عثمان جمعة ضميرية
-1-
اقتضت حكمة الله وإرادته أن يجعل آدم وذريته خلفاء في الأرض، ليقوموا
بعمارتها وفق منهج الله تعالى وشريعته، فيحققوا بذلك غاية وجودهم، توحيداً لله
وعبادة له وطاعة؛ حيث قال -سبحانه وتعالى-:
[وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] [البقرة: 30] .
[وهُوَ الَذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ ورَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ
فِي مَا آتَاكُمْ] [الأنعام: 165]
ولما أهبط الله تعالى آدم إلى الأرض لم يتركه لنفسه أو لعقله، فهو يحتاج إلى
عناية ورعاية، ويحتاج إلى منهج وهداية، وقد أكرمه الله تعالى بذلك، فأنزل عليه
الهداية الربانية والمنهج الذي تستقيم به حياته:
[قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * والَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ] [البقرة: 38 - 39] .
-2-
ومنذ أن أوجد الله تعالى البشر فطرهم على التوحيد والإيمان بالله تعالى،
وأخذ عليهم العهد والميثاق، مذ كانوا ذريَّة في ظهور آبائهم، ولذلك يأمرهم أن
يقيموا وجوههم لله، وأن يخلصوا دينهم له، فإنه مقتضى الفطرة، وتحقيق للعهد،
وأداء للشهادة التي أشهدهم عليها:
[فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ
اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] [الروم: 30] .
وعلى هذه الفطرة والتوحيد كانت البشرية الأولى قبل أن يقع الانحراف،
كانت على التوحيد والإسلام من وقت آدم إلى مبعث نوح، وكان بينها عشرة قرون، كلهم على شريعة واحدة من الحق والهدى، ثم اختلفوا في زمن نوح فبعث الله
تعالى إليهم نوحاً، فكان أول رسول، ثم بعث الله بعده النبيين:
[كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ ومُنذِرِينَ وأَنزَلَ مَعَهُمُ
الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ومَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلاَّ الَذِينَ أُوتُوهُ مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ
بِإذْنِهِ واللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] [البقرة 213] .
-3-
ولا تستقيم حياة البشر إلا ببعثة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - فهي
ضرورية للعباد، لا يستغنون عنها، فهي بمثابة الروح للحياة والنور للهداية
والإبصار، ولذلك سمى الله تعالى ما أوحاه إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم -:
روحاً ونوراً، فقال: [وكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ
ولا الإيمَانُ ولَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا] [الشورى: 52] .
ولذلك بعث الله تعالى الرسل تترى، كلما ضلَّت أمة بعث الله تعالى إليها
رسولاً، يقيم عليها الحجة ويقطع العذر، ويبشرها وينذرها: [إنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ
بَشِيراً ونَذِيراً وإن مِّنْ أُمَّةٍ إلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ] [فاطر 24] .
وهؤلاء الرسل هم الذين يحملون الشرائع للناس ويبينونها لهم، ويبلِّغونهم
البلاغ المبين، فيعرّفون الناس بربهم معرفة صحيحة صادقة، ويضبطون حركتهم
الفكرية والعلمية بضوابط الوحي الإلهي؛ إذ لا تستطيع العقول البشرية - مهما
ارتقت - أن تستقلَّ بمعرفة ما ينبغي معرفته من مصالحهم العاجلة والآجلة، ولا
تستطيع معرفة أمور الغيب المحجوبة عنها، ولا الأمور الدينية على وجه التفصيل. وهم أيضاً: القدوة الصالحة التي تتأسى بها البشرية، ولهم الأثر الباقي الخالد في
الحياة. وهم سبب كل خير، وبرسالتهم ودعوتهم تقوم الحضارات.
-4-
ولما بلغ الكتاب أجله، قضت حكمة الله تعالى أن تختم رسالات السماء برسالة
نبينا - صلى الله عليه وسلم -، فلا رسالة بعد رسالته، ولا نبي بعده. وهذا
يقتضي أن تكون دعوته خطاباً عاماً موجهاً للناس جميعاً، وأن يكمل الله تعالى بها
الدين، وأن يتم بها النعمة ويجعلها ظاهرة على الأديان كلها ناسخة لها. وقد كان
ذلك كله، فأصبحت هذه الأمور خصائص لهذه الرسالة التي تكفل الله بحفظها عندما
تكفل بحفظ أصلها المنزل حين قال: [إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]
[الحجر: 9] ، ولذا فهو كتاب [لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ولا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ
مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ] [فصلت: 42] .
-5-
ونهض رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، بأعباء الدعوة وصدع بها،
منذ أن أمره الله تعالى بذلك، واستمر نزول الوحي عليه في مكة المكرمة ثلاثة
عشر عاماً، لم يعرف لها التاريخ مثيلاً في الدعوة والتجرد والإخلاص والتفاني،
والصبر والجهاد والمجاهدة، والتربية الإيمانية العميقة. فنشأت - عندئذ - القاعدة
الصُّلبة التي رباها النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى عينه، يقود خطاها الوحي
الإلهي في كل لحظة من اللحظات، ويأخذ بيدها لتكون على الجادة من الطريق
الطويل.. ثم انتقل بها إلى المدينة حيث تجد التطبيق العملي لمبادئ الإسلام كاملة،
بعد أن أراد الله تعالى لأهلها الخير، فساقهم ليبايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم -
بيعة العقبة التي كانت حجر الأساس في بناء الدولة الإسلامية، التي عمل النبي -
صلى الله عليه وسلم - لإقامتها بوحي من ربه -تبارك وتعالى-.
كل هذا، والصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- يتلقّون من النبي - صلى الله
عليه وسلم - أحكام هذا الدين وتعاليمه وآدابه: فيما يتعلق بالإيمان ومعرفة الله
سبحانه، وما ينبغي له من الطاعة، وفي كيفية العبادة وأداء الشعائر، وفي شتى
أنواع المعاملات ومناشط الحياة الفردية والاجتماعية، وفي جوانب الأخلاق والآداب
والسلوك، ثم في علاقة الأمة بغيرها من الأمم الأخرى.. كل هذا دون أن يكون
هناك تقسيم لهذه الأحكام أو تصنيف لها أو تبويب على أساس أن هذا عقيدة وذاك
فقه وعبادة، والثالث اقتصاد أو سياسة.. إلى غير ذلك من هذه التقسيمات
الحادثة - اليوم - للضرورة، ودون أن يكون هناك تفريق بينها في الالتزام بها والعمل بمقتضاها. فهي كلها أحكام منزلة من الله، ينبغي عليهم أن يتلقوها بالتسليم، وأن يسارعوا إلى الامتثال والالتزام بها والتفاعل معها، ليحققوا بذلك مقتضى إيمانهم بالله واستسلامهم لشرعه ودينه.
ولذلك نجد الإسلام والإيمان والإحسان في سياق واحد يعبِّر عن الدين كله،
كما في حديث جبريل الذي رواه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب - رضي الله
عنه - وفيه جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الإسلام اسماً لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسماً لما في من الاعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من
الإيمان، أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك كله تفصيل لجملة هي كلها
شيء واحد وجماعها الدين، ولذلك قال: (إنه جبريل جاءكم يعلمكم دينكم) .
وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يدعو لهذا الدين بجملته، لأنه
لا يقوم بدين الله إلا من أحاطه من جميع جوانبه، كما قال -عليه الصلاة والسلام-
لجماعة من شيبان بعد أن عرض عليهم الإسلام. وهو ما يشير إليه جوابه لوفد
ثقيف عندما وفدوا عليه، وغدوا عليه أياماً، وهو يدعوهم للإسلام كله دون أن
يكون هناك استجابة لبعض ما يريدونه من مسامحة في أمور بعينها يريدونها!
-6-
فالدين الإسلامي - بما أنه منهج إلهي للبشر ينبغي أن يصرّف حياتهم
ويوجهها - يشمل جانبين اثنين، تتفرع عنهما سائر الجوانب الأخرى وتعود إليهما:
الجانب الأول: الأصول الاعتقادية، أو الأساس النظري الذي يشكل القاعدة
الأساسية في بناء هذا الدين، ومنه ينطلق المؤمن، ويضبط حركته كلها بضوابطه، ويوجه سلوكه وأعماله بمقتضاه، وهو يفسِّر له أصل نشأة الإنسان وغايته مصيره
ويحدد علاقته بالوجود كله من الحياة والأحياء بعد أن يحدد له صلة بالله تعالى.
وهذا الجانب هو العقيدة التي تقوم على أصول نسميها أصول الإيمان وأركانه، مما يجب أن يعتقد به المؤمن ويصدق به.. وتسمى الأحكام المتعلقة بهذه النواحي
أحكاماً أصلية أو اعتقادية.
والجانب الثاني: هو النظام الذي ينبثق عن تلك الأصول الاعتقادية ويقوم
عليها، ويجعل لهذه الأصول صورة واقعية متمثلة في حياة البشر الواقعية.، لذا
فهو يحدد للمكلفين حدوداً في أقوالهم وأفعالهم - كما يقول الشاطبي -رحمه الله -
فيبين كيفية عمل المكلف، والإتيان به على الوجه الذي أمر به الشرع؛ في الشعائر
التعبدية والنظام الاجتماعي، ونظام الأسرة، والنظام الاقتصادي وفي قواعد
الأخلاق.. وفي كل ما من شأنه تنظيم حياة الناس وارتباطاتهم وعلاقاتهم.. وتسمى
الأحكام المتعلقة بهذه الجوانب كلها: أحكاماً فرعية أو عملية، لأنها عمل متفرع عن
الاعتقاد.
والعلم المتعلق بالجانب الأول من هذين الجانبين يسمى علم العقيدة أو أصول
الدين. والعلم المتعلق بالجانب الثاني يسمى علم الشرائع والأحكام، لأنها لا تستفاد
إلا من جهة الشرع، ولا يسبق الفهم - عند الإطلاق - إلا إليها.
-7-
وإذا كانت العقيدة هي أصل البناء وأساسه، فإن الشريعة تنبثق عن هذا
الأصل وتقوم عليه، بحيث يكون كل حكم من أحكام السلوك الإنساني، في أي
جانب من جوانب الحياة، متفرعاً عن أصل من أصول العقيدة والإيمان ومرتبطاً به. فلا قيمة ولا استقرار لنظام لا يستند على أساس متين، كما أنه لا جدوى من
أساس ما لم نرفع فوقه بناء قوياً محكماً.
وهكذا تتعانق العقيدة والشريعة لتكوين هذا الدين الذي أكرمنا الله تعالى به،
وإن كان أحد الجانبين أعظم أهمية من الآخر، فإن العقيدة هي الجانب الأعظم الذي
أولاه الإسلام عنايته الكبرى أولاً في مكة المكرمة، وهي مرحلة الإعداد والتربية
والتكوين، ثم استمر الحديث عن هذه العقيدة عندما بدأت الأحكام تتنزل على الأمة
في المدينة، بعد أن أصبح لها وجود فعلي وكيان مستقل، بل كانت العقيدة هي
الروح الذي يسري في هذه الأحكام، فيهبها الحياة النابضة المتحركة.
وقد عرضت الأحكام الشرعية في جوانب الحياة، حتى تلك التي تبدو وكأنها
لصيقة جداً بالجانب المادي أو الجسماني البحت - من خلال العقيدة وارتبطت
بالإيمان بالله تعالى ومراقبته، وأحكام الشريعة بجملتها شاهد صادق على ذلك.
-8-
ولعله من نافلة القول، أن نؤكد مرة أخرى على أن هذه التقسيمات السالفة
للدين إلى عقيدة وشريعة وأخلاق.. إنما هي تقسيمات فنية اصطلاحية من أجل
الدراسة والمعرفة، اقتضتها ضرورة التأليف والتصنيف بعد نشأت العلوم واستقلالها
بالتدوين. ولكن الغفلة عن هذه الضرورة تركت آثاراً سيئة في حس بعض الناس
وشعورهم وواقعهم، حيث جعلتهم يظنون أنه يكفيهم أن يكونوا على عقيدة نظرية،
تستقر في قلوبهم ووجدانهم، دون أن يكون لذلك أثر في حياتهم، أو دون العمل
بمقتضيات هذه العقيدة، ويحسبون أنهم متمسكون بهذا الدين حتى لو كانوا يستمدون
تشريعاتهم في جوانب الحياة الأخرى من مصادر بشرية أو من مذاهب وأفكار أخرى
لم يأذن الله بها.
ولم تكن هذه الآثار نابعة عن التقسيم إلى عقيدة وشريعة، بحد ذاته، فإن ذلك
قسمة واقعية بيانية، وإنما كانت هذه الآثار بعد أن بهت الدين في نفوس بعض
الناس والتبست عليهم الأمور واختلفت المفاهيم. ولذلك كان من الغلو والإجحاف أن
يجعل بعض الكاتبين هذا التقسيم مخالفاً لحقيقة الدين حيث يقول: (إن ثنائية تقسيم
الدين إلى عقيدة وشريعة من أخطر الأمور التي جرّت آثاراً سيئة على ديننا الحنيف، وذلك لأن هذا التقسيم مخالف لحقيقة الدين التي تقوم على أمر واحد، وهو تأليه
الله -عز وجل- وحده..) وإن كان دافعه لهذا القول طيباً وحسناً، إذ هو يريد أن
يعيد للدين هيمنته وسيطرته على النفوس.
-9-
وبعد؛ فحسبنا هذه الإشارات السريعة التي جعلتها مدخلاً عاماً بين يدي دراسة
موجزة عن (علم العقيدة: تاريخ النشأة، وطرق التدوين) ، أعرض خطوطها
الرئيسية على صفحات (البيان) -إن شاء الله - لعل هذا الموضوع يأخذ حظَّه من
الدراسات العميقة المتخصصة على يد أحد الباحثين. ولعل بعض القراء الكرام
يصحح خطأً أو يقوّم اعوجاجاً أو يقترح منهجاً للبحث فيما سأعرضه في هذه
الصفحات المنتزعة من تلك الدراسة التي أشرت إليها.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.