د. عبد الرحمن صالح العشماوي
الشبهة الثالثة:
يقول المعارضون لمصطلح الأدب الإسلامي إنَّ هذا المصطلح يجعل الأدب
واضحاً ومباشراً في خطابه، والوضوح والمباشرة عدوان لدودان لفنيَّة النص
الأدبي.. والذي يثير العجب أن أصحاب هذا الرأي يعيبون الوضوح والمباشرة
على إطلاقهما، ويدعون إلى الغموض من خلال الرموز الغائمة بحجة أن الأديب لا
ينزل إلى مستوى القراء، بل هم المطالبون بأن يرقوا إلى مستواه فإن فهموا فذلك
ما يريد، وإن لم يفهموا فليس الأديب مسؤولاً عنهم، ويستدلون على ذلك بالمقولة
المشهورة التي قالها أبو تمام لأبي العميثل عندما سأله: لماذا لا تقول ما يُفهم، فردَّ
عليه أبو تمام بقوله: لماذا لا تفهم ما يقال؟ ؟ وهو استدلال في غير محلِّه فما كان
غموض أبي تمام مستغلقاً على الفهم، والذي سأله لم يكن جاهلاً بمعاني أبيات أبي
تمام - كما يظهر لي - فهو ذو مقدرة لغوية وأدبية استحق بها أن يكون هو الذي
يجيز القصائد التي تُلقى أمام الخليفة. والذي أميل إليه أن سؤاله لأبي تمام كان من
قبيل إشعاره بمخالفته لعمود الشعر العربي، وهو أمر واضح عند أبي تمام، وهذه
قضية خارجة عن موضوعنا هذا ويمكن أن أفصِّل في موضع آخر القول فيها - إن
شاء الله -[1] .
أقول: إن قضية الوضوح والمباشرة بحاجة إلى بيان حتى لا تظلَّ شبهة
مثارة تنطلي على ناشئة الأدب في بلاد المسلمين فيظنون أن الوضوح والمباشرة
عيبان مخلاَّن بفنية الأدب، ونحن نعلم أن التعميم في الأحكام النقدية كثيراً ما يكون
سبباً في قتل الموضوعية، وضياع الإنصاف في الحكم على الأديب، أو على
النص الأدبي [2] .
ولا بد من الإشارة إلى (الرمزية) عندما نتحدَّث عن قضية الوضوح ...
والمباشرة لأنها إنما طُرحت في شكل قضية أدبية ملحة بعد اجتياح موجة الغموض
والإبهام لمساحة كبيرة من النصوص الأدبية في العالم، وكان ذلك الغموض المبهم
نتيجة طبيعية للرمزية التي نادت بتغيير وظيفة اللغة الوضعية بإيجاد علاقات لغوية
جديدة تشير إلى موضوعات غير معهودة تؤدي إلى تغيير مقام الكلمات ومجرى
الصياغة المألوفة.. ولذلك لا يستطيع القارئ أو السامع أن يجد المعنى الواضح
المعهود في الأدب [3] .
تحركت هذه الرمزية صوب المناطق المعتمة في النفس البشرية، وجرَّت
معها نصوص الأدب إلى أدغال الرموز والأساطير والإشارات التي لا أثر فيها
لضوء، ولا مكان فيها لشمس أو قمر أو نجوم، ونشأت بتأثير الرمزية مدرسة
الغموض والإبهام في الأدب العالمي، وتبعه في ذلك - كما هي العادة - الأدب
العربي، وكان طبيعياً أن تعادي مدرسة الغموض المولودة في أحضان الرمزية
الوضوح والمباشرة عداءً عاماً لا مكان فيه للمناقشة الموضوعية الهادئة، وسرت
لوثة الغموض والرمزية الغارقة في الإبهام في عدد غير قليل من نصوص الأدب
العربي المعاصر معتمدة على موجة الحداثة الفكرية التي نادت وما تزال بمعارضة
المألوف والخروج عليه كما هو شائع في كتابات أصحاب هذه الدعوة، وهنا أصبح
(الوضوح) في الأدب هدفاً من أهداف دعاة الخروج عن المألوف يرمونه بسهام
التشكيك، ويشنعوه على الأدباء الذين يكتبون أدباً واضحاً فيه مقومات الصياغة
الفنية الرائعة من أسلوب متقن، وصورة بديعة، ومشاعر دفَّاقة مؤثرة.
ولعل من المصلحة هنا أن نحدِّد نقاطاً لتناول هذه الشبهة حتى لا يطول بنا
المقام.
أولاً: نحن لا نقف ضد الرمز الموحي الذي يغلِّف الكلمة بغلاف رقيق
تطالعك من ورائه فكرة الأديب، والأدب الإسلامي يحترم الرمز المعبِّر وقدوته في
ذلك القرآن الكريم، ففيه عبارات وجمل ترمز إلى المعنى المراد ولا تصرح به،
وكذلك في حديث رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، وهناك فرق كبير يغفل عنه
كثير من الناس، بين الرمز الشعري الذي يستخدمه الشاعر للدلالة على فكرة ما،
وبين الرمزية التي هي مذهب أدبي غربي. ولذلك حصل الاضطراب عند بعض
النقاد في قضية الوضوح والمباشرة.
ثانياً: الوضوح والمباشرة ليسا عيبين في الأدب بهذا الإطلاق الذي يرد في
بعض الدراسات النقدية، فهما ضرورتان ملحتان لكل أديب يريد أن يوصل مشاعره
وأفكاره إلى الناس، خاصة عندما يكون الأديب صاحب رسالة عظيمة في الأمة كما
هو شان الأديب الإسلامي، وإنما يعاب الوضوح، وكذلك المباشرة، عندما يطغيان
على فنية العمل الأدبي فتصبح القصيدة كلمات وجملاً مصفوفة لا يربط بينها إلا
الوزن الشعري وليس فيها روح الأدب، ولا جمال تصويره، ولا إيحاء عباراته.
فعندما يقول شاعر مخاطباً شخصاً ما:
تعيش وتبقى ما حييت وتسلمُ
فإنه بهذا المطلع الخاوي الذي لا روح فيه يخرج من مفهوم فنية الأدب،
والأدب الإسلامي لا يقر (فنياً) مثل هذه الكلمات الجافة الجامدة، وهذا الجفاف
والجمود لم يأت من قبل الوضوح والمباشرة كما قد يتخيل البعض، وإنما أتى من
قبل خواء المعنى وعدم نجاح الشاعر في نقل تجربة شعورية صادقة.
ولو كان الوضوح والمباشرة هو العيب، لألغينا مساحة شاسعة من الآداب
العالمية، ومحوناها من خارطة الأدب، وذلك ما لا يقول به ذو بصيرة. عندما
يقول الشاعر الإسلامي محمد محمود الزبيري - رحمه الله -:
خرجنا من السجن شُمَّ الأنو ... ف كما تخرج الأُسْدُ من غابها
نمر على شفرات السيوفِ ... ونأتي المنيَّة من بابها
فإن في هذين البيتين وضوحاً ومباشرة، ولكنها شعر مؤثر، وفيها تصوير
فني جميل لثبات الإنسان على مبادئه التي يؤمن بها، فالفنية هنا موجودة ولم تكن
المباشرة أو الوضوح عيباً بالرغم من وجودهما هنا. وبهذه النظرة النقدية العادلة
نستطيع أن نردَّ مثل هذه الشبهة الباطلة.
ثالثاً: الرمز الموحي مطلوب من النص الأدبي، والأديب المقتدر هو الذي
يحسن استخدام الرموز وتوظيفها، سواء أكانت رموزاً تاريخية أم معاصرة، وسواء
أكانت بشرية أم غير بشرية بل إن الشاعر إذا استخدم رمزاً موحياً وأحسن توظيفه
في النص الأدبي، استطاع أن يؤثر تأثيراً أعمق وأن يحقق للقارئ متعة أكبر،
وإنما يأتي الخلل عندما يصبح الرمز هدفاً ووسيلة لا يتنازل عنها الشاعر فإنه بهذا
يخرج عن إطاره الصحيح ويتجاوز حدَّه المعقول.
رابعاً: الوضوح والمباشرة موجودان في كل نصٍ أدبي يحمل فكرة وإنما
تختلف النسبة من نص إلى نص، اللهم إلا عند الأدباء الذين يجعلون الرمزية غاية
وهدفاً، ويسعون إلى الغموض والإبهام ولا يعنيهم أن يفهم القارئ ما يكتبون، وإنما
يعنيهم أن يتفنَّنوا في استخدام أساليب الرمزية الغامضة، وباستطاعة كل أديب
مقتدر أن يستخدم التعابير اللغوية استخداماً مباشراً ولكنه مفعم بأثر تجربته الشعورية
التي تتناغم مع الإيقاع الشعري الذي يستخدمه، أليس شعر المتنبي واضحاً
ومباشراً؟ ؟ بلى هو كذلك، فلماذا أحبه الناس وما زالوا يحبونه؟ ؟ لماذا لم يكن وضوحه ومباشرته سببين في رفضه وحاجزين أمام إبداعه؟ ؟ وغير المتنبي كثير.
ونخلص من هذا إلى القول بأن الوضوح والمباشرة ليسا مما يعوق العملية
الفنية، وبأن الأدب الإسلامي لا يقف ضد الرمز الموحي، ولا يقبل الجمود
والجفاف في النص الأدبي، وإنما ينظر إلى (الوضوح والمباشرة) بمنظار نقدي
سليم.