عثمان جمعة ضميرية
إن كل دين من عند الله تعالى يتضمن جانبين اثنين: العقيدة، والشريعة، إذ
أن من طبيعة الدين الرباني أن يتضمن تنظيماً لحياة الناس بالتشريع، وأن لا
يقتصر على الجانب العقدي وحده، ولا على الجانب التهذيبي أو الأخلاقي وحده،
ولا على المشاعر الوجدانية وحدها، ولا على العبادات والشعائر وحدها كذلك.
فما الدين إلا منهج الحياة الذي أراده الله تعالى للبشر، فهو يربط حياة الناس
بمنهج الله تعالى، ولا يمكن أن ينفك عنصر العقيدة الإيمانية عن الشعائر التعبدية،
ولا عن القيم الخلقية، ولا هذا وذاك عن الشعائر والأحكام التنظيمية، في أي دين
يريد أن يصرِّف حياة الناس وفق المنهج الإلهي..
وأي انفصال لهذه المقومات يبطل عمل الدين في النفوس، كما يبطله في
الحياة، وهذا يخالف مفهوم الدين وطبيعته كما أراده الله تعالى.
وإذا كانت العقيدة واحدة لا تختلف؛ فإن الشريعة لكل قوم، مباينة لغيرها من
الشرائع، مختلفة في الأوامر والنواهي، فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراماً،
ثم يجعله الله تعالى حلالاً في الشريعة الأخرى، وبالعكس، وقد يكون خفيفاً في
شريعة، فيزداد في الشدة في شريعة أخرى، وقد تختلف طرق العبادة نظراً
لاختلاف الناس وطرق تعليمهم، باختلاف استعداداتهم وظروف بيئتهم في مختلف
العصور والأزمان، إذ أن الشريعة تأتي لتلبية حاجات الناس، وفق علم الله -
سبحانه وتعالى- الذي يعلم ما يصلح للبشر في مكان وفي كل زمان، وهذه الحاجات
قد تختلف من أمة لأخرى ومن زمن لآخر.
كما تختلف الشرائع في شمولها لبعض الأحكام مما لم يكن منصوصاً عليه في
شريعة سابقة خاصة؛ لأن كل شريعة لاحقة إنما جاءت مكمِّلة أو موضحة لشريعة
سبقتها، أو مصححة لما وقع فيها من انحراف.
ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما جاءت به شريعتنا الإسلامية من تعاليم، مما
لم يكن في الشرائع السابقة، مما يحتاج إليه الناس في حياتهم اليومية، وفي
روابطهم الشخصية، ومعاملاتهم، بعضهم مع بعض، فردية كانت هذه المعاملات
أو جماعية، كبيان أحكام البيع والإجازة في العقارات والمنافع.. وغير ذلك من
ضروب المعاملات.
وهذا الاختلاف بصوره المتنوعة، إنما يقتضيه ما لله -سبحانه وتعالى- من
الحكمة البالغة والحجة الدامغة في اختلاف صور العبادات والشرائع باختلاف
استعداد الأقوام ومقتضيات الزمان والمكان.
وقد أشار الله -سبحانه وتعالى- إلى كثير من هذه المعاني، فقال عن ... عيسى - عليه السلام -:
[ومُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ولأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ] ... [آل عمران: 50] . وقال -سبحانه وتعالى- عن دعوة نبينا محمد -صلى الله عليه
وسلم- ورسالته: [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ
فِي التَّوْرَاةِ والإنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ
ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ ويَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ والأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ] ... [الأعراف: 157] .
وقال الله تعالى أيضاً: [يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا
كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ ويَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وكِتَابٌ مُّبِينٌ]
[المائدة: 15] .
ثم يضع الله -سبحانه وتعالى- قاعد عامة فيقول: [ولِكُلٍّ وجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا
فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]
[البقرة: 148] .
فكل أهل دين لهم قبلة ووجهة، فلليهودي وجهة هو موليها، وللنصراني
وجهة هو موليها، وقد هداكم الله تعالى -أيها المسلمون- إلى القبلة الجديرة بأن
تتوجهوا إليها، وثم وجه الله.
وهذا شبيه بقول الله -تبارك وتعالى-: [لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومِنْهَاجاً ولَوْ
شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ولَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلَى اللَّهِ
مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ] [المائدة: 48] .
فقد جعل الله تعالى لكل أمة شريعة ومنهاجاً، أي سبيلاً وسنة وطريقة، وهذه
السنن والطرق مختلفة: للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، يحلل
الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء، ليبتلي بذلك عباده، فيعلم من يطيعه ومن يعصيه، ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل الله تعالى غيره هو: التوحيد والإخلاص لله،
الذي بعث الله تعالى به رسله وأنبياءه -عليهم الصلاة والسلام-.
يدل على هذا المعنى: أن الله -سبحانه وتعالى- ذكر في سياق الآيات
الكريمة السابقة ما كتبه على بني إسرائيل في التوراة، وذكر بعد ذلك: أنه قفَّى
بعيسى بن مريم على آثار الأنبياء قبله، وأنزل عليه الإنجيل، وأمر من بعثه إليهم
بالعمل بما فيه، كما أمر بني إسرائيل بالعمل بالتوراة، ثم ذكر نبينا محمداً -صلى
الله عليه وسلم- وأخبره أنه أنزل إليه الكتاب مصدقاً لما بين يديه من الكتاب،
وأمره بالعمل بما فيه، والحكم بما أُنزل إليه، دون سائر الكتب غيره، وأعلمه أنه
قد جعل له شريعة غير شرائع الأنبياء والأمم قبله، ممن قصَّ عليه قصصهم، وإذ
كان دينه ودينهم واحداً. فهم مختلفو الأحوال فيما شرع لكل واحد منهم، ولأمته فيما
أحل لهم وحرم عليهم، فقال سبحانه وتعالى: [إنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى ونُورٌ
يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا والرَّبَّانِيُّونَ والأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن
كِتَابِ اللَّهِ وكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ] ، إلى قوله تعالى مخاطباً نبيه محمداً -صلى الله
عليه وسلم-: [وأَنزَلْنَا إلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ ومُهَيْمِناً
عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ولا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا
مِنكُمْ شِرْعَةً ومِنْهَاجاً] [المائدة: 48] .
ويقول الشيخ ولي الدين الدهلوي رحمه الله، في بيان هذا المعنى: إن أصل
الدين واحد، اتفق عليه الأنبياء -عليهم السلام-، وإنما الاختلاف في الشرائع
والمناهج، وتفصيل ذلك:
أن الأنبياء جميعاً -عليهم السلام-، قد أجمعوا على توحيد الله تعالى. عبادة
واستعانة، وتنزيهه عما لا يليق به، وتحريم الإلحاد في أسمائه، وأن حقَّ الله على
عباده: أن يعظّموه تعظيماً لا يشوبه تفريط، وأن يسلموا وجوههم وقلوبهم إليه،
وأن يتقربوا بشعائر الله إلى الله، وأنه قدّر جميع الحوادث قبل أن يخلقها، وأن لله
ملائكته لا يعصونه فيما أمر، ويفعلون ما يؤمرون، وأنه ينزل الكتاب على من
يشاء من عباده، ويفرض طاعته على الناس.. فهذا أصل الدين، ولذلك لم يبحث
القرآن الكريم عن ماهيِّة هذا الأشياء -إلا ما شاء الله- لأنها كانت مسلَّمة فيمن نزل
القرآن الكريم بألسنتهم. إنما الاختلاف وقع في صور هذه الأمور وأشكالها، فكان
الرجم في شريعة موسى -عليه السلام-، وجاءت شريعتنا بالرجم للمحصن،
والجلد لغيره. وجاء في شريعة موسى القصاص فقط، وجاءت شريعتنا بالقصاص
والدية جميعاً ... وعلى ذلك اختلافهم في أوقات الطاعات وآدابها وأركانها.
وبالجملة: فالأوضاع الخاصة، مُهِّدت وبينت بها أنواع البر والارتفاقات هي
الشرعة والمنهاج [1]
ولكن الشرعة والمنهاج الذي لا يقبل الله تعالى غيره هو ما أمر الله تعالى
محمداً -صلى الله عليه وسلم-، لأن شريعته هي كلمة الله الأخيرة، التي جعلها الله
تعالى له ولأمته إلى قيام الساعة. وقد جاء الأمر بذلك من الله -سبحانه وتعالى-،
فأمره أن يحكم بهذه الشريعة التي جعلها الله تعالى له، من بعد الذي آتاه بني
إسرائيل، الذين وصف الله تعالى لنبيه صفتهم في اختلافهم بغياً بينهم، فقال
سبحانه وتعالى:
[ولَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إسْرَائِيلَ الكِتَابَ والْحُكْمَ والنُّبُوَّةَ ورَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ
وفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العَالَمِينَ * وآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ثُمَّ
جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَذِينَ لا يَعْلَمُونَ] ... [الجاثية: 16-18] .
ولن يفوتنا هنا أن نشير إلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن لنا أن
أصل دين الأنبياء واحد، وإن كانت شرائعهم مختلفة، كما أنَّ أولاد العلاّت أبوهم
واحد، وإن كانت أمهاتهم شتى، فقال -صلى الله عليه وسلم-:
«أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الأولى والآخرة» قالوا: كيف
يا رسول الله؟ قال: «الأنبياء إخوة من عَلاّت، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد،
وليس بيننا نبي» [2] .