مجله البيان (صفحة 1307)

مقال

من الرجعية إلى الأصولية

(?)

محمد بن حامد الأحمري

يهتم العالم الغربي في هذه الأيام بالظاهرة الإسلامية - التي يسمونها:

الأصولية - اهتماماً لم يسبق له مثيل، وقد كان مؤتمر المتخصصين في دراسات

الشرق الأوسط الذي عقد في مدينة بورتلاند، ولاية أوريجون في الغرب الأمريكي

لمدة أربعة أيام بدأت يوم 2 جمادى الأولى 1413هـ (28 أكتوبر 1992م) ينبئ

عن تحكم هاجس الإسلام بالعقول الغربية، إذ أصبح اهتماماً شاملاً للمتخصصين،

وخطراً قادماً يجب وعيه والاهتمام به لاستدراجه، أو كبته، أو تدميره، أو التفاهم

معه إذا أمكن ذلك.

وقد حضر المؤتمر أكثر من ألف وأربعمائة متخصص من المهتمين بالعالم

الإسلامي والمشرق العربي، وحضره بعض السفراء والمثقفين العرب. وكان أهم

أعمال المؤتمر ما يزيد عن مائة ندوة شارك فيها قرابة خمس مائة متحدث،

ومحاضرات، وعرض للكتب. وكان أهم ما اهتم به المؤتمر من الموضوعات:

موضوع العصرانية وتحديث المجتمعات الإسلامية، وقضايا المرأة المسلمة حيث

حظي هذا الموضوع باهتمام كبير، وشارك فيه نساء عربيات من مختلف الأقطار

العربية، وكذلك موضوع الوحدة اليمنية كان محل اهتمام المؤتمر.

وبرز في المؤتمر الجانب السياسي كقضية هي هم وعمل معظم الدارسين

للمنطقة، حيث لم يعد الاستشراق كتخصص معرفي موجوداً اليوم، وإن وجد فإنه

في الحقيقة يأتي على هامش العمل السياسي الاستعماري لهؤلاء الدارسين، وهو

أمر ليس هذا موضع الحديث عنه. وإنما المهم أن هذا الانتباه والخوف الشامل من

الإسلام أخرج عدداً من الكتب التي اهتمت بدراسة الإسلام وبوعي التيارات التي

تحرك الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية في العالم الإسلامي، وتدرس عوامل

نجاحها أو فشلها وأسباب قيامها وأثرها اليوم في الحياة المعاصرة.

وكان الكاتب «جيل كيبل» من الذين أبدوا اهتماماً بارزاً بهذا الموضوع منذ

كتابه الأول «النبي والفرعون» إلى كتابه الأخير «يوم الله» عن الحركات

الأصولية والمعاصرة في الديانات الثلاث [1] ..

يذكر «كيبل» أسباب العودة إلى الدين في الديانات الثلاث: الإسلام

والنصرانية بشقيها: الكاثوليكية، والبروتستانتية، والديانة اليهودية، ويعيد سبب

هذه الأصوليات إلى فشل المشروع التحديثي العلماني [2] . «إذ هذه الحداثة لم تؤد

إلى إنكار أو تحطيم كل الحضارات الأخرى فحسب، بل أدت أيضاً إلى إفقار

الحضارة الغربية ذاتها حين تركت بُعد المجتمع يصاب بالضمور باسم فرديتها،

وتركت بعد الإنسان المتعالي يضمر باسم وضعيتها.. وهذا التصور للعلمانية قد

أدى إلى هزيمة الغرب أخلاقياً [3] . ثم يلاحظ» كيبل «وجود تشابه في بعض

هذه التوجهات عند المتدينين، ويرى أن أهم ملامح هذا التشابه:» أن هذه

الحركات الدينية هي على العموم حركات تعارض الخطاب الغالب في الدين الرسمي

وتخرج عليه وتسرع إلى تجريمه.. وتأخذ هذه الحركات بكافة على المجتمع تفتته،

وفوضاه وبعده عن الجادة وافتقاره لمشروع متكامل يؤمن به وينتسب إليه.. وتعتبر

أن حداثة ينتجها عقل بدون الله هي حداثة لم تستطع في النهاية أن تولد قيماً [4] ..

وتمتلك هذه الحركات قدرة خاصة على الإشارة إلى اختلالات المجتمع [5] ، وفي

الديانات الثلاث هناك مجموعات لا تحاول الاستيلاء على السلطة، ولا تفكر بها،

وتكتفي بجانب التقوى كمجموعة الهبة اللدنية في الكاثوليكية والبروتستانتية،

وجماعة اللوبافيتش اليهودية، وجماعة التبليغ عند المسلمين، فهذه جماعات تدعو

إلى التقوى والتجربة الدينية الشخصية [6] ولا تهتم بأبعد من ذلك.

يقابل ذلك التيارات التي تحمل برنامجاً بديلاً كالحركة الإنجيلية والأصولية

الأمريكية التي كان أول رجالها المعمداني جيمي كارتر، والذي جاءت به الكنيسة

إلى الحكم ليكفر عن خطيئة ووترجيت. ثم تلاه ريغان، الذي هاجم نظرية داروين

المدمرة للأخلاق، وهاجم نظام التعليم العلماني، وطالب بتدريس وجهة النظر

الكنسية في قصة الخلق بديلاً، وزعم بأن الله اختار أمريكا واختار مكانها البعيد

لتكون مكاناً للإيمان والحرية يهفو إليه من يحب الإيمان والحرية، وقال أمام جمعية

الإنجيليين القومية إنه سيجعل من عام 1983م عام الكتاب المقدس [7] .

ثم تلاه بوش على نفس القاعدة المتطرفة دينياً وله تاريخه المعروف في

هذا [8] ، وليلة سقوط بوش فى الانتخابات صرح أحد أنصاره بخطر قيام حرب أهلية بسبب فوز الديمقراطيين، حرب بين المتدينين المحافظين ومخالفيهم. ومع أن هذا التصريح مبالغة ولكنها إشارة ذات معنى. ويعرض أمثلة من إيطاليا وغيرها عن الحركات الدينية السياسية في العالم الكاثوليكي ولكنه يقف طويلاً عند حركة

«التضامن» البولندية وأثرها في إسقاط الحكم الشيوعي في بولندا، وأثر البابا يوحنا في هذه القضية مشهور، وأيضاً تلك الحركات الدينية التي كانت تعمل في روسيا وأوربا الشرقية، وساعدت على نهاية روسيا.

ومن الحركات اليهودية السياسية المهمة حركة غوش أمونيم التي تأسست عام

1974م إثر استعادة مصر لأجزاء من سيناء، وهذه الحركة مع حركات وأحزاب

دينية صغيرة لعبت دوراً مهماً في تشكيل الحكومات اليهودية، وكانت هذه الأحزاب

الدينية موازناً مهماً بين المتنافسين، كل منهم يسعى لرضاها وينفذ برنامجها حتى

يكسب أصواتها، مما أهلها لتأثير ديني في المجتمع اليهودي أكبر من حجمها

الواقعي.

ويرى أن بعض القضايا أضعفت مواقع العلماء في باقي أرجاء العالم الإسلامي

السني مثل قضايا عدم استقلال الأوقاف والحبوس وقضية إصلاح التعليم الذي

تحول بالأزهر إلى أن أصبح آلة دعائية للحكم القائم أو مسألة وسطية العلماء في

المواقف من تهدئة الأمة ونصح الأئمة والتحذير من الفوضى والفتنة، وظاهرة مهمة

أخرى وهي ظاهرة الانفصال بين العلماء وشباب الدعوة [9] .

مصطلح الأصولية:

ومن القضايا التي تستحق الاهتمام هنا الإشارة إلى أن المصطلحات المستعملة

في الحديث عن النهضة الدينية في العالم الإسلامي، قد نُظر إليها من خلال منظار

غربي خالص يبدأ باستعمال المصطلحات والألقاب الغربية التي سميت بها حركات

دينية نصرانية، فيسمى المسلمون بنفس التسميات، وهذه عملية مغالطة شنيعة في

رأي الكاتب، إذ إطلاق كلمة أصولية على الوعي الإسلامي المعاصر زيادة في

التشويش وعدم الإدراك للمطلوب فهمه، إذ أن النظرات الغربية أو القوالب الغربية

الجاهزة التي يوضع فيها العالم الإسلامي لا تمكن الغربيين من فهم ما يحدث فيه.

وإطلاق كلمة أصولية ذات المعنى المحدد في الذهن الغربي على أصحاب

الفكر الإسلامي لا يدعو إلى فهم ما يحدث في العالم الإسلامي. وهو يطالب بعدم

استعمال المصطلح الغربي نفسه حتى لا يلقي الواقع الديني النصراني بظله فوق

موضوع الدراسة «الإسلام» . وفي الحق؛ إن مما يثير الاستهجان استعمال هذه

الكلمة ذات الدلالة المحددة في الإنجليزية ابتداءً وفي الفرنسية وغيرها من اللغات

الأوربية في وصف حالة أخرى مغايرة هي العالم الإسلامي. ولكن الذي يجب وعيه

هنا أن الحركة المضادة للإسلام غير قادرة حتى على إيجاد مصطلحات تصنف بها

ما يحدث على أرضها، فهي لا بد أن تترجم بحرفية ساذجة ذلك المصطلح الغريب

الذي لا يعني في لغتها وثقافتها شيئاً محدداً؛ بل لا يعني بأي طريق المعنى الذي

يراد إلصاقه أو لمز المسلمين به، فهل يعني عندنا النسبة لأصول الفقه، أم لأصول

الإسلام، أم ماذا؟ !

يحدثنا الكاتب عن جذور هذا المصطلح فيقول: «يؤرخ للظهور العمومي

لمصطلح سلفية [10] أصولية Fundamentalism على وجه العموم

بسنوات [11] العشرين، وقد ظهر على أثر نشر سلسلة من 12 مجلداً انطلاقاً من عام 1910 في الولايات المتحدة تحت عنوان الأصول، تضم تسعين مقالة، حررها مختلف اللاهوتيين البروتستانت المعارضين لكل تسوية أو حل وسط مع الحداثة المخيّمة، وقد نشرت هذه السلسلة التي مولها شقيقان كلاهما من رجال الأعمال ووزعا منها ثلاثة ملايين نسخة مجاناً. غير أن ما أدخل سلفية

» أصولية «في المصطلحات الأمريكية الجارية وأعطاها في ذات الحين دلالة مختلفة عليها هي قضية» سكوبس «فقد كان جان ت. سكوبس أستاذ علم حياة شاباً يعمل في ثانوية حكومية في ولاية تينيسي، واستخدم في التدريس كتاباً يرجع ويميل إلى تطورية الأجناس. وهو أمر كان ينتهك قوانين الولاية التي كانت تحظر تعليم كل نظرية تنكر رواية الخلق الإلهي للإنسان [12] ، وقدم الأستاذ إلى المحاكمة عام 1925م.

لكن قضيته أصبحت قضية عالم الثقافة الأصولية الأمريكية [13] . واشتد الصراع

فيما بين أنصار الداروينية أو أهل الحداثة أو التحرر وبين البروتستانت الذين يرون

عصمة الكتب المقدس، وانقسم المجتمع الأمريكي في فترة ما بين الحربين

العالميتين إلى معسكرين متناحرين: قسم محارب للدين، وآخر محارب للحداثة.

كان التحديثيون في الشمال الصناعي، وكان المتدينون في الجنوب الزراعي،

وكانت الجولات الأولى سجال كسب فيها المتدينون وحرموا الخمور ابتداء من عام

1919م إلى عام 1933م، ثم خسروا في مراحل بعد ذلك، إلى أن جاء كارتر

وريغان» الذي نادى في زمنه بأن تكون مبادئ الكتاب المقدس شريعة

المجتمع « [14] ثم بوش صاحب النظرية الدينية في الاهتمام بالعائلة والفرد وإصلاحه وخلاصه من الخطيئة الأولى، وهذا التفكير النصراني يحل له مشكلة الضعف القيادي والمشكلة الاقتصادية، ولم يشفع له كل ندائه البروتستانتي ولا كل القساوسة الذين جمعهم حوله. فهل هذه نهاية مؤقتة للحركة الإنجيلية هنا؟ لا يبدو ذلك الآن على الأقل، فإن المتدينين يزيدون، والعلاج العجائبي بالرموز والتهويمات» سحرة متدينون، كهان «يزيد بالكتاب المقدس.

والجامعات الدينية المتخصصة تفتتح، وبرامج التلفزيون والإذاعة تتزايد،

وفي عام 1985 كان للكنيسة 18 ألف مدرسة تضم مليونين ونصف مليون طالب.

وتعلن الكنيسة عن مشاريع سنوية، تطالب في كل سنة بإنقاذ مليون روح لصالح

الكتاب المقدس، أي دفع هذا الرقم إلى حظيرة الكنيسة.

ويعقب الكاتب بأن ما تملكه الكنيسة الإنجيلية الأمريكية من أجل نجاح مشروع

الدعوة الدينية في أمريكا أعظم بما لا يقاس من وسائل الآخرين - المسلمين

والكاثوليك واليهود - لأنها تمتد من أقنية التلفزيون إلى الجامعات [15] .

من الرجعية إلى الأصولية:

تلك كانت قصة المصطلح:» أصولية «، مصطلح أمريكي خالص، وهذه

حقيقة تاريخية لحياة الفكر المهزوم والمنهار والذي لا يصنع كلماته بل يستعملها كما

لُقِّنها أو ترجمت له، فهو ليس قادراً على إبداع شكليات ثقافة خاصة به. وحين

كانت الحركة الشيوعية وأدعياء اليسار تعيث في العالم الإسلامي كان لا بد من

استخدام مصطلحات الرجعية والتآمر تعريضاً بالإسلام ورسوله وكتابه وموافقة

لماركس وحواشيه في العالم كله. وباسم الرجعية ومحاربتها حوربت الحريات

والمقدسات، وغيبت الأمة عن حقوقها وثقافتها، وعاشت نهباً لكل الصرعات

اليسارية التي ما أثمرت إلا هزائم وويلات ومجاعات وحروباً خاسرة ومجتمعات

تخلفت وزادت تبعيتها باسم الاستقلال والتقدمية.

فهل يراد باستخدام مصطلح: الأصولية هتك حريات الشعوب وكرامتها

وإذلالها ومحاربة إسلامها أغلى ما تملك؟ الذي يلوح في الأفق أن المصطلح الذي

تنفخ فيه أجهزة الإعلام وتهِّول به في العالم ربما يؤدي إلى مواجهة شاملة مع

الإسلام يخسر فيها أعداء الله بإذن الله.

وعقدة المشنعين على الإسلام باسم الأصولية تنطلق من مبدأ السيادة السياسية

لدولة كبرى، فإنها في حال قوتها لا ترضى بفكرة تخالف فكرتها السائدة فالمحارب

للإسلام بإضفاء صفة الأصولية على العاملين له إما أن يكون حاملاً لفكرة تحارب

الإسلام وتضاده مباشرة؛ أو أن يكون ممثلاً ووكيلاً للفكرة السائدة، وهو في الحالة

الثانية أخطر، لأنه ليس أصيلاً في تفكيره، وليس عاقلاً في تعامله، فهو يفهم

دوره أنه لا بد أن ينفذ المطلوب كما يريد السيد، بلا وعي، ذلك أنه لا خيار عنده، إما الغرب؛ أو الأصولية. وبهذا ندرك الهوس الذي يلف عالم اليوم ومؤتمرات

المستشرقين: إما الغرب أو الإسلام، لا أنصاف حلول.

وقد جاء كتاب جون إسبوستيو:» التهديد الإسلامي أسطورة أم

حقيقة « [16] موضحاً القلق الأمركي تجاه الإسلام خاصة، والذي بدأ بالإعلان إثر سقوط روسيا عن عدو جديد أشد خطراً من الشيوعية ألا هو الإسلام، وسيكون هذا الكتاب وكتاب جارودي في الأصولية المعاصرة وأسبابها موضوع حلقة قادمة بإذن الله ...

طور بواسطة نورين ميديا © 2015