المسلمون والعالم
[هَذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ ولِيُنذَرُوا بِهِ]
تغشى العالم الإسلامي في هذه الأيام غاشية من التراجع والانكسار، وهو
انكسار لم يشهد مثله على مدى تاريخه كله، اللهم إلا ما جرى أيام المغول
والصليبيين! فقد تداعت عليه الأمم، واصطلح على عداوته العالم أجمع، وبات
يئن تحت مطارق خصومه العاتية التي تنهال من كل ناحية، لا تنقضي منها واحدة
حتى تبادر الأخرى في تتابع محموم لا يهدأ له أوار! !
ومبعث الخطورة في هذا الانكسار أنه يأتي وقد اخترق العقل الإسلامي
واخترقت الثقافة الإسلامية، ونبتت نابتة على أرضنا أشربت في قلوبهم مفاهيم
الغرب عن الدين والدولة وعلاقة الدين بالحياة، ونزع القداسة عن كل ما اتصل من
الدين بشئون الدولة، وإطلاق العنان للأهواء البشرية بلا قيود ولا حدود، وباتت
هذه الشرذمة تحمل من الولاء لهذه المفاهيم أضعاف ما تحمله لدينها وتراثها
وتاريخها كله! رغم أنهم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا! فحرث هؤلاء الأرض أمام
كل ما دبر لهذه الأمة في الظلام!
ولقد كان عهدنا لهذه الشرذمة هو التخفى والالتفاف والمناورة لما يعلمون من
خروج دعوتهم على محكمات الكتاب والسنة التي لا تزال موضوع تقديس من الكافة، إلا أنهم قد تجاوزوا ذلك مؤخراً، وأخذوا يستعلنون بهذه الزندقة، فراحوا يجلبون
بخيلهم ورَجِلِهم على مرتكزات الشريعة الإسلامية، ويطعنون في مرجعيتها
وصلاحيتها للتطبيق، كما تواصوا بذلك في أحد محافلهم المشبوهة التي قرروا
فيها - فيما قرروا - استعمال ما سموه الحل الهجومي الإيجابي، والتكتل في جبهة موحدة لمواجهة العمل الإسلامي المعاصر في جرأة لا يحسدون عليها! ! ضاربين عرض الحائط بحقائق الكتاب والسنة وما استقر تقديسه في ضمير هذه الأمة! !
لقد وجدنا منهم من يعلن بملء فيه رفضه المطلق لتطبيق الشريعة، وتبنيه
للفصل المطلق بين الدين والسياسة، واستعداءه السافر على حملة الشريعة بل وعلى
الشعائر الإسلامية في ذاتها، حتى أصبح يرى في إذاعة الأذان في التلفزيون أو
إيراد حديث نبوي بعده اختراقاً للإعلام وخطراً على مدنية الدولة، وتراجعاً أمام
المتطرفين! ويرى في شرح بعض الآيات القرآنية التي تناقش عقيدة التثليث قنبلة
زمنية موقوتة، وخطراً داهماً يتهدد الوحدة الوطنية!
بل رأيناه يسود المقالات في الاستعداء على دولة إسلامية مجاورة بسبب
توجهها الإسلامي في الوقت الذي يعلن فيه في بعض هذه المقالات أن ملف الصراع
الحضاري مع إسرائيل بصدد أن يغلق، وإن نزاعنا معها في سبيله إلى الانتهاء،
بحيث يمكن اعتبار جبهتها جبهة آمنة! ويدعو إلى التفرغ لمواجهة السودان
والجزائر وإيران!
لقد رأيناهم يغتالون التاريخ الإسلامي كله فلا يرون فيه إلا سلسلة من المجون
والمظالم! ! بل لم يسلم من سهامهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار،
فرأيناهم يرون في أبي بكر الصديق مغتصباً لحقوق النبي - صلى الله عليه وسلم -!! مستحلاً لقتال المسلمين بما خاضه من حروب الردة! ! وينتصرون لإخوانهم
المرتدين! ! ناقلين في ذلك أحاديث الإفك من المستشرقين، ضاربين عرض
الحائط بحقائق الكتاب والسنة وإجماع المسلمين.
بل رأينا منهم من يحاول الاقتراب من شخص النبي في غمزات وطعنات
فاجرة يدسونها في ثنايا ما يقدمونه من دوريات وأدبيات، وإن كان النضج السياسي
يقتضي - في تقديرهم - تأخير الإعلان بهذه المرحلة إلى حين! ولكنهم يدعمون
وينصرون كل من استباح هذا الحرم الأقدس! ! واجترأ على الإعلان بذلك - كما
رأيناهم مؤخراً وقد جاءوا يركضون يتكتلون لنصرة صاحب رواية (مسافة في عقل ...
رجل) بدعمهم وأموالهم وأقلامهم في مظاهرة لا تخطئها العين!!
إننا من جانبنا نعلن - إبراء الذمة - أن مثل هذا التصرف العلماني ثورة على
دين الأمة! ! وعدوان سافر على مرجعيتها المقدسة كتاباً وسنة! ! كما أنه إساءة
بالغة إلى وجه مصر الإسلامي، وإلى علاقتها ببقية بلاد العالم الإسلامي التي ما
فتئت تنظر إلى مصر الأزهر باعتبارها قلعة الإسلام، بل وإلى حكام هذه البلاد
الذين ما فتئوا يعلنون أنهم مسلمون وأن دين الدولة الرسمي هو الإسلام!
كما أنه من ناحية أخرى يولد تطرفاً مقابلاً نشهده في حوادث العنف التي
تتابعت على مسرح الحياة المصرية في الآونة الأخيرة. وإننا بقدر ما نعلن إدانتنا
للتطرف الذي ينسب إلى الدين، وإنكارنا على ما يقع في هذا الجانب من أحداث
دامية، فإننا ندين وبنفس القدر هذا الغلو في معاداة الإسلام، ورفض شريعته،
وتزييف تاريخه، وتشويه رموزه وأعلامه.
إن مصر هي سفينتنا جميعاً، وإن مثلنا ومثل هؤلاء كمثل قوم استهموا في
سفينة، فأصاب فريق منهم أعلاها وأصاب آخرون أسفلها، فإذا الذين في أسفلها
يحاولون أن يخرقوا في نصيبهم خرقاً ليستقوا منه الماء، فلو تركوا وما يريدون
لغرقت السفينة بمن فيها أجمعين! !
إن هذا الذي تشهده الساحة المعاصرة من استطالة دعاة العلمانية واستماتتهم في
عزل هداية الإسلام عن مسيرة هذه الأمة، والزج بها في مجاهل الأرض وخوادع
السبل يعد خيانة عظمى لهذه الأمة وللحقيقة المجردة! ! وإن التمكين لذلك يعد إعانة
على هذه الخيانة، ومسلكاً عدائياً لا تصلح به دنيا ولا يبقى معه دين!
إن حقائق الوحي وحقائق التاريخ لتؤكد بأن السبيل لهذه الأمة إلى الخروج من
هذا التيه الذي نتجرع مرارته ونكتوي بنيرانه إنما يبدأ بإصلاح ما اندرس من
علاقتها بربها، وتجديد ما اندرس من شعائر دينها وشرائعه، ثم ببذل الأسباب
المادية بأقصى ما وسعها الجهد لتتكفل يد القدرة بعد ذلك بما عجزت عنه وقصرت
دونه إمكاناتها المتاحة!
ولكننا - على النقيض من ذلك - لا نرى من دعاة العلمانية إلا إمعاناً في
الشرود عن منهج الله -عز وجل-، ومزيداً من التحريف والتزييف لحقائق الشرع
وحقائق التاريخ، الأمر الذي ينذر بشقاء المستقبل أكثر من شقاء الماضي إن لم
نبادر بتوبة صادقة نصوح! !
إن ثوابت هذه الأمة ومحكمات هذه الملة قد أصبحت عرضاً مباحاً لهؤلاء
يتخوضون فيه طعناً وتسفيهاً وتشويهاً وتزييفاً بلا حريجة دينية أو خلقية! !
إننا نعلن برائتنا إلى الله -عز وجل- من كل دعوة تخاصم شريعة الله تعالى،
وتجاهر أحكامها بالعداء، ونعلن أن مثل هذه الدعوات امتداد للوجود الاستعماري في
بلادنا! وأنها لا تجتمع مع أصل الإسلام بحال من الأحوال! !
كما ندعو الصحف المصرية جميعها: القومية [1] منها والمعارضة أن لا
تسود أعمدتها بإشاعة أحاديث الإفك التي يتداولها هؤلاء، فإن أبت إلا أن تفعل فلا
أقل من أن تتيح لحملة الشريعة ودعاة الإسلام من المساحة ما يكفي لدفع التهمة
بالحجة، ومقارعة الكلمة بالكلمة إحقاقاً للحق، وإبطالاً للباطل، واتقاء لسخط الله -
عز وجل-، فإن هذا هو أدنى ما يمكن قبوله منها باعتبارها تصدر في بلاد لا تزال
تنتسب إلى الإسلام.
وقد آلينا على أنفسنا - نحن الموقعين على هذا البيان - أن نقوم بواجبنا تجاه
ديننا وأمتنا وأن نصدع بكلمة الحق لا نخاف في الله لومة لائم، كما اتفقنا فيما بيننا
على التصدي لكل ما يثار حول الإسلام من شبهات ومفتريات من خلال الحوارات
والمناظرات العلمية الجادة لكل من يرغب في الحوار والمناظرة، لتكون نوعاً من
استفاضة البلاغ وإقامة الحجة على الكافة، ليهلك من هلك عن بينة، ويحى من حي
عن بينة، مسترشدين بقول المولى سبحانه: [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] [النحل 125] .
كما ندعو الأمة جميعاً إلى أن تكون على بينة من أمر هؤلاء الذين يحرثون
الطريق أمام أعدائها في الدنيا، ويجرونها بدعوتهم إلى جحيم الخلد وشقاء الأبد في
الآخرة!
[فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وأُفَوِّضُ أَمْرِي إلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ] ... [غافر 44] .
هذا بلاغ لكم والبعث موعدنا وعند ذي العرش يدري الناس ما الخبر
والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
أ. د. / عبد الغفار عزيز ... رئيس ندوة العلماء
أ. د / محمود حماية ... ... ... الأمين العام للندوة
أ. د. / حلمي صابر ... ... ... عضو الندوة
أ. د / محمد البري ... ... ... ... عضو الندوة