية.
والأكثر اعتقاداً أن المسلمين ناشطون في مجال الدعوة ويقومون عملياً بتغيير
معتقدات الطبقات الهندوسية الدنيا وعلى رأسها طبقة المنبوذين.
ويعتقد حزب بهاراتيا أنه في سبيل تنفيذ سياسته أو برنامجه الانتخابي كما هو
متعارف عليه في النظام الديموقرطي لابد له من الوصول إلى السلطة حتى يتسنى
له تغيير الدستور والقوانين التي يمثل وجودها عائقاً أمام تحقيق برنامجه الذي
يتضمن فيما يتضمن هدم المسجد البابري، وتشييد معبد هندوسي على أنقاضه
بذريعة أن الأرض للهندوس وأن المكان شهد ولادة الإله رام إله التسامح والمحبة.
وهكذا استطاع الحزب ضمان أرضية انتخابية تضمن له نجاحاً بارزاً في أية
انتخابات قادمة وبالتالي دخول السلطة من بابها السهل بغض النظر عن الأسلوب
طالما أن الغاية تبرر الوسيلة.
ليست الغرابة في طبيعة حزب بهاراتيا - الذي هو أصلاً لا يعدو عن كونه
حزباً فاشياً عضويته مقصورة على الهندوس، ويقوده زعماء سبق أن كانوا قادة في
حزب جان سانغ المتطرف، والمعادي للإسلام والمسلمين والمنادي بفرض اللغة
الهندوسية على جميع سكان الهند ورفض إعطاء تنازلات للأقليات سواء أكانت
متعلقة باللغة أو التعليم أو قوانين الأحوال الشخصية - بل الغرابة هي مسارعة بقية
الأحزاب العلمانية للتعامل والتنسيق معه في الحملات الانتخابية بغية إخراج حزب
المؤتمر من السلطة. حيث لم يتلكأ حزب جانتا دال عن التحالف مع حزب بهاراتيا
في عام 1989م التي انتهت بفوز الأخير في 63 مقعداً مما جعله أكبر حزب
معارض في البرلمان الهندي، وبالتالي صار قادراً على إسقاط أية حكومة لا
تستجيب إلى بعض مطالبه.
الحقيقة تقال إن نجاح حزب بهاراتيا يعود في معظمه إلى فشل التجربة
الديموقرطية في الهند بسبب ممارسات خاطئة انتهجها حزب المؤتمر أكبر أحزاب
الهند والذي تزعم هو وحزب الرابطة الإسلامية تحرير الهند من بريطانيا مستفيداً
من ثورة المسلمين الكبرى على الإنجليز عام 1857م. وسبب فشل هذا الحزب
بالذات ناتج عن عجزه عن متابعة المسار الذي خطه له جواهر لال نهرو والقائم
على حفظ التوازنات بين جميع القوى الفاعلة، وتنشيط كوادر الحزب والاستجابة
لمطالبها على مستوى الولايات، وضمان تمثيل معتدل لها في السلطة المركزية.
فقد تحول حزب المؤتمر بعد وفاة جواهر لال نهرو وتولي أنديرا غاندي قيادته إلى
حزب عائلي محض يتمحور حول شخصية أنديرا غاندي التي أصبحت هي الحزب
والحزب هي، بمعنى أن برنامجه الانتخالي أصبح محصوراً ومرتبطاً بشخصها
بعدما كان في الماضي يعتمد على الكوادر المحلية في كل ولاية. وهذا التوجه أدى
إلى تراجع شعبية الحزب الذي لم يعد قادراً على إنتاج شخصيات مستقلة تستطيع
ممارسة سياسة تتعارض مع قائد الحزب طالما هي في النهاية تصب في مصلحة
الحزب والمجموع. لم يتراجع هذا النهج بعد وفاة أنديرا غاندي بل تعزز مع
وصول ابنها راجيف غاندي الذي قام بتعيين الوزراء في المقاطعات على أساس
الولاء الشخصي والمحسوبية الضيقة والمصلحة الآنية وبالتشاور مع دائرة محدودة
من المقربين والمنتفعين دون الرجوع إلى آراء الكوادر الحزبية.
لم يتردد راجيف غاندي في اتباع أية وسيلة، وممارسة سياسات ضارة منها:
الاستجابة للروح القومية الهندوسية، وإثارتها في سبيل كسب أصوات انتخابية،
وسحب هذه الورقة من الأحزاب الهندوسية المتطرفة. واتضحت تلك السياسة
الطائفية ووصلت نتيجتها الحتمية عندما أصدرت إحدى المحاكم المحلية - بإيعاز
غير مباشر من حزب المؤتمر - قراراً ينقض حكماً سابقاً بخصوص مسجد البابري
- مضى على صدوره 36 عاماً - ويسمح بالتالي للهندوس بممارسة الشعائر الدينية
أمام تمثال الإله رام الذي وُضع داخل المسجد في سنة 1949م.
لم تسفر سياسة الاسترضاء عن أية نتيجة إيجابية سوى تعزيز قدرة الأحزاب
المتطرفة، وتشجيعها على زيادة مطالبها، وبالتالي رفع حدة التقسيم داخل المجتمع
الهندي على أساس الوازع الديني، والإيذان بمرحلة جديدة يقودها التطرف ويُحكم
مسارها الحقد والكراهية؛ لذا لم يتردد زعيم حزب بهاراتيا بالقول: (إن ما حدث
في أيوديا كان بداية أساس للوطن الهندي) ! .
إن التجربة التي عاشتها الهند أخيراً تستدعي من القادة الهنود الوقوف قليلاً،
والتبصر بحكمة وصبر ورويَّة في أبعاد السياسات التي تنتهجها الأحزاب الهندوسية
المتعصبة ووضع خطة جديدة تلائم الواقع الهندي، وتنسجم أكثر مع شعارات
الديموقرطية التي ترفعها، وتأكيد الحكومة - فعلاً لا قولاً - أنها تعني ما تقول حتى
تعطي لنفسها المصداقية. وكنا نتمنى أن لا تبدأ سلسلة التراجعات الهندية الرسمية
التي بدأت بالوعد من قِبَل رئيس الوزراء ببناء المسجد ثم تحولت إلى بناء مسجد
ومعبد في نفس المكان ولكنها انتهت عملياً ببناء المعبد وإقفال ملف المسجد! .