د. عبد الله عمر سلطان
حينما اندلعت أحداث براغ، ثورة شعبية في وجه المتسلطين من رفاق الحزب
الشيوعي؛ خلّد دعاة الديموقراطية الغربية أحداث تلك الانتفاضة الجماهيرية
الخاطفة من خلال القصيدة والمقال والشريط السينمائي.. ووصلنا نحن العرب
المسلمين ترجمة بعض تلك الآثار مثل (ربيع براغ) أو احتفالات طابور العمالة
البلهاء بالذكرى السنوية لما أسموه بمذبحة الحرية والكرامة والإنسانية! .. حتى
ثورة الخميني الرافضية شهدت تعاطفاً غربياً وزخماً إعلامياً هائلاً رافق تحركات
صاحب (الولاية العظمى) من النجف إلى القرى الفرنسية النائية ومن ثم إلى
شوارع طهران عبر مقعد الطائرة الفرنسية ... وكأنه شريط سينمائي أخرج
ببراعة..
أما صيف بكين ومجزرة الديموقراطية فيها فقد ولدت في عصر القرية الكونية
وبث محطة CNN (سي إن إن) ... فنقلت وكالات الأنباء والإذاعات ومحطات
التلفاز ذلك الحديث لحظة بلحظة.. ودقيقة بدقيقة.. وأخرج الإعلام الأمريكي لنا
(ثوار حرية) لم يتجاوزوا السابعة عشرة ... وفجأة.. طار (دان راذر) المذيع
الأمريكي الشهير إلى بكين وأشهد العالم (أعظم ثورة معاصرة) بل إن إقدامه
وهيامه بالديموقراطية دفعاه إلى التصدي للسلطات الصينية التي حاولت منعه من
نقل المشاعر المتفجرة والثورة العارمة ضد التسلط والظلم والقهر.. لقد برر الإعلام
الأمريكي موقفه بالقول: إن من حق الإعلام أن يعلم تفاصيل المذبحة الجماعية التي
تسحق فيها المجنزرة أجساد الأحرار الذين يدافعون عن خيارهم الحر الأوحد!
هذا الخيار الحر الأوحد تكرر مرات أخرى في باب الواد بدلاً من ساحة
(تيانمي) في بكين.. وفي عصر القرى الكونية وثورة الاتصالات الهائلة مُني
الإعلام العالمي (والعربي بالضرورة) بشلل كامل وجلطة دماغية قاتلة جعلته ينقل
للمشاهد بيانات العسكر الركيكة ويكتفي بنقل وجهة نظر الجزارين العصريين
المتدثرين ببزات عسكرية قاتمة وعقول لا تقل غلظة عن أحذيتهم الباطشة لكل فكر
طليق! !
شتاء باب الواد مرَّ بعد أن فضحت صناديق الاقتراع كل المهرجين من الساسة
والمتربصين من الثوار.. ودول الإعلام الغربي التي تشهر الديموقراطية متى
شاءت، وتتباكى على حقوق الإنسان لتتدخل هنا وهناك تزرع الدمار وتستنبت
العملاء والمشبوهين الذين أتقنوا دور الدمية المتحركة في الإطار المرسوم..
.. شتاء باب الواد.. كان حدثاً يحمل كل عناصر السبق الإعلامي وإثارة
التداعيات السياسية وتسمر المشاهد المتلهف للخبر الذي ينصف الخلية الآدمية في
وجه طلقات الرصاص وزخات المدافع الرابضة في الأزقة الضيقة بدلاً من ساحات
الوغى المفتوحة.. لكن الجزائر وثورتها لا تحمل (دان راذر) على المتابعة.. ولا
(تيدكبل) على الملاحقة الإعلامية.. فهؤلاء.. يتحركون بزاوية معينة وخطوات
محسوبة.. وإن لم يتحرك الأساتذة.. فتلاميذهم من العرب سيتفننون في الركض
من خلفهم وهم يزرعون الشائعات، ينثرون الكذب ويدافعون عن القهر والتسلط..
ويلمعون طغمة المرتشين والمتفرنسين والخارجين من توابيت الموت النضالي جثثاً
لا تحمل من الحياة قطرة ولا من المؤهلات سوى صناعة الطوب الرديء! !
ولأن الحقائق الكاملة مجهولة، فإن نصف الحقيقة، وإن جاءت متأخرة
تستحق الذكر في عصر الكذب والنفاق.. نصف الحقيقة التي نشرتها اللوس
انجلوس تايمز بقلم روبين رايت ننقلها لكم هنا، بعد أن صمت إعلامنا عن الحديث
إلا بالزور.. والاستشهاد إلا بأقوال الجناة.. والنقل إلا تدليساً.. يقول المقال:
(كانوا يشقون طريقهم عبر الطرق المتعرجة الموصلة إلى حي القصبة بهدوء،
وصلوا مترجلين إلى مبنى المسجد الذي لم يكتمل بناؤه بعد، في مجموعات من
اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، والنساء محجبات، جاءوا مشاة لأن جميع الطرق
مسدودة، يواجهون رجال الشرطة المدججين بالسلاح، لقد أصبحت صلاة الجمعة
حدثاً هاماً في الحياة الجزائرية لأن الأصوليين يستثمرونها لإبراز قوتهم، وأصبح
المسجد بصلاة الجمعة رمز النضال في وجه بطش العسكر والاختلاف معهم حول
المستقبل الحر لهذا البلد المنكوب. لقد شهدت صلاة الجمعة الفائتة والتي قدمت
دليلاً على حجم التأييد لهذه الجبهة حين تدفقت الجموع الهائلة والهادئة في نفس
الوقت حيث حرص أنصار الجبهة على الهدوء وعدم استفزاز العسكر.. لقد امتلأ
المسجد مبكراً وبدا أن ضباط ارتباط الجبهة قد انتشروا حول المسجد يوجهون
المصلين مطالبين بالسكينة التي عمت حي باب الواد.. لقد كانوا غاية في الانضباط
وقمة في التنظيم.. وحينما اقتربت الساعة من الواحدة والنصف منع البوليس
الصحفيين من الدخول إلى المنطقة وقال المسؤول بنزق: إن الصحفيين ممنوعون
من الدخول إلى الحي حتى أولئك الحاصلين على تصاريح من قبل حكومته! ! لكن
بعض الصحافيين استطاعوا التسلل لمراقبة الأحداث عن قرب.. وكنت أحدهم
حيث استضافتني أسرة في عمارة من ثمانية طوابق.. لقد كان المشهد باهراً..
حيث الناس من القصبة حتى البحر الأبيض يتابعون المنظر من سقوف منازلهم
وشرفات بيوتهم وهم يقدمون الدليل على تعاطفهم مع جبهة الإنقاذ في تجمعها هذا
اليوم.. وحينما بدأت الصلاة كان الرجال يركعون في الشوارع فيما الأمهات يحملن
أطفالهن لرؤية هذا المشهد الأخاذ لهذه الجموع الهائلة.. ولم تتردد العائلات في
إزالة أقفاص الحمام لتمكين الصحفيين من متابعة الأحداث حيث كان البعض يصور
المنظر وهو مختف تحت بطانية عتيقة، وكأن الشعب الجزائري يريد أن يؤكد بهذه
الأعمال تضامنه العميق مع الجبهة، وبمجرد أن أذن المؤذن تحول المشهد إلى ما
يشبه الاحتفال.. وصرخت امرأة في منتصف العمر (F.I.S) الحروف
الأولى الدالة بالفرنسية على جبهة الإنقاذ وأشارت إلي قائلة: (انظري إلى شعارات
الجبهة ومؤيديها.. إن الحال في كل أصقاع القطر هكذا..) وبالطبع فإن باب الواد
الحي المكتظ والممتلئ بالعاطلين عن العمل والأسر المحشورة لا يمثل استثناء..
ذلك أن التعاطف مع الجبهة يمتد إلى قطاع واسع من المجتمع الجزائري.. لا سيما
المساجد لا التي يتجاوز عددها تسعة آلاف مسجد.. وهكذا ومع شعائر الصلاة كان
تعاطف الناس ومشاعرهم يتصاعد وهم يعرضون مساعدتهم للصحفيين المتابعين..
كما فعلت فتاة في سن المراهقة حينما دافعت عنا أمام حاجز بوليس قائلة: (إنهم
جاءوا لزيارتي) .
لقد شعرنا خلال تجوالنا من بيت لبيت وسقف لسقف بشعور عميق من
التضامن.. عميق جداً بين أفراد هذا المجتمع ... كما كان شعور المسؤولية ...
والانضباط واضحاً على كافة المستويات من القاعدة حتى القيادة حيث كان عبد
القادر حشاني يخاطب المجتمعين قائلاً: (إنني أطلب منكم الهدوء وعدم مقابلة
الاستفزاز بالعنف) .. وهكذا مرت شعائر الصلاة دون عنف بل على العكس لقد
طلب الإمام من الشرطة الانضمام لأداء شعائر الصلاة طارحاً إشكالية مدى انقسام
الجيش الجزائري وإمكانية رفضه لمهاجمة أبناء شعبه! ! لقد أقدم المجلس الخماسي
بعيد الصلاة على اعتقال حشاني ومنع جميع مظاهر التعبير السلمي مهما كان السبب
أو الوقت.. لكن يبدو أن النظام الحاكم قد غفل عن حقيقة الضجر والتململ التي
بدت واضحة فوق أسطح المنازل! !) .