من الرجعية إلى الأصولية
محمد بن حامد الأحمري
طالب عربي مسلم يسكن في جلاسجو إحدى مدن الشمال البريطاني. ... وفي أول شهر له في المدينة، أدرك زوجته المخاضُ، واستدعى الممرضات من المستشفى، وحاولت إحداهن الحديث مع زوجته التي لم تكن تعرف الإنجليزية، وظنت أن الزوج لا يعرف اللغة الإنجليزية أيضاً. ثم ولد للمرأة ولد ورفعته إحداهن وقالت: (عدو جديد) ، نعم أصولي جديد يولد، مصنف منذ أول ثواني الميلاد عدواً لبريطانيا وليس فقط أصولياً، لقد كانت هذه الممرضة في وعي تام لقضية الإسلام والنصرانية والصراع العقائدي والتاريخي، كانت تعبر عن ثقافتها بصوت عال سموع لصاحبتها بلا تلكؤ ولا مجاملة ولا غبش في التصور كالذي يعانيه أكثر المسلمين اليوم، حيث يلوكون كلمات الأخوة الإنسانية والصداقة. إنها
كلمات للاستهلاك الإعلامي وملء أسماع الجهلة والأتباع في العالم الثالث فقط، أما هم فيدركون حقيقة الموقف تماماً، وتعرف الممرضة هذه السياسة الواقعية، وتعيش بها وليست مشغولة بصراخ الإعلام الاستهلاكي. إن المسلمين يحبون أن يسود العالم السلام لكن لماذا هم لا يفكرون به.
عندما قالت الممرضة ما قالت نهرها والد الطفل، وأنكر عليها هذا الموقف والعداء من الطفل الوليد، فاحمر وجهها وارتبكت جداً واعتذرت، ووصل الخبر لإدارة المستشفى واعتذر منهم أكثر من شخص. ولكن هذه الحقيقة تفرض نفسها بلا غطاء. وكأني بوالده يقول: يا بني لقد سبقوا الشيطان إليك قبل أن يغمزك منذراً بالصراع أبد الحياة، صراع الحق والباطل، هؤلاء سبقوا وليس بغمزة شيطانية لا نراها ولكن بكلمة واضحة لنا نحن الثلاثة فقط أنت لا تعي ما قالت هذه الممرضة، وأمك لا تفهم لغتهم، ولكن بقية حياتك - إن أعطاك الله العمر - ستكون شرحاً لما أجملته لك الممرضة.
وهذه بداية الطريق صريحة واضحة بلا تمويه، فهل يا ترى ستعيش حياتك بهذا الأسلوب، وهل تراك تفهم العالم الذي تعيش فيه؛ أم سيسلبونك عقلك، ثم تستميت في سبيلهم والدفاع عنهم وعن فكرهم وتقول عن والدك: أصولي متخلف، وأنت متحضر تفهم العالم ويفهمك. إن براءتك وطفولتك لم تشفع لك ولن تشفع لأمتك مجاملاتها الطويلة ووعيها المنقوص. وقبل أن أسمعك الأذان يا بني أسمعوك الموقف العدائي المشهود.
هذه مقدمة فرضت نفسها بين يدي الحديث عن كتاب: (التهديد الإسلامي أسطورة أم حقيقة) [1] . والذي يرى فيه كاتبه (جون أسبوسيتو) خطورة الانطباع الذي يسيطر على تصرفات السياسيين الغربيين تجاه الإسلام، إذ يختصرونه إلى أن الاسلام هو الخميني وصدام، وهم بنظر مفكريهم أصولية بروتستانتية حيث أن استعمال كلمة أصولية بمعناها التاريخي المركوز في الذاكرة الفكرية الأمريكية له أيضاً أبعاده من كراهية سيطرة المتدينين على الحياة الأمريكية وتحريمهم الخمور والتضييق على الناس [2] .
ويرى عدد من المفكرين عندهم أنه لا يمكن التعامل مع الإسلام بالإقناع الفكري والحوار الحضاري - كما حدث مع عديد من الشعوب والحضارات التي التقت مع الحضارات الغربية وذابت في الثقافة الغربية الجديدة - وهذا الإسلام المقاوم يثبت يوماً بعد الآخر أنه لا يمكن أن يتجاوب مع الديمقراطية والرأسمالية بسهولة، لأن موقف الأصولية شديد جداً تجاه الدول الغربية، وهم القطاع الرافض للغرب في العالم الإسلامي، لأن أعمق أذى أصاب كرامة الأمة المسلمة من الغربيين، (إن آخر فكرة مستوردة لقيت قبولاً بين المسلمين كانت العلمانية التي مثلتها القومية العربية في عهد عبد الناصر وأحزاب البعث في سوريا ولبنان والعراق، وكان عاقبتها هزيمة 1967 م) [3] .
ويقول أسبوستيو إن الديمقراطية التي يراد فرضها فرضاً يمكن أن تتحول إلى عنف أشد من عنف أي أصولية، فإن الأفكار الجميلة إذا أكره عليها الناس أو استخدمت بعنف وتدمير للآخرين حتى يتقبلوها؛ فلن يشفع لها الواقع العنيف أن توصف بالتقدمية والاعتدال، ولن يرحب بها أحد. كما أن الفيتناميين لم يروا في الأمريكان رسل ديمقراطية ولا دعاة للمساواة والحرية. إذ كيف تحررني بالقتل والتدمير وترغمني على الاقتناع بفكرة أخرى بالحروب والترويع والاستغلال؟ !
والمؤلف لا يرى أسلوب المواجهة بالقوة مع الأصولية هو الحل المناسب لما يحدث في العالم الإسلامي، بل - كعادة المستشرقين - يطالب بالإغواء والاحتواء والمداهنة وعدم الإثارة وألا يحكم الماضي في الحياة المعاصرة اليوم. وأيضاً فإن النماذج التي يطيب للساسة والمفكرين والإعلاميين الأمريكان استخدامها كنماذج للتطرف الإسلامي تغفل جماهير أخرى ودعوات وحركات إسلامية واسعة لا ترى في الغرب شراً كما ترى النماذج المقدمة على أنها هي العالم الإسلامي. ويدعو إلى دراسة الداخل، ودراسة الحركات الإسلامية وقادتها دون التسرع بأحكام لا تخدم المصلحة الغربية والإسلامية، والمؤلف له علاقات كثيرة مع بعض قيادات الأوساط
الإسلامية ويتحدث عن بعضهم عن سابق معرفة، وبخاصة أنه كانت له علاقة مع أستاذه إسماعيل الفاروقي في جامعة تمبل. ويرى خطاً معقولاً يمكن التفاهم معه والوصول إلى حلول وسط في القضايا التي يختلف فيها الإسلام عن النصرانية، ولا يرى أن تطرح القضية إلا بأسلوب الحديث عن التسامح البارز في الديانتين والدبلوماسية المدركة ليست استخدام الدين سياسياً في الغرب ولا في العالم الإسلامي.
وإذا تعامل المسلمون بهذا الأسلوب الحضاري الذي يراه صحيحاً، هل يعني هذا أن يتعامل معه الغربيون بنفس الأسلوب الذي يحكمه التعاون والتفاهم والحوار والتسامح بين الأديان؟ لا، لأن الواقع الذي يتحركون من خلاله الصليبية وتاريخها وحياة المواجهات الدائمة، ولعل الأنموذج الذي ذكره المؤلف في بداية الكتاب عن حوار متخيل يدور بين زعيم مسلم متدين وبين زعيم غربي، فيرون أن المسلم يتحدث من خلال الصراع الإسلامي النصراني والمواجهة التاريخية الدائرة إلى اليوم [4] واقتسام العالم بين المسلمين والنصارى ولا يملك خياله الخروج من هذه الخيالات. والذي يؤيد ذلك في ذاكرة الانسان المسلم الحوادث المتتالية إلى اليوم.
وبمقدار ما يدل على رسوخ هذا التخيل عند المسلمين فإنه يدل أيضاً على رسوخه أكثر عندهم.
ويرى أن محاولة الوقوف موقفاً معتدلاً مما يحدث في البلدان التي دمرت فيها المشاريع الديمقراطية يجعل الشعوب المسلمة تتجاوب مع الغرب، ولكن الدعم الحكومي الغربي للنظام الجزائري والتونسي اللذين صادرا البدايات الديمقراطية [5] تؤكدان عداء الغرب للديمقراطية في العالم الإسلامي. في الوقت الذي تدمر الشعوب المسلمة بحجة إيجاد حياة ديمقراطية فيها. وذلك نفاق ينعكس أثره على رأي المسلمين في قضية حرياتهم وموقف الغرب منها.
وكما يحلم البعض - كما يقول المؤلف - بإيجاد نظام دولي، فإن ملايين في شمال أفريقيا والشرق الأوسط ووسط آسيا يحلمون أيضاً بالحرية السياسية والديمقراطية. ولهذا يرى أنه يجب اعتبار هذه الملايين تحدياً لا تهديداً، وحركة الإحياء الإسلامي في جوانب منها حركة اجتماعية تبحث عن إيجاد المجتمع الإسلامي الأصيل وليست القضية قضية دولة إسلامية عند البعض، والبعض الآخر يرى أنه لا يوجد المجتمع الإسلامي إلا بالدولة الإسلامية، وعلى أي حال فكلا الاتجاهين ليسا بالضرورة ضد الغرب وضد أمريكا. ويرى أنهم دعاة لإصلاح الأوضاع في بلدانهم وليسوا ضد المصالح الأمريكية، وأنه لا بد لهم أن يفهموا بشكل أفضل، وألا يحاكمهم الغرب إلى خيالاته عنهم، بل بإمكان الغرب أن يفهمهم وهم يتطلعون إلى الغرب ليحقق لهم الكثير من آمالهم. وهذه فرصة خيالية للغرب في التعامل معهم وهم يقدمون على تحديد طريقهم في المستقبل [6] ؛ وبالتالي للتأثير في مستقبل الإسلاميين عن صداقة لا عن عداء.
وآراء المؤلف في خلاصته السابقة لكتابه كآراء سابقيه المحترفين والذين ما فتئوا يرون المراوغة والإغواء. وفي نفس الوقت يمارسون أسلوب المنفذ للحل العسكري المباشر ويتولون الإرشاد في مجاهل العالم الإسلامي عند حاجة الجيوش الغربية إلى ذلك، كما سبق مراراً لا تحصى من قبل المستشرقين من قديم. ولا نحاكم نية المؤلف وهو الذي يذرع الولايات المتحدة متحدثاً في كل ناد عن العالم الإسلامي الذي يمكن وعيه وإدراك هويته ويُدل عليهم بمعرفته وجهلهم. ولكن ما هو الواقع الذي جرى تاريخاً بالأمس ويجري اليوم سياسة.
إن ذوي القرار لا يقفون عند فذلكة الكتاب والأدباء، ولا عند المثقفين الذين يغلب عليهم الجبن - كما يرون هم - ولكن (القادة) يأخذون الأمر بأيديهم ويختارون القناعة التاريخية العميقة: (الحرب) هي الحل مع العالم الإسلامي الذي قويه لا يعقل، وغنيه لا يعي، وفقيرة لا يعمل، وقدرته مهاجرة أو معزولة عن التيار اليومي.
ولهذا فتدمير القوي المجنون، وتجهيل الغني وسلب وعيه، وإذلال الفقير، وتأكيد الهيمنة على الجميع، وتأسيس الفرقة والتنازع والوطنية والقبلية؛ هذه أنجع الحلول وليس ما يراه المستشرقون الجدد.
ما يحدث اليوم في طول العالم الإسلامي وعرضه هو الموقف العملي من الأصولية قبل حدوثها، فإن الفقر والجهل والمجاعة والصراع القبلي والحكم الفاسد لأمثال بري كل ذلك يدعو للبحث عن حل؛ وقد كان للدعوة الإسلامية السبق المباشر في هذا، فأقبل الناس على الاتحاد الإسلامي الصومالي وبدأ بالسيطرة على بعض المناطق. وهنا هبت القوى الغربية للحد من خطر الإسلام في الصومال الذي يهدد القرن الأفريقي كله وربما استطاع الاتصال بمناطق أخرى في أفريقيا فيشكل معها قوة إسلامية مخيفة في المستقبل.. وهذا يعوق ما خطط له مركز كارتر في القرن الأفريقي وما يأملون من مستقبل حاسم لأثيوبيا، وعادت أحلام الاستعمار
القديم ونصارى البرتغال الذين قضوا - كما يرون - على الإسلام في الأندلس، وكانت الرحلة حول إفريقيا وسموا عملهم هذا طريق الرجاء الصالح للهيمنة على الإسلام من المشرق، كما دحروه في الأندلس غرباً. واليوم استعادوا نفس الاسم في الصومال عملية (إعادة الرجاء الصالح) ولا يعلم أحد أين سيقف إحياء الرجاء الصالح الذي قد لا يقف عند حد الصومال، فربما يرون ضرورة البحث عن إنشاء مناطق آمنة للنصارى في البلدان الإسلامية (القريبة) أو القضاء على الأصولية المنتشرة في أفريقيا التي يرونها قارة المستقبل للنصرانية، وليس للإسلام فيها حق. وعشرات الألوف تذهب بأحدث الأسلحة إلى الصومال لمكافحة المجاعة، هل هذه الأعداد والعدة تدفع المجاعة أم تصنعها، ومتى كانت القواعد العسكرية بحرية وبرية والاحتلال يقاوم المجاعة. وقد كانت هيئة الأمم المتحدة تعوق وصول الغذاء والدواء من قبل كما قال مبعوثها الرسمى (سحنون) .
والغريب في تعاملهم مع الصومال أنهم بادروا إلى خطر محتمل لا واقع مشاهد، وذلك لأنهم تعودوا أن يسددوا الصفعة الأولى على حين غرة، ولا يكاد عدوهم يدرك مصدر الصفعة حتى تأتيه الثانية على الجانب الآخر دون إمهال.
يرفعون شعار التهديد بالأصولية والتخويف من الإسلام، ويرفعون شعار حماية حقوق الإنسان، وها هم يقتلعون شعباً بكامله في أوربا من أرضه ودياره، لا لذنب جناه، سوى أنه يدين بالإسلام. بحجة أنه سيكون في المستقبل بؤرة للأصولية وتهديداً لأوربا. وكذلك ما نراه من سلبيتهم أمام إسرائيل في تعاملها الشرس مع هذه الأعداد الكبيرة من الفلسطينيين الذين تقتلعهم من أرضهم ومن بين أظهر عائلاتهم وأطفالهم، وتلقي بهم تحت الثلج والمطر. ويتفرج العالم المتحضر على مأساتهم، ويشاهد غطرسة إسرائيل وعنهجيتها التي لا يقف في وجهها أحد: لا مسلمون، ولا غيرهم، ولا هيئة أمم، ولا نظام عالمي جديد، ولا دعاة حقوق إنسان.
آن لنا أن نعرف خداع العبارات ونفاق الدعاية السياسية حيث السر ضد العلن. وشعار الأصولية والتخويف منها يبطن الحرب على الشعوب المسلمة والقضاء على قوتها وعزتها واستقلالها. التخويف والترويع الذي يهزون به قلوب الحكام والمحكومين في عالمنا الإسلامي الواسع من خطر الأصولية والذي لا يقصد منه إلا إخفاء الأخطار الحقيقية الآتية من قبلهم هم أنفسهم. ليس أخطر على الأمم من عدو يأتيها بصورة منقذ حريص غيور عليها، وليس همه إلا مزيداً من الإضعاف والإنهاك حتى تكون لقمة سائغة له.