الحركة العلمية في بلاد
الحجاز في العصر الأموي
د.محمد أمحزون
السيرة والمغازي:
لقد كان النزوع إلى جمع المعارف وحفظها من الضياع متعدد الجوانب في
صدر الإسلام، وبدأ في فترة كان فيها عدد كثير من الصحابة وكبار التابعين لا
يزالون على قيد الحياة. وبناء على بعض الأخبار سبق ذكرها يتضح لنا أن
الصحابة والتابعين كان لديهم حس تاريخي؛ فكانت المعارف والذكريات تدوّن من
الذاكرة على الورق، حتى تبقى بعد وفاة مدوّنيها.
وقد استخدم الواقدي كتباً من تأليف بعض الصحابة أسهمت إلى حد ما في
رواية كتب المغازي. ومن هذه الكتب كتاب بخط مؤلفه الصحابي سهل بن أبي
حتمة الأنصاري توفي زمن معاوية بن أبي سفيان. وقد بقيت بعض المعلومات التي
جمعها لدى حفيده محمد بن يحيى، وعنه أخذ الواقدي بعض المغازي [1] . وتعطي
المقتبسات منه صورة تكفي لإيضاح أن سهلاً قد اهتم في كتابه بغزوات الرسول -
صلى الله عليه وسلم-[2] .
وهناك قطعة من مصنف للصحابي العلاء بن الحضرمي يعطي مثلاً آخر على
أن بعض الصحابة قد اعتادوا أن يسجلوا ذكرياتهم المهمة عن سيرة الرسول -
صلى الله عليه وسلم -[3] .
لكن كتب السيرة المختصة كتبت على وجه التحديد في جيل التابعين، حيث
كان عدد من الصحابة موجودين، فلم ينكروا على كتاب السيرة، مما يدل على
إقرارهم لما كتبوه. والصحابة على علم دقيق وواسع بالسيرة لأنهم عاشوا أحداثها
وشاركوا فيها، وكانت محبتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - وتعلقهم به
ورغبتهم في اتباعه وأخذهم بسنته في الأحكام سبباً في ذيوع أخبار السيرة
ومذاكرتهم فيها وحفظهم لها؛ فهي التطبيق العملي لتعاليم الإسلام.
وجدير بالإشارة أن هذا التبكير في كتابة السيرة قلل إلى حد كبير من احتمال
تعرضها للتحريف أو للمبالغة والتهويل أو للنسيان والضياع.
ومن أقدم من ألف من التابعين في السيرة والمغازي عروة بن الزبير (ت سنة
14 هـ) وأَبان بن عثمان بن عفان (ت سنة 105 هـ) وشرحيبل بن سعيد (ت سنة 123 هـ) وابن شهاب الزهري (ت سنة 124 هـ) وعاصم بن عمرو بن قتادة (ت سنة 129 هـ) وموسى بن عقبة (ت سنة 141 هـ) .
وكل هؤلاء من أهل المدينة، وقد تأثروا برأي أهل المدينة الذي يغلب عليه
طابع الحديث فمن الأمور الطبيعية نشوء علم السيرة في المدينة، إذ كانت المكان
الذي نصر الإسلام وحاطه، فاكتسبت السيرة بذلك ثوباً مدنياً، وطبعت بالطابع
الذي تميز به أهل الحجاز وهو ميلهم إلى الحديث والرواية، والتدقيق والمحافظة.
أما عروة بن الزبير بن العوام، فيعدّ أحد فقهاء المدينة السبعة [4] . انصرف
بكليته إلى الدراسة وإلى العناية بجمع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
والبحث في سيرته ومغازيه حتى قال عنه الزهري: «رأيت عروة بحراً لا تكدّره
الدّلاء» [5] .
روى عن علي وعائشة وأبي هريرة وأمثالهم، وحدث عنه حبيب بن أبي
ثابت وخالد بن أبي عمران قاضي أفريقيا وأبو الزناد والزهري وغيرهم [6] . وقد
وصلت إلينا بعض كتبه في مؤلفات ابن اسحاق والواقدي والطبري، وهي من أقدم
ما وصل إلينا مدوناً عن مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وأما أبان بن عثمان، فإنه وإن كان قد شارك في بعض الأحداث مثل وقعة
الجمل، وتولى إمارة المدينة في أيام عبد الملك بن مروان [7] إلا أنه فضل
الاشتغال بالعلم، إذ يعد من فقهاء المدينة السبعة [8] ومن أقدم من ألفوا في المغازي
والحديث [9] . لكن لم يقتبس منه من المؤرخين سوى اليعقوبي في تاريخه [10] .
ويشاركه في هذا الميل شرحبيل بن سعيد، وهو أحد المؤلفين والعلماء الأوائل
في ميدان المغازي، قال سفيان بن عيينه عنه: «لم يكن أحد أعلم بالبدريين
منه» [11] . وكان شيخاً قديماً حدث عن زيد بن ثابت ومعظم الصحابة [12] .
وروى بالخصوص عن أبيه سعيد بن سعد بن عبادة الخزرجي الذي كان له
اهتمام بجمع المعلومات التاريخية المتعلقة بالمغازي [13] . وقد بقيت بعض
المعلومات التي جمعها في مسند الإمام أحمد وتاريخ الطبري [14] ، واعتمد ابنه
شرحيبل عليها في كتاباته. فسار على سنة أسرته في التأليف في المغازي، إذ كان
جدّه سعد بن عبادة الصحابي المشهور ذا مؤلف في السنن لا يزال معروفاً في القرن
الثالث الهجري [15] . وقد ذكر محمد بن طلحة الطويل أن شرحبيل أعدّ قوائم بمن
اشتركوا في غزوتي بدر وأحد، لكن فيها شيء من المبالغة [16] .
ومن الرواد الأوائل في كتابة السيرة أيضاً عاصم بن عمر بن قتادة المدني؛
روى عن بعض الصحابة مثل جابر وأنس، وحدث عنه بكير بن الأشجّ وابن
عجلان وابن اسحاق وغيرهم [17] . وكان عالماً بالسيرة، ثقة، كثير الحديث
[18] ، يعتمد عليه ابن اسحاق في كثير من مروياته [19] .
وقد أمره الخليفة عمر بن عبد العزيز أن يجلس في جامع دمشق فيحدث
بمغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومناقب أصحابه [20] . ثم رجع إلى
المدينة، فلم يزل بها حتى توفي سنة ثلاث وعشرين ومائة [21] .
ومنهم محمد بن مسلم بن شهاب الزهري الذي يعدّ من كبار المحدثين في
عصره، وثقه جهابذة علماء الجرح والتعديل [22] ، وأثنى عليه الأئمة بالفهم وسعة
العلم [23] . وهو أول من استخدم طريقة جمع الأسانيد ليكتمل السياق وتتصل
الأحاديث دون أن تقطعها الأسانيد [24] . وكان صاحب دراسات في التاريخ
الحديث والفقه، يكتب ما يسمعه ويجمعه من مشايخه؛ قال عنه أبو الزناد: «كنا
نطوف مع الزهري على العلماء ومعه الألواح والصحف يكتب كل ما سمع» [25] .
وكان حريصاً على الطلب، بصيراً بالعلوم حتى صار مرجع علماء الحجاز
والشام. قال فيه الليث بن سعد: «ما رأيت عالماً قط أجمع من الزهري، يحدث
في الترغيب فتقول: لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن العرب والأنساب قلت:
لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن القرآن والسنة فكذلك» [26] .
وبذلك تكونت من كتاباته وعلومه هذه مجموعات ضخمة دخلت قصور الخلفاء
الأموين. فقد أمر الخليفة هشام بن عبد الملك اثنين من كتابه بمرافقة الزهري
فرافقاه سنة في مجالسه التي يحاضر فيها، ثم أودع ذلك النقل خزانة هشام [27] .
وحكي أنه حين قتل الوليد بن يزيد (ت سنة 126 هـ) حملت الدفاتر من خزانته على الدواب من علم الزهري [28] .
ومنهم موسى بن عقبة الأسدي مولى آل الزبير، وهو محدث ثقة من تلاميذ
الزهري [29] وقد أثنى الإمام مالك على كتابه في المغازي وقال أنه أصح
المغازي [30] . وقال يحيى بن معين: «كتاب موسى بن عقبة عن الزهري من أصح هذه الكتب» [31] .
عاش موسى بن عقبة في المدينة، وكانت له في مسجد رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - حلقة علم يمنح فيها كذلك إجازاته العلمية [32] . ويبدو أن
البخاري قد أفاد من مغازيه في الصحيح [33] . واختصرها ابن عبد البر بعنوان:
(كتاب الدرر في اختصار المغازي والسير) [34] . كما استخدمها الحافظ ابن حجر
في كتابه (الإصابة) [35] .
هؤلاء هم الرواد الأوائل في كتابة السيرة في المدينة المنورة موطنها الأصلي، ويتضح من توثيق نقاد الحديث لهم ما تميزوا به من العدالة والضبط، وهما
شرطان عند العلماء لتوثيق الرواة. فلئن كانوا عُدَّلوا عند المحدثين رغم دقة
شروطهم في التوثيق، فإن هذا التوثيق يعطي كتاباتهم في السيرة قيمة علمية كبيرة.
ويعد ذلك دليلاً ساطعاً بأن الله تعالى حفظ سيرة نبيه - صلى الله عليه وسلم -
من الضياع والتحريف والمبالغة، بأن هيأ لها جهابذة المحدثين ليعنوا بها ويدونوا
أصولها الأولى قبل أن تتناولها أقلام الإخباريين والقصاصين.