مجله البيان (صفحة 1153)

عوامل ومؤثرات فى تدوين العقيدة الاسلامية

عوامل ومؤثرات في

تدوين العقيدة الإسلامية

عثمان جمعة ضميرية

انتهينا فيما سبق إلى أن هناك جملة من العوامل الداخلية في نشأة علم العقيدة

واستقلاله عن العلوم الأخرى، وقد عرضنا لتلك المؤثرات في الحلقة السابقة.

وفيما يلي إيجاز العوامل الخارجية التي ساهمت في نشوء وتطور التدوين في

الجانب العقائدي.

- 1 -

ويمكن أن نجمل هذه العوامل الخارجية في احتكاك المسلمين بغيرهم من

أصحاب الديانات والمذاهب الفلسفية، إما عن طريق اللقاء المباشر والجدل مع

أصحابها، أو عن طريق الترجمة التي بدأت في عهد الدولة الأموية، ثم اتسعت في

عهد الدولة العباسية، وكان للخليفة المأمون أثر كبير في هذا، حيث فعل ما لم

يفعله السابقون، وهو أنه ترجم الكتب الخاصة بالإلهيات والأخلاق وأمثال ذلك مما

سموه بـ (ما وراء الطبيعة) .

وليس من هدفنا - هنا - أن نعرض بالتفصيل لحركة النقل والترجمة وأثرها

والمنهج الذي سارت عليه والطريق الذي اتخذته. فحسبنا إشارة سريعة إلى

الاحتكاك المباشر بين المسلمين واليهود من جهة، وبين المسلمين والنصارى من

جهة ثانية، وكذلك ما كان من احتكاك بالمجوس، ثم بالفلسفة اليونانية وغيرها،

عندما اتسعت رقعة الدولة الإسلامية وتهيأت الأسباب لذلك.

- 2 -

فاليهود الذين عاصرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة بعد الهجرة، هم الذين كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج ببعثة نبي جديد، هؤلاء هم الذين

كفروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وناصبوه العداء من اللحظة الأولى،

وتنوعت وسائلهم في الصدَّ عن الدعوة، والمماطلة والجدال، وإلقاء الشبهات،

والحرب الفكرية والنفسية.

وكان القرآن الكريم يتولى مناقشتهم والردَّ عليهم وبيان مؤامراتهم، كما

أوضح تحريفهم لكتبهم المنزلة، ورسم صورة صادقة لطبيعتهم ونفسيتهم.

وبعد أن خرج يهود من الجزيرة العربية - في أعقاب مؤامراتهم ونقضهم

للعهود - ليقوموا بدور كبير في عدائهم لهذا الدين، ومنهم من دخل فيه ظاهراً -

وهم على حقد وضغينة - بدأ اتصالهم بالمسلمين لإثارة الفتنة، فكان لعبد الله ابن

سبأ دوره في الفتنة في عهد عثمان -رضي الله عنه-، ثم تتابعت مظاهر الفتنة في

نشر فكرة الإمام المعصوم والرجعة التي تلقفتها عنه الفرق الباطنية [1] ، وأثاروا

الجدل بين المسلمين حول الذات الإلهية والصفات. واليهود معروف عنهم التشبيه

والتجسيم كما هو في كتبهم. وقد انتقلت هذه الأفكار إلى التراث الإسلامي، مما

عرف بـ (الإسرائيليات) في كتب التفسير والحديث.

وأثاروا أيضاً بين المسلمين الجدل حول الجبر والاختيار، وغير ذلك من

أمور عقائدية.

وعندئذ قام المسلمون بالردَّ على مفتريات يهود ودحض شبهاتهم، وناقشوا

عقائدهم، واصطنعوا لذلك منهجاً يقوم على النظر والدليل، فكان من ذلك تراث

إسلامي ضخم من كتب العقيدة والملل والنّحل..

- 3 -

وأما النصارى؛ فقد بدأ الجدال بينهم وبين المسلمين في هضبة الحبشة أولاً -

عند الهجرة الأولى للمسلمين - في حقيقة المسيح، وفي الكلمة وغيرها من المسائل

التي تدور حول العقيدة الإسلامية في المسيح.

ثم وفد نصارى نجران إلى المدينة وجادلوا النبي - صلى الله عليه وسلم -

في شأن عيسى -عليه السلام-، وقد دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى

المباهلة، كما في سورة آل عمران، آية (61) .

ثم وصل الإسلام إلى الشام والعراق ومصر، فبدأت النصرانية تنازعه نزاعاً

فكرياً شديداً [2] . وثار الجدل حول طبيعة المسيح، وحول مسائل الألوهية،

وفكرة الجوهر والعَرَض، والأقانيم الثلاثة، والوحدانية، وفكرة الخطيئة والفداء

والصلب، وبلغ الجدل ذروته من الشدة بعد (يوحنا الدمشقي) - طبيب الأمويين

الذي وضع للنصارى أصول الجدل مع المسلمين - وبلغ ذروته وشدته على يد

(يوحنا النقيوسي) المصري الذي رحل إلى الحبشة وبدأ يرسل رسائله إلى أقباط

مصر، يحاول فيها مناقشة العقائد الإسلامية، والحيلولة دون اعتناق الأقباط للإسلام. ثم تتابع النقاش في عهد العباسيين.

وساعد هذا الجدل في توجيه الأنظار إلى معالجة مسائل جديدة ومشكلات

عقائدية ظهرت على سطح المجتمع الفكري. وقد يكون (علم الكلام) أيضاً - كما

سمي في فترة من الزمن - نتيجة التأثر بالكلام النصراني أو علم اللاهوت المسيحي!

- 4 -

وكان لترجمة كتب الفلسفة اليونانية والرومانية وإقبال بعض المسلمين عليها،

أثر في بعض المسلمين الذين فتنوا بها، فحاولوا التفلسف في ضوئها، وتأثروا بها

منهجاً وموضوعاً، حين راحوا يفسَّرون تعاليم الإسلام في ضوء هذه الفلسفة،

وحاولوا التوفيق بينها وبين الإسلام، وقرؤوا القرآن الكريم على ضوء الفكر

اليوناني - على حد تعبير المفكر محمد إقبال رحمه الله-[3] .

وقام فريق من علماء المسلمين يزيفون آراء الفلاسفة وتهافتهم، ويقيمون

صرح التفكير الإسلامي على أسس مغايرة لها، وكان نتيجة ذلك كثير من الكتب

والمؤلفات في الجانب العقائدي.

وليست هذه الفلسفة هي كل ما اتصل به المسلمون وردُوا عليه، فهناك أيضاً: المذاهب الغُنُوصِيَّة الشرقية [4] ، وقد قابل الإسلام هذه المذاهب في جميع البلدان

التي دخلها بلا استثناء؛ فقابلها في العراق وفي إيران، وقابلها في مصر في شكل

الأفلاطونية الُمحْدَثَة.

وقد بدأ غنوص تلك المذاهب يهدم الإسلام، منذ قوَّض الإسلام عقائد تلك

المذاهب وطقوسها القديمة. وكانت من أخطر المذاهب الهدامة التي جالدت

الإسلام.. حاربته بالسيف والقلم، وهاجمته بقوة وعنف. على أن هذه الدعوة ما زالت آثارها حتى الآن تتمثل في غلاة الشيعة وفي الإسماعيلية وفي

البهائية [5] .

اتصل المسلمون بهذه المذاهب السالفة، وناقشوا اصحابها، وردَّوا عليها،

ومن خلال المناقشة والرد كانت تتضح - كذلك - الجوانب العقدية التي يدعو

الإسلام إليها، فنشأت الكتابة في العقيدة الإسلامية.

- 5 -

ومن هذا العرض الموجز للعوامل والمؤثرات في نشأة وتدوين علم العقيدة

يمكن القول بأن هذه النشأة كانت (استجابة لضرورة طبيعية ملحّة، تمثلت في

مشكلات سياسية واجتماعية، نجمت في حياة المسلمين، وباتت تهدد - باستفحالها

المطّرد - البناء الديني الذي قام عليه المجتمع الإسلامي. كما تمثلت في تحديات

دينية وفلسفية مع الأديان والفلسفات القديمة، باتت تروج بين المسلمين وتهدد بنية

العقيدة الإسلامية. فهذه المشكلات والتحديات دفعت الفكر الإسلامي - في سبيل

الدفاع عن مرجعيته العقدية - إلى أن يتجه إلى معالجة تنظيرية، فكانت نشأة علم

العقيدة بمنزلة الاستجابة لتحديات ناجمة من صميم واقع المسلمين) [6] .

ولذلك ينبغي الالتفات إلى التحديات المعاصرة ومناقشتها وبيان حكم الإسلام

فيها، بدلاً من الإغراق في دراسة قضايا وأمور انتهت منذ أمد بعيد أو لم يعد لها

أثر في حياة المسلمين، ويمكن أن يلتفت المسلمون اليوم للاهتمام بقضايا كثيرة مثل

قضية الحاكمية، والمذاهب المعاصرة كالعلمانية والقومية والعقلانية، وقضايا

الإنسان ودراسة علاقته بالكون ومن حوله ... الخ وهذا ما وجدناه في كتابات رائدة

للأستاذ سيد قطب -رحمه الله- عن (التصور الإسلامي) والأستاذ محمد قطب -

حفظه الله- عن (مذاهب فكرية معاصرة) .. وفي سلسلة (قضايا العصر على

ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة) للشيخ محمد سرور زين العابدين.

- 6 -

ولئن كانت مواجهة تلك العوامل - التي أشرنا إليها - أمراً ضرورياً، فإن

بعضها قد سبب انحرافاً في المنهج الذي سلكه بعض العلماء، متمثلاً في علم الكلام، الذي وقف منه علماء السلف موقفاً متشدداً، وحذروا منه تحذيراً كبيراً.

وفي هذا يقول الأستاذ سيد قطب -رحمه الله-:

(ولقد وقع في طور من أطوار التاريخ الإسلامي أن احتكت الحياة الإسلامية ...

الأصيلة المنبثقة من التصور الإسلامي الصحيح بألوان الحياة الأخرى التي وجدها

الإسلام في البلاد المفتوحة، وفيما وراءها كذلك، ثم بالثقافات السائدة في تلك البلاد.

واشتغل الناس في الرقعة الإسلامية - وقد خلت حياتهم من هموم الجهاد،

واستسلموا لموجات الرخاء ... وجدت في الوقت ذاته في حياتهم من جراء الأحداث

السياسية وغيرها مشكلات للتفكير والرأي والمذهبية - كان بعضها في وقت مبكر

منذ الخلاف المشهور بين علي ومعاوية - اشتغل الناس بالفلسفة الإغريقية

والمباحث اللاهوتية التي ترجمت إلى اللغة العربية ... ونشأ عن هذا الاشتغال -

الذي لا يخلو من طابع الترف العقلي في عهد العباسيين، وفي الأندلس أيضاً -

انحرافات واتجاهات غريبة على التصور الإسلامي الأصيل، التصور الذي جاء

ابتداءً لإنقاذ البشرية من هذه الانحرافات، ومن مثل هذه الاتجاهات، وردَّها إلى

التصور الإسلامي الإيجابي الواقعي، الذي يدفع بالطاقة كلها إلى مجال الحياة،

للبناء والتعمير، والارتفاع والتطهير، ويصون الطاقة أن تُنْفَق في الثرثرة، كما

يصون الإدراك البشري أن يُزَجَّ به في التيه بلا دليل.

ووجد جماعة من علماء المسلمين: أنه لا بد من مواجهة آثار هذا الاحتكاك

بردود وإيضاحات وجدل حول ذات الله -سبحانه - وصفاته، وحول القضاء والقدر، وحول عمل الإنسان وجزائه، وحول المعصية والتوبة.. إلى آخر المباحث التي

دار حولها الجدل في تاريخ الفكر الإسلامي، ووُجِدت الفرق المختلفة: خوارج

وشيعة ومرجئة، قدرية وجبرية، سنية ومعتزلة.. إلى آخر هذه الأسماء.

كذلك وجد بين المفكرين المسلمين من فُتِن بالفلسفة الإغريقية - وبخاصة

شروح فلسفة أرسطو - أو المعلم الأول كما يسمونه - والمباحث اللاهوتية

(الميتافيزيقية) وظنوا أن الفكر الإسلامي لا يستكمل مظاهر نضوجه واكتماله، أو

مظاهر أبُهَّته وعظمته، إلا إذا ارتدى هذا الزي - زي التفلسف والفلسفة - وكانت

له فيها مؤلفات!

وكما يفتن منا اليوم ناس بأزياء التفكير الغربية، فكذلك كانت فتنتهم بتلك

الأزياء وقتها، فحاولوا إنشاء (فلسفة إسلامية) كالفلسفة الإغريقية، وحاولوا إنشاء

علم الكلام على نسق المباحث اللاهوتية مبنية على منطق أرسطو!) [7] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015