الإسلام
توحيد المُشَرِّع ومتابعة المُبِلِّغ
د. محمد محمد بدري
جاء الإسلام - ككل دين جاء من عند الله - عقيدة وشريعة، العقيدة ثابتة لا
تتغير [اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ..] ، والشريعة في أسمى صورها
وأكملها.. فآمن بالإسلام قوم فأصبحوا مسلمين، وأبى قوم فأصبحوا في كفر
وجاهلية.. وبمرور الزمن والبعد عن عهد النبوة، ومضي القرون المفضلة وفشو
الجهل في الناس وانحسار كثير من مد الإسلام، أخذ مفهوم الإسلام في الانحسار
حتى بات عند كثير من الناس لا يعدو النطق بلا إله إلا الله، وإن لم يعمل قائلها
بمقتضاها.. وأصبح (مثقفونا) يتساءلون في استنكار: ما للإسلام والاقتصاد؟ ! ..
ما للإسلام والسياسة والحكم؟ ! .. وأصبح الفرد من عامة المسلمين يقول: لا إله
إلا الله، ثم لا يجد حرجاً أن يرى شريعة الله لم تعد هي الفيصل فيما يعرض له من
مشاكل.
ومن هنا كان من الضروري أن نبين حقيقة الإسلام الذي جاء به محمد -
صلى الله عليه وسلم وإليه دعا.. ونقيم الدليل على بديهيته الأولى وهي: توحيد
المُشرَّع، وتصديق ومتابعة المُبلَّغ - صلى الله عليه وسلم-.
1- حقيقة الإسلام وجوهره:
الإسلام هو دين الرسل جميعاً، وإن تنوعت شرائعهم ومناهجهم، كما قال
تعالى: [ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إلاَّ نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أَنَا
فَاعْبُدُونِ..] والآيات في ذلك كثيرة والأحاديث منها قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد» (صحيح البخاري، كتاب: فضائل الأنبياء) .
ولهذا كانت الكتب السماوية المتواترة عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قاطعة
أن الله لا يقبل من أحد ديناً سوى الحنيفية وهي الإسلام العام، قال تعالى: [إنَّ
الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسْلامُ..] وقال عز وجل: [ومن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَن
يُقْبَلَ مِنْهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ] .. [1]
ولفظ الإسلام يتضمن الاستسلام والانقياد، ويتضمن الإخلاص، مأخوذ من
قوله سبحانه: [ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ ورَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ] . فلا بد في الإسلام من الاستسلام لله وحده، وترك الاستسلام لما سواه،.. وهذه
حقيقة قولنا لا إله إلا الله، فمن استسلم لله ولغير الله فهو مشرك والله لا يغفر أن
يشرك به، ومن لم يستسلم له فهو مستكبر عن عبادته، وقد قال تعالى: [إنَّ الَذِينَ
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ] [2] ولذلك فإن قدم الإسلام لا
يثبت الا على ظهر التسليم والاستسلام [3] ، (والانسان أمام طريقين لا ثالث لهما،
فإما أن يختار العبودية لله، وإما أن يرفض هذه العبودية فيقع لا محالة في عبودية
لغير الله) [4] ، فإفراد الله بالعبادة هو جوهر الإسلام وحقيقته، وهو المدلول العلمي
لشهادة أن لا إله إلا الله،.. والتلقي في كيفية هذه العبادة عن رسول الله هو حقيقة
تصديقه فيما أخبر، وهو المدلول الحقيقي والعملي لشهادة أن محمداً رسول الله.
(فدين الإسلام مبني على أصلين: أن نعبد الله وحده لا شريك له، وأن نعبده
بما شرعه من الدين، وهو ما أمرت به الرسل أمر إيجاب أو استحباب) [5] ،
وهذان الأصلان هما حقيقة قولنا: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله
(ولهذا لما جاء نفر من اليهود إلى النبي فقالوا: نشهد إنك لرسول لم يكونوا مسلمين
بذلك، لأنهم قالوا ذلك على سبيل الإخبار عما في أنفسهم أي نعلم ونجزم أنك رسول
الله، قال: فلم لا تتبعوني؟ قالوا: نخاف من يهود.. فعلم أن مجرد العلم والإخبار
عنه ليس لإيمان حتى يتكلم بالإيمان على وجه الإنشماء المتضمن للالتزام والانقياد
مع تضمن ذلك الإخبار عما في أنفسهم،.. فالمنافقون قالوا مخبرين كاذبين، فكانوا
كفاراً في الباطن، وهؤلاء قالوها غير ملتزمين ولا منقادين، فكانوا كفاراً في
الظاهر والباطن، وكذلك أبو طالب قد استفاض عنه أنه كان يعلم بنبوة محمد وأنشد
عنه:
ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية ديناً.. [6]
(ولم تدخله هذه الشهادة في الإسلام، ومن تأمل ما في السير والأخبار الثابتة
من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة
وأنه صادق فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام؛ علم أن الإسلام أمر وراء ذلك،
وأنه ليس هو المعرفة فقط، ولا المعرفة والإقرار فقط، بل المعرفة والإقرار
والانقياد والتزام طاعته ودينه ظاهراً وباطناً) [7] .
فالإسلام الذي نحرص عليه، ولا نرضى بغيره ديناً، ليس مجرد تصديق
الرسول فيما أخبر بل لا بد من الإسلام من تصديق الرسول فيما أخبر وطاعته فيما
أمر ذلك أن حقيقة الإسلام (توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله
ورسوله وطاعته فيما جاء به، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم) [8] ... وهذا
أصل عظيم ينبغي معرفته لما قد لبس على الناس أصل الإسلام حتى صاروا
يدخلون في أمور عظيمة هي شرك يتنافى مع الإسلام لا يحسبونها شركاً. إن حقيقة
الإسلام وجوهره: أن لا نعبد إلا الله، وأن لا نعبده إلا بما شرع.. إن حقيقة
الإسلام: أن يستسلم العبد لله رب العالمين، ولا يستسلم لسواه.
2- الإسلام.. وتوحيد المُشَرَّع:
التشريع في الإسلام لا يكون إلا لله. ومن زعم لنفسه الحق في التشريع بغير
سلطان من الله، فقد تجاوز حد العبودية، وتطاول إلى مقام الألوهية، وجعل نفسه
نداً لله تعالى، فالمُشرّع هو الله وحده، ولا تشريع إلا ما شرعه سبحانه، قال تعالى: [أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ] فالتشريع المطلق حق
خالص لله وحده لا ينازعه في ذلك أحد كما قال تعالى: [إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ
تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ] [يوسف: 40] ، لذلك أوجبت الشريعة التحاكم إلى الشرع وجعلته
شرط الإيمان، قال تعالى: [فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ إن
كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ] ، وقال سبحانه: [ومَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ
فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ] [الشورى: 10] . (فالشرع المنزل من عند الله تعالى وهو الكتاب
والسنة الذي بعث الله به رسوله، ليس لأحد من الخلق الخروج عنه، ولا يخرج
عنه إلا كافر) .. [9]
فلا إسلام لمن منح البشر اختصاص الربوبية والرسالة من حق التشريع،
والخضوع والإذعان التام لغير الله ورسوله.. لأن معنى الإسلام - كما بينا - هو
الاستسلام لله ورسوله بالطاعة والخضوع للأوامر الصادرة منهما، ولا يصح إسلام
من يتمرد على حكم الله ورسوله. (فمعنى الإسلام: الاستسلام والطاعة لشريعة
الله،.. ومعنى عدم الاستسلام لهذه الشريعة، واتخاذ شريعة غيرها في أي جزئية من جزئيات الحياة، هو رفض للاعتراف بألوهية الله سبحانه وسلطانه، سواء كان هذا الرفض باللسان، أو بالفعل دون القول) .. [10]
بل المسلم يتبع حكم الله في كل شأن من شؤون حياته (فالحلال ما أحله الله
ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله) .. [11] .
وقبول المسلم لشرع الله هو رفض لشرع غيره.. وقبوله لأي جزئية من جزئيات
شرع غير الله هو رفض لشرع الله في هذه الجزئيات، وهذا يعني رفض شرع الله
كما قال تعالى: [قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ
اللَّهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا
اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] [آل عمران: 64] ، (ومعنى لا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من
دون الله: أي لا نطيع الأحبار فيما أحدثوا من التحريم والتحليل لأن كلا منهم
بعضنا.. بشر مثلنا وهو نظير قوله تعالى: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ورُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن
دُونِ اللَّهِ] معناه أنهم أنزلوهم منزلة ربهم في قبول تحريمهم وتحليلهم مما لم يحرمه
الله ولم يحله الله) .. [12]
وعلى هذا فالتحاكم إلى البشر عن رضى وطواعية هو خلع لربقة الإسلام من
الأعناق،.. وقبول شريعة أي بشر وتقديمها على الكتاب والسنة هو الكفر بعينه..
فالله هو المشرع وهو الحكم، وكتابه هو المهيمن،.. والناس ليس لهم مع القرآن
والسنة سوى التنفيذ والتطبيق (وقد نفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عن من لم
يحكموا النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما بينهم نفياً مؤكداً مكرراً بتكرار أداة
النفي وبالقسم، قال تعالى: [فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] .. [النساء 65] وتأمل
قوله عز وجل [فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ] فإن اسم الموصول (ما) مع صلته من صيغ
العموم عند الأصوليين وغيرهم، وهو من ناحية الأجناس والأنواع، كما أنه من
ناحية القَدْر فلا فرق بين نوع ونوع، كما أنه لا فرق بين القليل والكثير) .. [13] .
فقبول شرع الله كله، ورفض شرع سواه كله هو الإسلام وليس للإسلام حقيقة
سواه، (والرضا بالقضاء الديني الشرعي، واجب وهو أساس الإسلام وقاعدته،
فيجب على العبد أن يكون راضياً بلا حرج ولا منازعة ولا مدافعة ولا معارضة ولا
اعتراض، قال تعالى: [فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا
يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] .. فالله عز وجل أقسم أنهم لا
يؤمنون حتى يحكموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحتى يرتفع الحرج من
نفوسهم من حكمه، وحتى يسلموا لحكمه تسليماً، وهذه حقيقة الرضا بحكمه،
فالتحكيم في مقام الإسلام، وانتفاء الحرج في مقام الإيمان، والتسليم في مقام
الإحسان) [14] .
وإذا كان يكفي لإثبات الإسلام أن يتحاكم الناس إلى شريعة الله وحكم رسوله،
فإنه لا يكفي في هذا الإيمان هذا ما لم يصحبه الرضى النفسي والقبول القلبي،
وإسلام القلب والجنان في اطمئنان.. [15] ، ولا يجتمع التحاكم إلى غير شريعة
الله، أو رفض التحاكم إلى شريعة الله،.. لا يجتمع هذا أو ذاك مع الإسلام في
قلب عبد بأي حال من الأحوال (ومن رد شيئاً من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله
فهو خارج من الإسلام سواء رده من جهة الشك فيه، أو من جهة ترك القبول
والامتناع عن التسليم) [16] .. فقبول شرع الله سبحانه يتحقق بعدم رد أمر الله
عليه، وقبول شرع غيره يُعرف بعدم الرد، فإن منع من رفض ورد شريعة غير
الله الإكراه، فلا بد من كره القلب، وهذا يعني عدم مظاهرة القائمين على شريعة
غير الله.. حاكماً كان أو حزباً أو طبقة.
إن المسلم يلتزم بمقتضى إسلامه أن يتبع حكم الله في كل شأن من شؤون
حياته، قال تعالى: [ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمْراً أَن
يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] .. هذه واحدة. والثانية أن المسلم ملزم بمتابعة
الرسول فيما أمر واجتناب ما عنه نهى وزجر، قال تعالى: [ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ ومَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا] وهذا أمر عام في الأمر والنهي، والحلال والحرام،
وكذلك في الحكم والاحتكام، قال تعالى: [فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا
شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] [النساء:
65] ، فهذه الآية تجعل من أساسيات الإسلام؛ التحاكم إلى شريعة الله ومتابعة
لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي بلغها عن الله.
إن المُشرّع هو الرحمن، وليس البرلمان..
إن الشريعة هي الكتاب والسنة، وليس إرادة الأمة..
إن الإسلام عقيدة وشريعة، وشريعته هي الترجمة الواقعية لعقيدته..
إن الإسلام لا بد فيه من توحيد المُشرِّع، ومتابعة المُبَلِّغ.