في المنهج
قاعدة في الحكم على المخالف
عثمان علي حسن
التفريق بين الكفر وقائله:
وهذا من الأصول العظيمة التي امتاز بها أهل السنة والجماعة عن سائر
الفرق، أنهم يفرقون بين المقالة وصاحبها، فالمقالة قد تكون كفراً أو فسقاً وصاحبها
ليس بكافر ولا فاسق، كما أنها قد تكون إيماناً وتوحيداً وصاحبها ليس بمؤمن ولا
موحد.
ولكي توافق مقالة الكفر صاحبها، ويوصف بها، لا بد من تحقيق شرائط
وانتفاء موانع:
أما الشروط فمنها [1] :
1- أن يكون صريح قوله الكفر عن اختيار وتسليم.
2- أن يكون لازم قوله الكفر، وعرض عليه فالتزمه، أما إذا لم يلتزمه، بل
رده وأنكره فليس بكافر.
3- أن تقوم الحجة عليه ويتبينها؛ لقوله تعالى: [ومَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى
نَبْعَثَ رَسُولاً]
[الإسراء 15] ، وقوله: [ومَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى]
[النساء 115] .
وأما الموانع فمنها [2] :
1- أن يكون حديث عهد بالإسلام.
2- أن يكون قد نشأ ببادية بعيدة، ويدخل معه من لم يجد إلا علماء الابتداع
يستفتيهم ويقتدي بهم.
3- أن يكون مغيب العقل بجنون ونحوه.
4- أن لا تبلغه نصوص الكتاب والسنة، أو بلغته ولم تثبت عنده - إن كانت
سنة - أو لم يتمكن من فهمها.
5- بلغته وثبتت - عنده - وفهمها، لكن قام عنده معارض - من رأي أو
ذوق - أوجب تأويلها، وإن كان مخطئاً. ويدخل معه المجتهد المخطئ، فإن الله
يغفر له خطأه ويثيبه على اجتهاده إن كان حسن النية.
وعليه، فلا يجوز الحكم على معين بالكفر إلا بعد تحقيق شروطه وانتفاء
موانعه، وما أثر عن بعض السلف من إطلاق التكفير واللعن فهذا يبقى على إطلاقه
وعمومه، ولا يتعين في حق إنسان إلا بدليل: قال ابن تيمية -رحمه الله-: (فإن
الإمام أحمد - مثلاً - قد باشر الجهمية الذين دعوه إلى خلق القرآن، ونفي الصفات، وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على
التجهم بالضرب والحبس، والقتل والعزل عن الولايات، وقطع الأرزاق، وترك
الشهادة، وترك تخليصهم من أيدي العدو، بحيث كان كثير من أولي الأمر إذ ذاك
من الجهمية؛ من الولاة والقضاة وغيرهم: يكفرون كل من لم يكن جهمياً موافقاً لهم
على نفي الصفات، مثل القول بخلق القرآن، ويحكمون فيه بحكمهم في الكافر..
ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره، ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم،
وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين
عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم، فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة
والإجماع، وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم
يكفروا المعينين من الجهمية، الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق، وإن الله لا
يُرى في الآخرة..) [3] .
فالمخالف للكتاب والسنة إما أن يكون مجتهداً مخطئاً، أو جاهلاً معذوراً، أو
متعدياً ظالماً كأن يرتكب كبيرة، أو منافقاً زنديقاً كأن يبطن الكفر ويظهر الإسلام،
أو مشركاً ضالاً وهو المصرح بالكفر. وكل يعامل بحسبه.
العذر بالجهل [4] :
لا بد من التفريق بين جاهل تمكن من العلم ومعرفة الحق ثم أعرض عنه،
وآخر لم يتمكن من ذلك بوجه:
فالمتمكن المعرض مفرِّط تارك للواجب عليه، لا عذر له عند الله، وأما
العاجز عن السؤال والعلم لا يتمكن منه بوجه، فهم قسمان:
1- مريد للهوى، مؤثر له، محب له، لكنه غير قادر عليه وعلى طلبه،
وذلك لعدم وجود من يرشده، فهذا حكمه حكم أرباب الفترات ومن لم تبلغه الدعوة.
2- معرض لا إرادة له، لكنه لا يحدث نفسه بغير ما هو عليه.
فالأول يقول: يا رب لو أعلم لك ديناً خيراً مما أنا عليه لدنت به وتركت ما
أنا عليه. ولكن لا أعرف سوى ما أنا عليه، ولا أقدر على غيره، فهو غاية جهدي، ونهاية معرفتي.
والثاني راض بما هو عليه. لا يؤثر غيره عليه، ولا تطلب نفسه سواه، ولا
فرق عنده بين حال عجزه وقدرته. فهذا لا يجب أن يلحق بالأول لما بينهما من
الفرق:
فالأول كمن طلب الدين في الفترة ولم يظفر به، فعدل عنه - بعد استفراغ
الوسع في طلبه - عجزاً وجهلاً.
والثاني كمن لم يطلبه، بل مات على شركه، وإن كان لو طلبه لعجز عنه،
ففرق بين عجز الطالب وعجز المرض.