عثمان علي حسين
معنى الفطرة في اللغة [1] :
الفطرة من فطر الشيء، يفطره فطراً، فانفطر، وفطره، أي شقه، وتفطر: تشقق، فالفطر: الشق. وجمعه: فطور، ومنه فطر ناب البعير، إذا طلع،
وفي التنزيل قوله (تعالى) : [إذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ] [الانفطار: 1] ، أي انشقت،
وفي الحديث: عن عائشة (رضي الله عنها) : «أن النبي -صلى الله عليه وسلم-
كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه ... » [2] .
وفطر الله الخلق، يفطرهم: خلقهم وبدأهم، فالفطر - أيضاً -: الابتداء
والاختراع، كما قال تعالى: [الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ] [فاطر: 1]
أي خالقهما ومبتدئهما [3] ، وكما قال ابن عباس (رضى الله عنهما) : «كنت لا
أدري ما [فَاطِرِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ] حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر،
فقال أحدهما: أنا فطرتها، أنا بدأتها» [4] .
والفطرة - أيضاً -: الخلقة، أنشد ثعلب:
هون عليك: فقد نال الغنى رجل ... في فطرة الكلب، لا بالدين والحسب
أي في خلقة الكلب.
فأصل كلمة «فطر» يرجع إلى التشقق، والابتداء، والخلق، والمعنيان
الأخيران (الابتداء والخلق) يناسبان المعنى الاصطلاحي، كما سيتبين ذلك.
معنى الفطرة في الاصطلاح:
وردت لفظة «الفطرة» مصدراً في القرآن الكريم في آية واحدة هي قوله
(تعالى) : [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ
اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] [الروم: 30] ، وإن كان أصل
الكلمة قد ورد بصيغ أخرى - غير صيغة المصدر - في آيات كثيرة، ترجع
معانيها إلى الخلق والابتداء والتشقق، وهي معانيها اللغوية - كما تقدم -.
أما السنة، فقد ورد لفظ «الفطرة» مصدراً في أحاديث كثيرة، أشهرها
حديث أي هريرة (رضي الله عنه) قال: «قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كل
مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كمثل البهيمة
تنتج البهيمة، هل ترى فيها جدعاء» [5] وفي رواية قال أبو هريرة (رضي الله
عنه) في آخر الحديث: «اقرؤوا إن شئتم: [فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا
تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ] [الروم: 30] [6] .
وقد اختلف أهل العلم في المراد بالفطرة المذكورة في الآية، وفي حديث أبي
هريرة خاصة [7] على مذاهب، أذكر الصحيح الذي تسنده الأدلة: وهو أن الفطرة
الإسلام، وهو أشهر الأقوال وأصحها وهو المعروف عند عامة السلف من أهل العلم
بالتأويل [8] . واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة منها:
1- قوله (تعالى) : [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ]
[الروم:30] ، قال الحافظ ابن كثير في معناها:» فسدد وجهك واستمر على الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية، ملة إبراهيم، التي هداك الله لها، وكملها لك غاية الكمال، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة، التي فطر الله الخلق عليها، فالله (تعالى) فطهر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره « [9] .
وقال الضحاك في معنى حنفاء:» أي حجاجاً «وقال الحسن:» الحنيفية:
حج البيت «وقال مجاهد:» مسلمين متبعين «، قال أبو عمر:» وهذا كله يدل
على أن الحنيفية الإسلام «واستدل بقوله تعالى: [ولَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً]
[آل عمران: 67] ، وقول الشاعر (وهو الراعي النميري) :
أخليفة الرحمن إنا معشر ... حنفاء نسجد بكرة وأصيلاً
عرب نرى لله في أموالنا ... حق الزكاة منزلاً تنزيلاً [10]
وقال أبو عمر:» الحنيف في كلام العرب: المستقيم المخلص، ولا استقامة
أكثر من الإسلام « [11] .
و» فطرة «منصوبة بفعل مقدر، أي اتبع فطرة الله، وقيل منصوبة على
المصدرية التي دل عليها الفعل الأول (أقم) ومعناها: فطر الله الناس على ذلك
فطرة، وعلى كل تقدير تكون إقامة الوجه حنيفاً وهو فطرة الله التي فطر الناس
عليها، وأن ذلك مأمور باتباعه إما صراحة، أو تلميحاً، لأنه جاء في صيغة مدح.
قوله: [لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ] ذكر ابن كثير (رحمه الله) أن للعلماء في تأويلها
قولين:
الأول: أنها خبر بمعنى الطلب، أي لا تبدلوا خلق الله، فتغيروا الناس عن
فطرتهم، ثم قال الحافظ:» وهو معنى صحيح «.
الثاني: أنها خبر على بابه، وهو أنه (تعالى) ساوى بين خلقه كلهم في
الفطرة على الجبلَّة المستقيمة، لا يولد أحد إلا على ذلك، ولا تفاوت بينهم في ذلك، وهذا هو ظاهر النص [12] .
وعقد الإمام البخاري (رحمه الله) في صحيحه: باب: لا تبديل لخلق الله:
لدين الله، (خلق الأولين) : دين الأولين، والفطرة الإسلام، ثم روى حديث أبي
هريرة - بعد الترجمة - ما من مولود إلا يولد على الفطرة.. إلخ [13] . وصنيع
البخاري - هذا - يدل على أن الفطرة عنده الإسلام، في الآية والحديث جميعاً.
وقال ابن عباس والنخعي، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة وقتادة،
والضحاك، وابن زيد في قوله تعالى: [لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ] أي لدين الله [14] .
وقوله تعالى: [ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ] قال ابن كثير:» أي التمسك بالشريعة
والفطرة المستقيمة، هو الدين القيم المستقيم « [15] .
2- حديث أبي هريرة:» كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو
ينصرانه، أو يمجسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة، هل ترى فيها جدعاء «،
وفي رواية:» تنتج بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء «، ثم يقول أبو
هريرة:» اقرؤوا إن شئتم [فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ] . وفي رواية سألوه
عن أطفال المشركين، أي من يموت منهم صغيراً، فقال: «الله أعلم بما كانوا
عاملين» .
ودلالة هذا الحديث على أن الفطرة الإسلام من وجوه:
الأول: الروايات المختلفة الألفاظ المتفقة المعاني، مما يجعل بعضها مفسراً
لبعض، مثل: «ما من مولود يولد إلا وهو على الملة» [16] ، وفي أخرى: «إلا على هذه الملة» [17] .
الثاني: قول أبي هريرة في آخر الحديث: «اقرؤوا إن شئتم [فِطْرَتَ اللهِ
الَتِي فَطَرَ النَّاسَ] مما يبين أنه فسر الحديث بالآية، وقد أجمع العلماء على أن
المراد بالفطرة في الآية الإسلام [18] ، وتفسير الراوي له قيمته في هذا المقام؛
لأنه أعلم بما سمع.
الثالث: سؤال أبو هريرة عن رجل عليه رقبة مؤمنة، أيجزىء عنه الصبي
أن يعتقه وهو رضيع، فقال:» نعم، لأنه ولد على الفطرة «يعني الإسلام [19] .
الرابع: قال ابن شهاب الزهري:» يصلى على كل مولود متوفى وإن كان
لِغِيَّةٍ؛ من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام « [20] وأفتى الزهري رجلاً عليه رقبة
مؤمنة أن يعتق رضيعاً، لأنه ولد على الفطرة [21] .
الخامس: قال الإمام أحمد (رحمه الله) :» من مات أبواه وهما كافران حكم
بإسلامه «واستدل بحديث:» كل مولود يولد على الفطرة.. «فدل على أنه فسر
الفطرة بالإسلام [22] .
السادس: ذكر الحديث التغيير لملل الكفر دون ملة الإسلام، فعلم أنه يتحول
عن الإسلام إلى غيره، بفعل الأبوين، أو غيره.
السابع: قوله في الحديث:» هل تحسون فيها من جدعاء «. أي أن البهيمة
خلقت سليمة، ثم جدعت بعد ذلك، فكذلك الولد يولد سليماً من الكفر؛ مؤمناً مسلماً، ثم يطرأ عليه الكفر بعد ذلك، فالعيب الذي طرأ على البدن، يقابله العيب الذي
طرأ على الدين، وهو الكفر.
الثامن: لو لم يكن المراد بالفطرة الإسلام، لما سألوا عقب ذلك عمن يموت
من أطفال المشركين وهو صغير؛ لأنه لو لم يكن هناك ما يغير تلك الفطرة لما
سألوه، والعلم القديم وما يجري مجراه لا يتغير.
3- حديث عياض بن حمار المجاشعي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما
يرويه عن ربه وفيه:» وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين
فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأَمَرَتْهم أن يشركوا بي ما لم
أنزل به سلطاناً.. « [23] وتقدم تفسير الحنيف بالمستقيم المخلص، وأنه لا
استقامة أكثر من السلام.
4 - الفطرة الإسلام، وهو قول عكرمة، ومجاهد، والحسن، والنخعي،
والضحاك وقتادة [24] .
المعترضون على تفسير الفطرة بالإسلام:
لخص أبو عمر اعتراض المنكرين على تفسير الفطرة بالإسلام، في أن
الإسلام والإيمان: قول، واعتقاد، وعمل، وهذا معدوم من الطفل، لا يجهل ذلك
ذو عقل [25] .
والجواب: مما ينبغي علمه أنه إذا قيل كل مولود يولد على الفطرة، أو على
الإسلام، أو على هذه الملة، أو إنه خلق حنيفاً، فليس المراد به أنه حين خرج من
بطن أمه يعلم هذا الدين ويريده، فإن الله تعالى يقول: [واللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ
أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً ... ] [النحل: 78] ، ولكن فطرته موجبة مقتضية لدين
الإسلام، ومحبته، فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه، ومحبته وإخلاص الدين له، وموجبات الفطرة ومقتضياتها تحصل شيئاً فشيئاً، بحسب كمال الفطرة،
واستعدادها، وسلامتها من المعارض؛ فكل مولود يولد على الإقرار بفاطره،
ومحبته والإذعان له بالعبودية، فلو خُلَّيَ وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى
غيره، كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية والأشربة، كما قال تعالى: [الَذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى] [طه: 50] ، فهو سبحانه خلق الحيوان
مهتدياً إلى حب ما ينفعه وجَلْبه، وبغض ما يضره ودفعه، ثم هذا الحب والبغض
يحصل فيه شيئاً فشيئاً، بحسب حاجته، لكن قد يعرض لبعض الأبدان ما يفسد ما
ولد عليه من الطبيعة السليمة والعادة الصحيحة، وهكذا ما ولد عليه من الفطرة،
ولهذا شبهت الفطرة باللبن، بل كانت إياه في تأويل الرؤيا؛ وذلك لما عرض على
النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء اللبن والخمر، فاختار اللبن، فقيل له:
» أصبت الفطرة، أو هديت الفطرة « [26] ، فمناسبة اللبن لبدنه، وصلاحه عليه، دون غيره، كمناسبة الفطرة لقلبه، وصلاحه بها دون غيرها [27] .