مجله البيان (صفحة 1305)

جذور الصراع: الصليب الأرثوذكسي، الغرب المتحضر، المسلمون الهمج

جذور الصراع:

الصليب الأرثوذكسي، الغرب المتحضر،

المسلمون «الهمج» [*] !

د. عبد الله عمر سلطان

عندما ألقى جورج بوش خطابه الانتخابي الشهير في مدينة هيوستن الأمريكية ركز على نقطة جوهرية تمثل برنامجه العريض للسنوات الأربعة المقبلة (في حالة انتخابه) .. كانت هذه النقطة الرئيسية تدعو إلى الحفاظ على القيم الأخلاقية التي تكفل بقاء أمريكا قوية ورائدة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، لقد قضى الأمريكيون على عدوهم الشيوعي، وبدأت معالم نظام عالمي جديد تبرز وتزداد وضوحاً.. وعلى المنتصر أن يركز على تقوية الجانب العقائدي/الأخلاقي ليضمن البقاء في القمة، وحصر الرئيس الأمريكي هذه المبادئ في العقيدة (اليهودية/المسيحية) .. وليؤكد على هذا المفهوم هاجم منافسيه الديمقراطيين الذين نسوا الله في حملتهم الانتخابية. وأكد مرة أخرى خلال استقباله لزعماء اليمين الديني على حقيقة هامة وهي: «أننا شعب متدين بفطرته، وأننا ندين بتفوقنا للمبادئ اليهودية/النصرانية» .. لا أدرى لماذا تراءى أمامي سلوبودان ميلوسوفيتش الزعيم الصربي وهو يخطب في المليشيات الصربية متفوهاً بعبارات مشابهة تتحدث عن المبادئ و «الرسالة» التي كان على الصرب القيام بها لحماية رسالة يسوع في الوقت الذي يقوم الدليل الساطع على التعاون اليهودي /الصليبي لإنجاز مهمة «جنود الرب» في البوسنة والهرسك. .

صعود اليمين الصليبي إلى موقع القرار في الغرب أمر لا يناقش في تفشيه

وظهوره إلا جاهل أو مكابر، وهو يستخدم ذات المفردات ونفس الرسالة مع

اختلاف في التفاصيل والوقائع، أما علاقة هذا اليمين بالصهيونية واليهود فهي مادة

دسمة لكثير من البحوث والكتب التي صدرت خلال العقد المنصرم.

إن إلقاء الضوء على صعود اليمين الأرثوذكسي وعلاقته العضوية بالصهيونية

موضوع حيوي يفهم الخط البياني والجذور الراسخة التي أفرزت المذبحة القائمة

على قدم وساق في البلقان.. ومن هذا الاستعراض سيتبين لنا خطوط متشابكة

وملامح شبيهة بصعود التيار الصليبي الأصولي في أمريكا والغرب عموماً، ثم

بالعلاقة الوثيقة لهذا التيار باليهود الصهاينة، حيث إن الجميع يلتقون على حرب

الإسلام ومعتنقيه، وهو العدو القديم/الجديد الذي يأبى أن يلبس قيود الذل أو يسلم

الرقاب للجزر والصلب..، لقد حملت مأساة البوسنة والهرسك. دروساً كثيرة

وإضاءات هامة للفرد المسلم اليوم لمجتمعات العالم الإسلامي، لكن أبرزها على

الإطلاق هي تلك التي تكشف في حقيقة الصراع الدائر المكشوف على امتداد الساحة

الإسلامية دون مواربة أو شك، حيث إن المذابح والحروب والكوارث منكبة بعد

تصفية الحساب الغربي/الشيوعي على هذا الكائن المسلم رغم وحشية وبشاعة

ووقاحة المجرمين، وتنظر فترى حقد الصليبيين واليهود واضحاً في مأساة البوسنة

أيما وضوح، حتى إن الصحف الغربية - على ما تحمه له من سوءات - شهدت

ضد مجتمعاتها وقادتها ورموزها، وسجلت جزءاً من المأساة حيث إن المسلمين

قصروا في عصر التهميش والتبعية حتى عن وصف المجزرة التي تستهدفهم فرداً

فرداً..، إن توالي الصور المأساوية، ومعسكرات الاعتقال، والتمثيل بالجثث،

وحرمان الفرد من آدميته، وتشريد الملايين، وزرع الخوف في صدور الأطفال

وعيونهم، واغتصاب المسلمات أصبحت حديثاً عادياً لا يثير في المسلمين - فضلاً

عن غيرهم - موضع ألم أو لحظة غيرة عابرة..، ها هم المتحضرون البيض

والشعوب الراقية في أوربا التي تلهث لأنات الكلاب والقطط، وتذرف دموع

التماسيح حزناً على مصير الدببة في أقاصي القطب الشمالي؛ ترى بشراً يعيشون

محرقة إنسانية مكتملة الفصول.. دون أن تخرج مظاهرة احتجاج - وما أكثرها

عندهم - أو يتحرك قطاع شعبي يسعى فعلاً لإنهاء المأساة الإنسانية، والإنسانية

فقط ... ، لقد أتت قصة البوسنة الحزينة في الوقت الذي كشف الغرب بعد انتصاره

على الشيوعية أن شرعيته ومنطلقاته تحمل سمات دينية/صليبية لا يمكن تجاهلها أو

إنكارها، كما أكدت الأحداث المتوالية أن الحلف الغربي/اليهودي في المنطقة مستمر

لأنه حلف حضاري قائم على أسس ومبادئ وثقافة مشتركة.. وكأننا كنا بحاجة إلى

مشهد كهذا لينقل لنا دليلاً مادياً قوياً وليؤكد هذه الحقيقة ثم ليزيل الغشاوة عن بعض

أبناء أمتنا الذين جَهِلوا أو جُهلَّوا.. أو تجاهلوا..

نقلت مجلة أمريكية دون تعليق التآمر الصليبي غير المبرر منذ اشتداد

الأحداث فقالت: «التصرف غير المبال للولايات المتحدة زاد من لهيب النار

المشتعلة وبدا وكأنه جزء من سلسلة متصلة قوامها السلبية المتعمدة، فعندما أرسل

سايروس فانس وزير الخارجية الأمريكي السابق كوسيط للأمم المتحدة في النزاع

الجاري قال إنه لا داعي لإرسال قوة أجنبية لإجهاض الحرب التي كانت بوادرها

في الأفق، لقد كان الصرب بحاجة لتصريحات كهذه من قبل أجانب» يزورون

سراييفو حتى يشعر سلوبودان ميلوسوفيتش وزعيم صرب البوسنة رادوفان

كاراديتش بأن القوى الغربية ولا سيما الأم المتحدة لن تقف في طريقهم..، كما

كانت إشارات جيمس بيكر للحفاظ على الاتحاد اليوغسلافي وعدم تطبيق العقوبات

على بلغراد مؤشراً سيئاً آخر..، وكذلك إن زيارة ميتران في بداية الصيف

المنصرف لم تكن أكثر من زيارة دعائية حين أبدى تعاطفه مع إطعام المدنيين

المحاصرين، واعقب هذه الزيارة زيارة مماثلة لوزير الخارجية البريطاني الذي

طمأن الصرب بأنه لا يوجد دولة تتبنى التدخل العسكري لإنهاء الوضع الراهن [1] ..

أما أكثر التصريحات إثارة فقد جاءت على لسان رئيس قوة الأم المتحدة

الجنرال ماكنزي الكندي الجنسية حينما ساوى بين الجلاد الصربي والضحية

البوسني، وهدد بأنه إذا لم يوقف الجانب المحاصر طلقات الرصاص فإن المعونات

الإنسانية لن تجد طريقها للمدنيين، وفي الوقت الذي كان فيه الصرب يحصلون فيه

على الإمدادات الضرورية عن طريق الحدود المفتوحة على جمهورية يوغسلافيا؛

فإن المسلمين كانوا يعانون المجاعة التي كان الصرب يحرصون على انتشارها

وذلك بأن يخرقوا كل وقف إطلاق نار حتى لا تتمكن فرق الإغاثة في إتمام مهامها.. لكن أكثر المسؤولين الغربيين تخليطاً كان وزير الدفاع الأمريكي الذي سأل

المراسلين بدل أن يسألوه «من هو العدو؟ كيف سنحدد (رسالة) تدخلنا العسكري،

من نحارب؟ البوسنيون؟ الصرب؟ نحن لا ندري! ! [2] وحينما سأل مارلين

فيتزواتر الناطق باسم البيت الأبيض عن موقف سيده أكدت إجاباته أن الإدارة

الأمريكية ليست حاضرة أو جاهزة حينما يطرح اسم البوسنة! ! بيل كلنتون ونائبه

في انتخابات الرئاسة آل غور طرحا مشروعاً لضرب المواقع الصربية بالطائرات

لتأمين وصول المساعدات الإنسانية للمدنيين الأبرياء.. هذا المشروع وصفه

المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض بأنه مهتز، ولا ينم عن وعي سياسي خارجي

لدى المرشحين المذكورين، لكنه ما لبث أن سحب هجومه العلني حينما أُخبر أن

معظم القيادات الرئاسية تتبنى طرحاً شبيهاً بطرح كلنتون، مع استثناء الجاهل دك

تشيني وزير الدفاع! ! [3]

وكلما زادت الأزمة ظلمة كان الزعماء الغربيون يكتفون بالشجب والكلمات

البراقة، والقذائف تدك ما بقي من أجساد ومشاعر البوسنيين» حينما واجهنا واقع

معسكرات الموت الجماعي والقطارات المملؤة باللاجئين المبعدين لم نفعل شيئاً «

هكذا قال وزير الخارجية البريطاني السابق اللورد أوين لمجلة التايم:» نبدو أننا

قررنا أن نعيد مأساة قتل اليهود في الحرب المنصرمة.. لكننا اليوم بإمكاننا أن نحدد

بدقة متناهية عبر أدوات التجسس والأقمار الصناعية مناطق المدفعية الصربية

وندكها سواء من خلال الطائرات المنطلقة من قواعد حلف الأطلنطي أو حاملات

الطائرات، هذا يمكن تنفيذه خلال ساعات وليس أياماً.. بمجرد أن يصدر قرار

حازم من مجلس الأمن «. هذه المواقف الغربية المتراكمة والمتعددة ليست إلا دليلاً

إضافياً، فحينما سئل بوش عشية قمة ميونيخ عن سبب إحجامه عن التحرك في ظل

الوضع المتردي أجاب قائلاً: إنه ليس مستعداً لأن يرسل» الأولاد الأمريكيين «

في مهمة كهذه.. وتعلق لاسلي غليب في النيويورك تايمز قائلة: إن الغرب ما كان

ليتخذ هذا الموقف اللامبالي لو كان ضحايا المجزرة من النصارى.. ولو كانوا كذلك

إذن لانتفض العالم الغربي وتحرك الضمير النائم وترجمه ذلك إلى تحرك عسكري

واقتصادي وسياسي بدلاً من حالة النعاس الثقيل التي يغط فيها المجتمع الدولي» !

أما فرانسوا هيسبورغ رئيس معهد الدراسات الاستراتيجية في لندن والذي

يحظى بسمعة دولية فقد لخص القضية بقوله: يوماً بعد يوم يتأكد لكل المراقبين أن

الحل العسكري هو الحل الوحيد لهذه المشكلة ولا سيما في ظل أجواء التقاعس

الراهنة، وأبرز الوسائل هو إعطاء السلاح للبوسنيين حتى يدافعوا عن/أنفسهم مع

توفير قوات أرضية دولية لتكوين قاعدة انطلاق للجيش البوسني.. « [4] . لكن

السؤال الذي يطرحه توم بونت مراسل مجلة النيوزويك:» من لديه الاستعداد

والعزم للقيام بذلك؟ إن الرئيس الفرنسي الذي زار سراييفو في تحرك مسرحي

يقول إن الحل العسكري مستبعد.. لأن المعضلة من سيقدم الجنود المطلوبين..

بالتأكيد ليسوا البريطانيين «.. ويتساءل الآن كلارك وزير الدفاع البريطاني السبق:» كيف نستطيع أن نبرر لعوائل الجنود المقتولين أن أبناءهم لم يموتوا في سبيل

الملكة أو الوطن بل لمنع الصرب من قتل المسلمين «.. إنه الكشف عن المخبوء

في الصدر بكل وضوح.. فالبريطاني الصليبي لن يقبل أبداً أن يفقد الجيش الملكي

ضحية في سبيل هدف لا يتصور.. منع قتل المسلمين هكذا بكل وضوح.. بل

بكل وقاحة بعد إزالة غشاء الإنسانية والشرعية والعدالة التي يرفعونها متى ما أرادوا..!

العديد من الغربيين شهدوا من منطلق إنساني بحت على أن الغرب المنافق

يكتفي بإطلاق التصريحات المعسولة، وهو عازم على إزالة المسلمين في البوسنة

من الخريطة الجغرافية كما قالت مجلة الإيكونمست البريطانية:» وداعاً.. وداعاً

البوسنة «.. شارلز لان أضاف:» إن النفاق الغربي وإغراق العالم وتضليله ليس

وقفاً على السياسيين إنه يشمل رجال الإعلام بل الناخبين.. إنه موقف عنصري هذا

الموقف من أحداث البوسنة والصومال.. إن الحضارة الغربية قالت بصوت مرتفع: «يستحيل أن يحدث ذلك مرة أخرى» حينما انتهت الحرب الكونية الثانية

وكشفت فظائع النازي بحق اليهود.. لكن يبدو أن معسكرات اعتقال اليهود تختلف

عن تلك التي نراها في البوسنة.. لكن هذا مخجل حقاً.. مخجل بحق الغرب

وزعامة جورج بوش الذي سيجد نفسه مضطراً لعمل شيء ما في المستقبل

القريب « [5] .. هذا التخاذل والموقف الخافت الصادر من بعض الأصوات ففي الغرب تتساءل كيف تختلف جريمة متماثلة حسب هوية المذبوح، لكن الجواب بسيط وجوهري حيث إشارة الرئيس الأمريكي عن جذور الثقافة الغربية الراهنة وشقيها النصراني واليهودي، أما المسلمون فموقعهم معروف مسبقاً بالنسبة لهذه الثقافة/العقيدة ...

ولعل أقوى المواقف الصادرة عن هؤلاء القلة من الغربيين الذين لم يتحملوا

هذا الإجرام الغربي، كان موقف جورج كيني المسؤول عن يوغسلافيا في وزارة

الخارجية الأمريكية، فقد استقال من منصبه احتجاجاً على موقف واشنطن المتخاذل

من القضية اليوغسلافية، ولم يكتفِ كيني بذلك، بل قام بفضح الدور الغربي عموماً

والأمريكي خصوصاَ، وذلك بالكتابة في افتتاحيات الصحف، وإجراء مقابلات

متعددة هاجم فيها المؤتمرات التآمرية التي ترعاها القوى الغربية لتصفية المسلمين

في البوسنة باستخدام العبارات والآليات الدبلوماسية، ومنها مؤتمر لندن..

» الحقيقة المجردة هي أن مؤتمر لندن لحل القضية اليوغسلافية قد أعطى الضوء الأخضر للصرب لإنهاء ما بدأوه، والحل الحقيقي والسهل يعرفه الجميع ويدركونه وهو تسليح البوسنيين ليدافعوا عن أنفسهم، ثم عن قطعة الأرض التي يقفون عليها، ومن ثم تحرير الأراضي التي سلبت منهم ... «.

هذه بعض الدلائل التي تجمع على نتيجة واحدة ومحصلة نهائية: حقيقة

المعركة وجوهر المشكلة في جانبها العقائدي بين المسلمين والنصارى..

أما اليهود فقد كان دورهم في يوغسلافيا السابقة والحالية يحمل جذوراً مشتركة

كما يقول محمد خليفة:» في نهاية القرن المنصرم كانت صربياً جزءاً من الدولة

العثمانية وكذلك كانت فلسطين، وكانت الحركة القومية الصربية الوليدة تكافح لبناء

دولتها تحت شعار «إحياء مملكة دوشان أو صربيا الكبرى» وكانت الحركة

الصهيونية ترفع شعار إحياء مملكة داود أو إسرائيل الكبرى، وبقدر ما كانت الفكرة

الصهيونية أسطورية وعدوانية ولا ترتكز على أساس شرعي، بقدر ما كانت الفكرة

الصربية لا تقل عنها عدوانية.

لقد تميزت الحركتان بخصائص عرقية وتاريخية وسياسية متقاربة، كما

تميزتا بعدائها الشديد للإسلام والمسلمين لا سيما أنهما كانتا تكافحان ضد الدولة

العثمانية التي فضلاً عن أن الطرفين يعتبران أن المسلمين هنا وهناك، يحتلان كل

أو بعض أراضي الوطن القومي المزعومة، فالصرب يعتبرون الألبان المسلمين في

كوسوفو محتلين وافدين على المنطقة التي يسكنونها، وكذلك يعتبرون المسلمين

السلاف في البوسنة والهرسك صرباً تمت أسلمتهم بالقوة من جانب الأتراك، ولا

يمكن الاعتراف بما نتج من هذا التحول القسري خصوصاً من ناحية هوية الأرض

التي يسكنونها، وكان اليهود يعتبرون الفلسطينيين (المسلمين) وافدين ومحتلين

لأرض الميعاد والتوراة.. «وحينما قامت المملكة الصربية الكرواتية وأسند الملك

فيها إلى أسرة قره جورجوفيتش الأرثوذكسية المتعصبة كان اليهود هم أقوى الأقليات

فيها، كما هو الحال في أمريكا الآن» وحين أعلنت لندن وعد بلفور عام 1917م

كانت بلغراد أول دولة ترحب به وتطالب بتنفيذه وجعلته بنداً رئيسياً في سياستها

الخارجية «.. لقد تجلى هذا التعاون التاريخي في عالم اليوم حيث إن إسرائيل تمد

الصرب بالسلاح والعتاد للقيام بالطور الأخير من مذبحة المسلمين في البوسنة الذي

أصبحوا فلسطيني أوربا، مع ما عرف من تغلغل يهودي /إسرائيلي في جسد الدولة

اليوغسلافية الحديثة وتعاون مع الجيش اليوغسلافي الاتحادي ظهرت نتائجه في

المجزرة الحالية التي تراقبها دولة الصهاينة بارتياح شديد…

إن الدور الصليبى الصهيوني يعي حقيقة المعركة وامتداداتها الحاضرة

والماضية والمستقبلية، كما أنه يدرك تماماً أن المعركة الدائرة وهي مع الإسلام

كدين وهوية، فالمسلم البوسني غريب منسلخ عن كثير من أسس الإسلام ومبادئه

بفعل عوامل تاريخية وواقعية متشابكة، والمشاهد التي تعرض على العالم كل

صباح ومساء تثبت أن مواصفات الأصولية وملامح» التطرف «لا تنطبق على

مسلمي البوسنة كما يفهمها الغرب، فالرجال أوربيو الملامح ولا تظهر لحاهم الكثة

» الشهيرة «أو جلابيبهم البيضاء جلية.. ولا يسيرون وهم يحملون المصحف أو

وهم يرددون: الله أكبر..، إنهم أبعد ما يكونون الآن عن ذلك بعد عقود من

الغسيل الفكري والغربة العقدية.. أما النساء فلا يبرز الحجاب يغطي رؤوسهن حتى

يشن الغربيون هذه الحرب عليهن، ولا يكترث بحملة الاغتصاب المنظمة التي

تحطم كل ذرة إنسانية في صدورهن..، المسلمون في يوغسلافيا لا تنطبق عليهم

» المواصفات والمقاييس «الصليبية أو مشتقاتها العلمانية في عالمنا الإسلامي..

مجلة النيوزويك الأمريكية تؤكد ذلك حيث تقول:» الرجال يشربون الخمر..

والنساء لا يرتدين الشادور أو الحجاب.. «، الإيكونومست المتعصبة تقول:» لا

يمكن إطلاق لفظ أصوليون على هؤلاء الآن، إنهم أقرب إلى العلمانية منهم إلى

الإسلام «.. ومع هذا يظل البعض يتغاضى عن حقيقة موقف الغرب المتغطرس

مع من تحمل خلاياه جذوراً إسلامية أو صفات وراثية تربطه إلى هذا الدين، أنت

متهم على أي حال وحيث ما اخترت أن تقف أو تنحاز.. إذا كنت مؤمناً بالإسلام

منهجاً ودستور حياة.. فأنت بالتأكيد أصولي» عفن «! ! وإذا اخترت أن تؤدي

الشعائر دون أن تحمل لوناً أو طعماً أو رائحة تَمًتُّ للإسلام، فأنت غير متحضر أو

قابل للاندماج الحضاري، إذا قررت أن تتأمرك أو تتغرب، أو تصبح علمانياً

متشنجاً، فستظل قابلاً للانحراف عن هذه المبادئ، ودخيلاً على الفكر الغربي الذي

طوّر هذا الطرح، والذي ينظر بازدراء حتى لأولئك المتشبتين بركابه، المتمسحين

بقداسته، أنت في أحسن الأحوال» ذنب مرحلي «أنت مسلم.. إذن أنت عدو

مهما انسلخت أو توددت أو ابتذلت.. هذه نظرة الغرب ونظرة مفكريه وقادته.. بل

أفراده البسطاء.. أنت» الآخر «الذي لا يمكن أن يكون الأصل..

هذا ما يفسر الحملة الوحشية البشعة في البوسنة، أو في أرض إسلامية أخرى، حيث ينظر الغرب إلى القضية من منطلق صراع الحضارات والأجيال، ويتغافل

منظرو اللحظة الآنية والحدث اللاهث عن هذه المنطلقات، فضلاً عن المضللين

والمنافقين والمأجورين..

هذا المنظور الغربي المزدوج تؤكده أكوام التصريحات والمواقف الغربية منذ

انفجار المأساة حتى الآن، حقد صليبي يهودي على الإسلام بغض النظر عن تخاذل

أبنائه وتميُّع معتنقيه، فربما انتفض الأطفال والشباب وهزهم تيار الصحوة

الإسلامية الذي لا يعرف حدوداً أو حواجز، إنهما خطان متشابكان ورافدان

أساسيان..» الغرب المتحضر «بكل تراثه ومصطلحاته وعقائده وتفوقه وأسلحته ومصالحه، أمام المسلمين الهمج الذين يريدون أن يعيدوا عجلة التاريخ إلى الخلف، ويصبغوا القرن الحادي والعشرين بمخلفات عصور الظلام وأساليب القرون الوسطى، كما يدعون ويروجون. ومهما حاول هؤلاء إسقاط دبلوماسيتهم وأساليبهم الماكرة.. فالكلمات والشهادات تخرج قسراً من أفواههم لتؤكد هذا المفهوم المتشابك بين الحفاظ على المكتسبات وإذلال» الآخر «أي المسلم الذي لا زال يبحث عن هويته وذاته.. إنها بعض الشهادات:

» خلال الحرب العالمية الثانية كان الهدف دك المنشآت الاستراتيجية التي

تؤثر على مسيرة الحرب.. أما في هذه المجزرة فإن المستهدفين ابتداءً هم المدنيون، إنه الإنسان «ونضيف إنه الإنسان المسلم» [6] .

«لقد هيأ التلفزيون اليوغسلافي الصرب للقيام بهذه المجازر حينما بدأ العام

الماضي عرض أفلام مهيجة مشيراً إلى المسلمين بالأصوليين والمتعصبين

والخمينيين وأنهم وراء كل أعمال الإرهاب في العالم، وأنهم يقومون بذبح أطفال

الصرب ليقدموهم طعاماً للحيوانات الجائعة في حديقة حيوانات سراييفو!» [7] .

«أخشى أن تثمر جهود حكومة البوسنة عن قيام دولة إسلامية في وسط

أوربا ونحن الكروات (الكاثوليك) لا نرضى بهذا..» رئيس كرواتيا الحالي [8] .

«كل المسلمون - بمن فيهم الضحايا البوسنيون - عرب قذرون يمسحون

أدبارهم بأيديهم» [9] نقلاً عن مسؤول صربي.

«معلومات متواترة مصدرها واشنطن تؤكد على أن القوات اللبنانية بزعامة

سمير جعجع قد أرسلت 3 شحنات من الأسلحة إلى القوات الصربية التي تحارب

المسلمين في البوسنة والهرسك، وأن قيمة هذه الأسلحة تزيد على 30 مليون دولار

وتضم أسلحة خفيفة ومتوسطة ودبابات وقطع مدفعية من عيار 120 ملم، وأنها تجد

طريقها إلى قوات الزعيم الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش وإلى المليشيات الصربية

في البوسنة» [10] ... هذا هو دور إخوننا في العروبة كما يقولون، دور يلعبه

بطرس بدبلوماسية وآخر يمارسه تلاميذ آل جميّل ببشاعة وغلاظة المليشيات

الكتائبية ...

إن أسلوب تعامل الولايات المتحدة مع القضية البوسنية اتسم باللامبالاة منذ

الإشارة الأولى لاندلاع النزاع، لقد أعطت أمريكا الضوء الأخضر لصربيا للقيام

بحملتها العرقية عن طريق الإبادة، بينما تكتفي بالتحرك الدبلوماسي الهزيل، لقد

اكتفت الإدارة الأمريكية برعاية جولات عن المفاوضات العقيمة، ولا زالت تحاول

أن تظهر بصورة الحكم العادل حيث تلقي باللوم على جميع الأطراف بما فيهم

الضحايا المسلمون، إنها في الحقيقة تضغط على الحكومة البوسنية لكي تجلس على

مائدة المفاوضات مع الصرب الذين يجب أن يحاكموا كمجرمي حرب وذلك للقبول

بالأمر الواقع المؤلم.. «وهذه الشهادة لجورج كيني الذي أشرنا إلى استقالته من

وزارة الخارجية الأمريكية احتجاجاً على النفاق الأمريكي [11] .

إن الغرب يسعى للضغط على تركيا العلمانية للقيام بجهد إنساني بينما ترى

تركيا أن تجاهل حقيقة الوضع والمأساة ويؤدي إلى شعور المسلمين بأن الحرب

حرب صليبية جديدة، ويمكن أن يفضي إلى حروب دينية مشتعلة.. أي بمعنى آخر

أن المسلمين سيكتشفون حقيقة المجابهة ... [12] .

» لقد أثبت المجاهدون العرب شجاعة فائقة، إنهم هنا من أجل وقف ذبح

إخوانهم المسلمين كالشاة كما يقول أحدهم، والجنود المحليون يبدون إعجابهم بهؤلاء

لإقدامهم وقدرتهم على إلقاء الرعب في قلب الصرب الذين ينكمشون حينما يسمعون

صرخة المجاهدين حينما يستغيثون بالله « [13] .

» على المسلمين أن يقبلوا بالتعايش الكونفدرالي مع كانتونات الصرب

والكروات حتى لا تقوم دولة إسلامية كبرى تهدد استقرار أوربا.. « [14] .

» نحن نقاتل من أجلكم.. نحن خط الحماية الأول أمام المسلمين المتخافين

الذين يشكلون عدواً مشتركاً لكم.. كما لنا « [15] .

هل تكفي هذه الشهادات؟ أم نحن بحاجة إلى برنارد لويس المستشرق

اليهودي الحاقد وتلامذته من أمثال فؤاد عجمي الذين تورمت أكتافهم من الأجر

الحرام وهم يتحدثون ويسهبون وينظرون ويسقطون.. حول همجية المسلمين

وتعصب العرب؟ .. لقد صمتوا تماماً عن» حضارة الصرب «و» رقي الغرب «وشجاعة اليهود والنصارى في تحمل صور ومشاهد الهلع المعروضة لأشهر..

وهنا لا مانع من نقل مقطع وجيز لذئب صغير يحاول أن يشتهر حينما يؤكد

انضمامه إلى قافلة لويس /عجمي. هذا النكرة الذي أبتليت عيوننا به يفند الرأي

الساذج الذي يرى المعركة معركة دين، وقتال عقيدة، فيقول:» أفتى أحد الزملاء

بأن لإسرائيل ضلعاً في الحرب على مسلمي البوسنة والهرسك وهذا لا يكون

صحيحاً لتكتمل عناصر الصورة المرسومة في رؤوسنا: نحن المسلمين في جانب

والعالم الغربي الصليبي في جانب آخر، وما دامت إسرائيل هي همزة الوصل

العدوانية التي تربط الغرب بنا فهذا ما يملك إلا أن يوجد لها دور في حرب

البوسنة « [16] .

والغريب أن شواهد المعركة، بل تورط القوى الغربية العقدي والعملي

مصاحباً بالدور الإسرائيلي هو حديث الأعداء أنفسهم الذين وجدوا في هذه المنابر

المشبوهة والصحف الراقصة على جراح المأساة، كتاباً لا يملكون من الشجاعة ذرة، أو من الاطلاع نصيباً، أو من الموضوعية حرفاً.. هم وحدهم القادرين على فهم

المعضلات وتحليل المشكلات والتصدي للقيام بدور ابن العلقمي بصورة يخجل منها

برنار لويس، ويسقط عن عرشه الاستخباراتي/الاستشراقي، الأراجوز الأكاديمي:

فؤاد عجمي..

إن هذا التلاعب بالألفاظ والأفكار لا يصب إلا في خانة واحدة ترمي إلى

تجريد الصراع من بعده الديني الذي تؤكد الحقائق المتراكمة جذوره ومنطلقاته والتي

تحاول أن تصبغ القضية بمزيج من العرقية المجردة النهمة، أو التجاوزات

والطموحات القيادية التي لا تعرف انضباطاً أو كبحاً للتجاوزات..

لقد لحظت مواطنة أمريكية قواعد اللعبة التي تسير الصراع وما يحكمها من

قوانين عقدية تجتمع فيها الصليبية واليهودية ولا سيما في صورة رأسي الملتين

المنحرفتين: أمريكا وإسرائيل. كتبت روما كروكر إلى مجلة الواشنطن ريبورت

في عدد اكتوبر 1992 قائلة:» حقاً إن الصرب يعتقدون أنهم يكسبون احترام

الولايات المتحدة حينما يمارسون القتل الوحشي باسم «التطهير العرقي» ..

والسبب هو أن قتل شعب مسالم وتشريده وإفناءه واستبداله بمهاجرين، غرباء هو

نفس الأسلوب الذي أوجد الولايات المتحدة وكونها، لكن المجرمين الذين قاموا بهذه

الجريمة كانوا ولا زالوا ينادون باسم «الرواد» .. وهذا هو نفس السبب الذي

يجعل دولة كأمريكا تتعاطف مع شعب قام بنفس الأسلوب هو الشعب الإسرائيلي

الذي لا يزال يقال عنه أنه الشعب الذي استصلح الأرض،.. غداً سيطالبنا

الصرب بمبلغ 10 بلايين دولار ضمانات للقروض من أجل مشاريع توطينية في

الأراضي التي يحتلونها اليوم «.. إنه المثلث الذي قام واشتهر ضلعاه الشريران

أمريكا وإسرائيل.. أما الضلع الثالث فهو كل قوة أو تيار يسعى لحرب الإسلام

وأهله، صرباً كانوا أو كرواتاً أو روساً أو هندوساً، مهما حاولوا أن ينافقوا أو

يتملقوا أو يعبثوا فالحقائق أصعب من أن تحجب بمنخل..، والوقائع أكبر من أن

يتلاعب بها كاتب مبتدئ أو صحيفة تطعن من الخلف، أو متشرق ملأ الشر صدره

فبدت الضغينة في فيه وما يخفي صدره أعظم.. وأعظم ...

طور بواسطة نورين ميديا © 2015