مسائل في التكفير
عبد العزيز محمد آل عبد اللطيف
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام
على خاتم النبيين والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
من المعلوم أن مسألة التكفير من المسائل الكبار، والقضايا الخطيرة، وقد
خاض فيها الكثير من بين غالٍ وجاف.. وهدى الله تعالى أهل السنة لما اختلفوا فيه
من الحق بإذنه، فقرروا هذه المسألة بعلم وعدل، وتوسطوا بين أهل الغلو
والإرجاء. وسأعرض في الصفحات التالية طرفاً من مباحث هذا الموضوع على
النحو الآتي:
1- أهمية هذه المسألة وخطورتها:
نبّه علماؤنا إلى خطورة هذه المسألة وعظم شأنها، وما يترتب عليها من نتائج
وتبعات سواء في الدنيا أو الآخرة، وإليك جملة من كلامهم في ذلك:
قال ابن تيمية - رحمه الله -: «اعلم أن مسائل التكفير والتفسيق» هي من
مسائل «الأسماء والأحكام» التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة،
وتتعلق بها الموالاة والمعاداة والقتل والعصمة وغير ذلك في الدار الدنيا، فإن الله
سبحانه أوجب الجنة للمؤمنين، وحرم الجنة على الكافرين، وهذا من الأحكام الكلية
في كل وقت ومكان « [1] .
وقال ابن الوزير: (وكم بين إخراج عوام فرق الإسلام أجمعين، وجماهير
العلماء المنتسبين إلى الإسلام من الملة الإسلامية، وتكثير العدد بهم، وبين إدخالهم
في الإسلام ونصرته بهم وتكثير أهله، وتقوية أمره، فلا يحل الجهد في التفرق
بتكلف التكفير لهم بالأدلة المعارضة بما هو أقوى منها أو مثلها مما يجمع الكلمة،
ويقوي الإسلام، ويحقن الدماء، ويسكن الدهماء حتى يتضح كفر المبتدع اتضاح
الحق الصادق، وتجتمع عليه الكلمة) [2] .
إلى أن قال: (وقد عوقبت الخوارج أشد العقوبة، وذمت أقبح الذم على
تكفيرهم لعصاة المسلمين مع تعظيمهم في ذلك لمعاصي الله، وتعظيمهم لله تعالى
بتكفير عاصيه، فلا يأمن المكفّر أن يقع في مثل ذنبهم، وهذا خطر في الدين جليل، فينبغي شدة الاحتراز فيه من كل حليم نبيل) [3] .
وقال الشوكاني:» اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين
الإسلام، ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا
ببرهان أوضح من شمس النهار، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من
طريق جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم-، أن من قال لأخيه يا كافر فقد باء
بها أحدهما.. « [4] .
وعندما يقرر هؤلاء الأعلام وغيرهم خطورة هذه المسألة، فلا يعني تمييعها
وإغلاق باب الردة بالحكم بإيمان من ظهر كفره بالدليل والبرهان، فهذا لا يقل
انحرافاً وخطراً عن تكفير مسلم وإخراجه من الملة، ولذا قال الشيخ عبد الله بن
محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
(وبالجملة فيجب على من نصح نفسه ألا يتكلم في هذه المسألة إلا بعلم
وبرهان من الله، وليحذر من إخراج رجل من الإسلام بمجرد فهمه واستحسان عقله، ... فإن إخراج رجل من الإسلام أو إدخاله من أعظم أمور الدين» وقد استزل
الشيطان أكثر الناس في هذه المسألة، فقصر بطائفة فحكموا بإسلام من دلت
نصوص الكتاب والسنة والإجماع على كفره، وتعدى بآخرين فكفروا من حكم
الكتاب والسنة مع الإجماع بأنه مسلم..) [5]
- 2 -
يتعين التنبيه على أن الحديث عن موضوع الكفر أو التكفير لا ينفك عن فهم
مقابله وهو الإيمان، ولذا فإن الانحراف في تعريف الإيمان، يورث انحرافاً في
تعريف الكفر، وقد أشار الشيخ العلامة عبد الليف بن عبد الرحمن بن حسن بن
محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله إلى قاعدة في ذلك فقال: «اعلم أن من تصوّر
حقيقة أي شيء على ما هو عليه في الخارج، وعرَف ماهيته بأوصافها الخاصة،
عرف ضرورة ما يناقضه ويضاده، وإنما يقع الخفاء بلبس إحدى الحقيقتين، أو
بجهل كلا الماهيتين، ومع انتفاء ذلك وحصول التصور التام لهما، لا يخفى ولا
يلتبس أحدهما بالآخر، وكم هلك بسبب قصور العلم، وعدم معرفة الحدود والحقائق
من أمة، وكم وقع بذلك من غلط وريب وغمة» [6] .
ومثال ذلك أن المرجئة لما أخطئوا وانحرفوا في فهم الإيمان، فحصروه في
مجرد التصديق، وأخرجوا العمل عن مسمى الإيمان، أورثهم ذلك انحرافاً في فهم
الكفر، حيث حصروه في دائرة التكذيب فقط، وانكروا كفر العناد والاستكبار،
وكفر الإعراض ونحوهما من أنواع الكفر الأكبر [7] .
- 3 -
يجب أن يُعلم أن الكفر حكم شرعي، وأن الكافر هو من كفّره الله تعالى
ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، فليس الكفر حقاً لأحد من الناس بل هو حق الله
تعالى. يقول ابن تيمية: «فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم، وإن
كان ذلك المخالف يكفرهم؛ لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك، وزنى بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه، ولا تزني بأهله؛ لأن
الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى، وكذلك التكفير حق الله فلا يكفر إلا من كفره الله
ورسوله» [8] .
ويقول القرافي: «كون أمر ما كفراً، أي أمر كان، ليس من الأمور العقلية
بل هو من الأمور الشرعية، فإذا قال الشارع في أمر ما هو كفر فهو كذلك، سواءً
كان ذلك القول إنشاء أم إخباراً» [9] .
4- تعريف الكفر لغة واصطلاحاً:
الكفر لغة: التغطية، قال تعالى: [كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ] فسمي
الفلاح كافراً لتغطيته الحب، وسمي الليل كافراً لتغطيته كل شيء [10] .
وأما معناه اصطلاحاً، فنورد جملة من كلام أهل العلم في ذلك. يقول ابن
تيمية: «إنما الكفر يكون بتكذيب الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما أخبر به،
أو الامتناع عن متابعته مع العلم بصدقه، مثل كفر فرعون واليهود
ونحوهم» [11] .
ويقول ابن حزم في تعريف الكفر: «وهو في الدين: صفة من جحد شيئاً
مما افترض الله تعالى الإيمان: بعد قيام الحجة عليه ببلوغ الحق إليه بقلبه دون
لسانه، أو بلسانه دون قلبه، أو بهما معاً، أو عمل عملاً جاء النص بأنه مخرج
بذلك عن اسم الإيمان» [12] .
ويقول ابن القيم في بيان معنى الكفر: «الكفر جحد [13] ما علم أن الرسول
جاء به، سواءً كان من المسائل التي تسمونها علمية أو عملية، فمن جحد ما جاء
به الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد معرفته بأنه جاء به فهو كافر في دق الدين
وصلبه» [14] .
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي: «وحد الكفر الجامع لجميع أجناسه،
وأنواعه، وأفراده هو جحد ما جاء به الرسول، أو جحد بعضه، كما أن الإيمان
اعتقاده ما جاء به الرسول والتزامه جملة وتفصيلاً، فالإيمان والكفر ضدان متى
ثبت أحدهما ثبوتاً كاملاً انتفى الآخر» [15] .
من خلال النصوص السابقة نوجز معنى الكفر - الذي لا يجامع الإيمان -
بأنه اعتقادات، وأقوال، وأفعال سماها الشارع كفراً منافياً للإيمان بالكلية- فإذا كان
الإيمان قولاً وعملاً، فكذا الكفر يكون قولاً وعملاً، فقد يكون الكفر قولاً قلبياً
كالتكذيب، وقد يكون عملاً قلبياً كالبغض لما جاء به الرسول، وربما كان الكفر
قولاً باللسان كالاستهزاء بالله تعالى وآياته أو رسوله.. وتارة يكون عملاً بالجوارح
كالسجود لصنم ونحوه..
- 4 -
وإذا كان الإيمان ليس شعبة واحدة فحسب بل هو بضع وسبعون شعبة كما
أخبر الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- -في حديث شعب الإيمان-، فكذا
مقابله الكفر. يقول ابن القيم مقرراً ذلك: «الكفر ذو أصل وشعب، فكما أن شعب
الإيمان إيمان، فشعب الكفر كفر، والحياء شعبة من الإيمان، وقلة الحياء شعبة من
شعب الكفر، والصدق شعبة من شعب الإيمان، والكذب شعبة من شعب الكفر،
والصلاة والزكاة والحج والصيام من شعب الإيمان، وتركها من شعب الكفر،
والحكم بما أنزل الله من شعب الإيمان، والحكم بغير ما أنزل الله من شعب الكفر،
والمعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان» [16] .
وإذا ثبت أن الكفر شعب متعددة، وأن له مراتب، فمنه ما يخرج من الملة،
ومنه ما لا يخرج من الملة، فإنه يمكن أن يجتمع في الرجل كفر- غير ناقل من
الملة - وإيمان، وهذا أصل عظيم عند أهل السنة، قد دلّ عليه الكتاب والسنة
والإجماع، ولقد أخطأ المبتدعة - عموماً - في دعواهم أن الكفر خصلة واحدة،
بناء على ظنهم الفاسد أن الإيمان شيء واحد يزول كله بزوال بعضه، فلم يقولوا
بذهاب بعضه، وبقاء بعضه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يخرج
من النار من كان في قلبه مثقال حبة من الإيمان» [17] .
6- تكفير المطلق وتكفير المعين:
يفرِّق أهل السنة بين تكفير المطلق وتكفير المعيّن، ففي الأول يطلق القول
بتكفير صاحبه - الذي تلبس بالكفر - فيقال: من قال كذا، أو فعل كذا، فهو كافر، ولكن الشخص المعيّن الذي قاله أو فعله لا يحكم بكفره بإطلاق، بل لا بد من
اجتماع الشروط وانتفاء الموانع، فعندئذ تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها.
يقول ابن تيمية: «وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط،
حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين، لم يزل ذلك
عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة [18] .
ويقول أيضاً:» إن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وإن
تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعيّن، إلا إذا وجدت الشروط، وانتفت الموانع،
يعين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر
من تكلم بهذا الكلام بعينه [19] .
ويسوق ابن تيمية بعضاً من الأعذار الواردة على المعين فيقول: «الأقوال
التي يكفر قائلها، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد
تكون عنده، ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له
شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ؛ فإن
الله يغفر له خطأه كائناً ما كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية، هذا
الذي عليه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وجماهير أئمة الإسلام» [20] .
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: «ومسألة تكفير المعيّن مسألة معروفة
إذا قال قولاً يكون القول به كفراً، فيقال: من قال بهذا القول فهو كافر، لكن
الشخص المعيّن إذا قال ذلك لا يحكم بكفره، حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر
تاركها» [21] .
وإذا ظهر لنا الفرق بين التكفير المطلق، وتكفير المعيّن، فسندرك خطأ
فريقين من الناس، فهناك فريق قد غلا وتجاوز فادعى تكفير المعيّن بإطلاق، دون
الالتفات إلى مدى توافر الشروط وانتفاء الموانع عن ذلك المعيّن، وفي المقابل نرى
فريقاً من الناس قد امتنع عن تكفير المعين بإطلاق، وأوصد باب الارتداد.
7- قيام الحجة:
من بَلَغه هذا الدين فقد قامت عليه الحجة، وحكم الوعيد على الكفر لا يثبت
في حق المعيّن حتى تقوم عليه حجة الله تعالى التي بعث بها رسله، قال تعالى:
[لأُنذِرَكُم بِهِ ومَن بَلَغَ] ، وقال سبحانه: [ومَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً] .
وأما شرط قيام الحجة على المكلفين: «فالحجة على العباد إنما تقوم بشيئين:
بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به، فأما العاجز عن العلم
كالمجنون، أو العاجز عن العمل، فلا أمر عليه ولا نهي..» [22] .
ومما يجدر ذكره أن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمان والأماكن
والأشخاص، كما قال ابن القيم: «إن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة
والأمكنة والأشخاص، فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب، ولم يحضر ترجمان يترجم له» [23] .
هذا ما تيسر عرضه لهذه المسألة، راجياً من الله تعالى حسن البيان، وسلامة
القصد، وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.