العنصرية والديموقراطية الأوربية
في الميزان
د. أحمد عجاج
لم يكن يخطر أبداً في بال عائلة سعدو اللبنانية التي هربت من جحيم الحرب
الأهلية في لبنان بأنها ستواجه مأزقاً بعد اليوم. فقد حطت رحالها أخيراً في بلدة
هنكس الألمانية على نهر الراين، وشعرت للمرة الأولى منذ سنوات بالأمان
والحرية. ولكن لم يكن هذا الشعور إلا وهماً وسراباً. ففي منتصف ليل الخامس
من أكتوبر الماضي ودون سابق إنذار اشتعل منزلها وأصيبت طفلتاها اللتان لم
تتجاوزا بعد سن السادسة والثامنة بحروق خطيرة إثر هجوم قامت به العصابات
النازية الجديدة بالقنابل الحارقة عليها. وسبب الهجوم بسيط جداً وهو أن تلك العائلة
لا تنتسب إلى الجنس الألماني العظيم!
وعائلة سعدو ليست إلا واحدة من عدة عائلات تعرضت إلى ما هو أفظع
وأشنع من ذلك بكثير على يد تلك المجموعات النازية الجديدة التي تطالب بتطهير
ألمانيا من الغرباء الذين يشوهون منظرها ويزيدون أعباءها.
إن تصاعد الخطاب العنصري في ألمانيا وغيرها من البلدان الأوربية ليس
بحد ذاته حدثاً عابراً أو أمراً عارضاً بل هو يلمس جوهر السياسة الأوربية الجديدة
في تعاملها المستقبلي مع الأقليات الموجودة على الأراضي الأوربية. ففرنسا تجد
نفسها أمام تصاعد نجم العنصري (ماري لوبان) وألمانيا تقف عاجزة أمام موجات
العنف التي يشنها المتطرفون ضد الأقليات واللاجئين من العالم الثالث، وبريطانيا
تعرب عن قلقها إزاء تصاعد نشاط الجبهة القومية البريطانية، وسويسرا درة
الغرب تحاول أن تتجنب تلك الموجات العنصرية المشينة.
وأوربا تعيش الآن مرحلة خطيرة من تاريخها الحديث الذي لا يختلف بنتائجه
وآثاره عن تلك المرحلة المظلمة التي استساغت فيها أوربا استبعاد الشعوب
واستغلال طاقاتها معتمدة على تبريرات واهية ترتكز إلى اللون والدين ودرجة
التمدن. فالحملة العنصرية ضد المهاجرين، أي اللاجئين كما يطلق عليهم، بلغت
مرحلة خطيرة جداً إذ أصبح معها المهاجرون غير آمنين حتى في بيوتهم وبحاجة
دائمة لحماية من الشرطة. وتزامنت الحملة هذه مع تزايد البطالة وتدهور الوضع
الاقتصادي وتدفق أعداد هائلة من المهاجرين إلى أوربا.
وتصاعد الكراهية وموجة العداء لا ينطلقان من فراغ بل يستندان إلى مبررات
ومسببات عديدة تجد تشجيعاً وتغذية من الأحزاب العنصرية التي تعمل ليل نهار
على نشر مشروعها العنصري. فالأحزاب العنصرية لها مبادئها ومنطلقاتها الفكرية
التي ترى فيها تفوقها وأفضليتها وأصالتها وسموها على بقية الأجناس البشرية. هذه
الأحزاب والجماعات تتعامل مع موضوع المهاجرين من زاوية عنصرية بحتة.
فهي ترى في وجودهم على أرضها تشويهاً لجمال بلادها وخطوة خطيرة نحو زوال
نفوذها وسيطرتها وطمساً لحضارتها العظيمة. ولم لا وهي تعتقد بأن أولئك
المهاجرين لا يتمتعون بأي رصيد حضاري ولا همّ لهم سوى الاستيلاء على المدن
الراقية وصبغها بلونهم شأنهم في ذلك شأن البرابرة. فأكثر ما يزعج تلك الجماعات
العنصرية وجود أقليات كثيرة في مدنها الراقية مما يغير من طبيعتها ونمطها. لذا
يطلقون على مرسيليا الفرنسية على سبيل النكتة والتهكم بأنها (عربية أكثر من
الجزائر) نظراً لوجود أعداد هائلة فيها من المهاجرين العرب من شمال أفريقيا.
والخطورة لا تكمن في وجود تلك الأحزاب بل في أنها تعمل في جو من
الحرية وضمن إطار الديموقراطية، دون حسيب أو رقيب وضوابط وقيود.
والحرية الممنوحة لتلك الجماعات تجاوزت الحدود الممكنة التي يمكن السماح بها في
أي ديموقراطية. فقد وصل الأمر أخيراً أن تطرح الأحزاب العنصرية برامج
سياسية تدعو إلى التخلص من جميع المهاجرين سواء كانوا مواطنين أصليين أم لا
انطلاقاً من أن أوربا للأوربيين وأنه من غير المجدي والممكن أن يتعايش الجميع
فيها. فالرئيس الفرنسي السابق جيسكار ديستان وغيره من الساسة المحترمين أمثاله
لم يتورعوا عن إطلاق تصريحات عنصرية آملين من وراء ذلك أن يحصلوا على
أصوات الناخبين الفرنسيين وسحب البساط من تحت أقدام الحزب العنصري الذي
يتزعمه ماري لوبان. فقد صرح ديستان أثناء مقابلة أجرتها معه صحيفة الفيغارو
الفرنسية الواسعة الانتشار بأن من الضروري التحرك لوضع حد لهجرة أبناء العالم
الثالث مشبهاً إياها بالغزو الذي يتوجب مواجهته قبل فوات الأوان. ولم يقتصر
الأمر عند هذا الحد بل تعدى ذلك بكثير عندما أعلن رئيس وزراء فرنسا السابق
جاك شيراك في احتفال حزبي عن امتعاضه من (صخب العرب وضوضائهم) ومن
(روائحهم البشعة) [1] .
تلك التصريحات العنصرية والمليئة بالحقد والكراهية ساهمت إلى حد كبير في
زيادة روح العداء والانقسام وغذت عنصر الأنا والاستعلاء لدى المواطنين
الفرنسيين وشجعت بدورها على نمو التيارات العنصرية وبالذات الجبهة القومية
الفرنسية التي بدأت تكتسب شعبية مرموقة في صفوف الشعب الفرنسي. فالجبهة
القومية استطاعت أن تلعب ورقة المهاجرين واللاجئين بمهارة ودقة مما سمح لها أن
تفرض نفسها على الساحة السياسية كقوة لها وزنها وقيمتها. وقد وصل الأمر أخيراً
بزعيم الجبهة ماري لوبان أن يطرح برنامجاً انتخابياً يطالب فيه بطروحات تضرب
عرض الحائط جميع مقومات الديموقراطية التي يتغنى بها الفرنسيون في بلد الحرية
والإخاء والمساواة. والبرنامج يدعو إلى طرد جميع المهاجرين واللاجئين غير
الأوربيين مباشرة بعد مرور سنة على إقامتهم في فرنسا وحظر إعطاء تاشيرات
سياحية للعرب والأفارقة [2] . والتبرير المعطى هو أن الهجرة من العالم الثالث
مصدر الجرائم والبطالة والتهديد للوطن الفرنسي. وينص البرنامج على منح
الفرنسيين الأفضلية في السكن والوظائف وحرمان المهاجرين، بغض النظر عن
مدة إقامتهم، من جميع الضمانات الاجتماعية التي توفرها الديمقراطيات الحديثة
لجميع المواطنين دون تمييز يرجع إلى اللون والجنس. ورغم بشاعة البرنامج فإن
الفرنسيين وجدوا فيه إيجابيات عديدة! فقد أفاد آخر استطلاع للرأي العام أن نسبة
تأييد ماري لوبان ارتفعت من 18 إلى 32 بالمئة محرزاً في ذلك تقدماً ملموساً
وظهوراً قوياً على الساحة السياسية [3] .
والتأييد الذي يلقاه ماري لوبان يعكس مدى التردي الأخلاقي في المجتمع حيث
أصبح الجهر بالعنصرية شيئاً مقبولاً ولا يثير الخجل والحياء بل الفخر والإعجاب.
فقد أصبح الخطاب العنصري مجالاً رحباً وأرضاً خصبة للتأييد الشعبي وتعزيز
موقع الطامح إلى السلطة حتى وصل الأمر أخيراً بالرجل الثاني في الجبهة القومية
الفرنسية برونو ميغرات أن يتسائل قائلاً: (لماذا نجهد أنفسنا في الحفاظ على
أجناس الحيوانات في حين لا نلقي بالاً لاختفاء الجنس البشري من جراء الاختلاط
العام بين الأجناس البشرية المختلفة) [4] .
فلا غرابة إذن أن نرى متطرفين وعنصريين وأعمال إرهاب وعنف ضد
المهاجرين واللاجئين طالما أن الخطاب العنصري يحتل رقعة واسعة من الحياة
السياسية والاجتماعية.. ولكن ما يدعو إلى الاستغراب حقاً هو كيف تتعايش
الديموقراطية مع العنصرية؟ فالديموقراطية الغربية بما تتضمنه من أفكار ومبادئ
تتنافى كلياً مع ما تطرحه العنصرية، والاختلاف بينهما كبير بمقدار ما هو بين
الماء والنار. فالدول الغربية بالذات تطالب دولاً أخرى باستمرار أن تحترم حقوق
الإنسان وأن تنتهج المنهاج المثالي في التعامل مع مواطنيها وتتزعم دائماً المؤتمرات
والمجالس الدولية رافعة الصوت عالياً باحترام حقوق الإنسان وتوفير الأمن
والرفاهية للجميع دون استثناء لكن دون أن تكلف نفسها عناء النظر في ما يجري
على أراضيها من حدث وخطاب سياسي. فظاهرة تفشي العداء والتطرف ضد
المهاجرين قلما تجد تأنيباً من نخب الغرب الحاكمة إن لم تجد أحياناً تشجيعاً كما هو
الحال في فرنسا وألمانيا. وهذه المفارقة تكشف في جوهرها حقيقة الديموقراطية
التي ملأ صيتها الآفاق وانتشر في أرجاء المعمورة.
إن كانت الديموقراطية كما يزعم بأنها من أنجح الأدوية وأفضل الطرق لرص
صفوف المجتمع وصهر طاقاته فإن نموذجها الغربي المطبق لم يحقق حتى الآن إلا
نجاحاً نسبياً. وإلا لما طرح لوبان مشروعه، ولما قال شيراك بأن العرب رائحتهم
كريهة ولا تعرضت عائلة سعدو للحرق. فالديموقراطية بمثالها الغربي لا يمكن أبداً
أن تنجح في توحيد المجتمع وصهر طاقاته البشرية ولم أجناسه المتنوعة في بوتقة
واحدة. والسبب يكمن في كيان الديموقراطية الغربية ذاته القائم على الحرية الفردية
المنفلت من كل قيد أو ضابط أخلاقي واللاهث وراء الإشباع المادي دون سواه.
فإذا ما توفرت العناصر المادية ولوازمها يمكن للمجتمع آنذاك أن يعيش نسبياً نوعاً
من الأمان والاستقرار الاجتماعي. ففي الماضي غير البعيد انتجت ديمقراطية
الغرب - عندما تردت الأوضاع وساءت الأحوال الاقتصادية - نازية هتلر
وفاشستية موسوليني.
الثابت أن المجتمع الذي لا يتمتع بالمناعة الأخلاقية والمثل العليا غير قادر
على معايشة حقوق الإنسان واحترام الآخرين عندما يواجه انحساراً وضموراً في
وفرته الاقتصادية. وهذا بالطبع ليس شيئاً غريباً لأن الفرد الذي تربى على تأليه
المال والمبادرة الفردية الصرفة في الإنتاج واعتاد الوفرة والبذخ في العيش لا يمكنه
أن يتنازل عن مكتسباته برحابة صدر وابتسام. بل يتطلع دائماً إلى كبش فداء
لتحميله وزر الضائقة وإنزال سخطه وغضبه عليه. وهو بسعيه هذا يتمتع بحصانة
تحول دون معاقبته لأن السلطة ذاتها بحاجة إلى دعمه ودعم أمثاله، وترى في
أعمال كهذه منفذاً للتهرب من مسؤولياتها وفشلها في إدارة البلاد. والسلطة في
مواجهة أزمات كتلك ترتكز على أهمية ضمان الوحدة الاجتماعية التي لا تتحقق
بنظرها إلا بتوفر عنصرين هما: الأمن الداخلي وتنفيذ مشروع الاندماج.
والمقصود بعبارة الأمن الداخلي هو إقفال البوابة الأوربية في وجه الآلاف من
المهاجرين الذين ضاقت بهم بلادهم وخرجوا منها قهراً أو بحثاً عن مصدر رزق
جديد. وعبارة الاندماج تتطلب من المهاجرين واللاجئين الانسلاخ عن ذاتهم
وتقاليدهم استعداداً لتقمص هوية جديدة لم يعرفوها أو يألفوها من قبل. وفي كلا
المطلبين تصبح الديموقراطية بلا معنى ويخسر المهاجرون واللاجئون حقوقهم
الإنسانية.
فالديموقراطية والعنصرية يصعب تعايشهما معاً، إلا أن تعيش واحدة على
حساب الأخرى. إذ لا يعقل أبداً أن تحرق عائلة سعدو وتذبح عائلة رومانية أخرى
دون أن يعتقل الجاني أو تغلق مراكز الجماعات العنصرية وتمنع شعاراتها التي
تتنافى مع أبسط حقوق الإنسان. فالديموقراطية الحقة التي نعرفها لا تستقيم إلا إذا
عاشت عائلة سعدو بأمان وسجن قاتلو العائلة الرومانية وأقفلت أبواب الأحزاب
والجماعات العنصرية إلى غير رجعة.