أثر الضعف الخلقي
في سقوط الأندلس
د. حمد السحيباني
ذكر الكاتب في المقال السابق أن مما تمخض عن انحراف المسلمين في
الأندلس عن منهج الله ثلاث نتائج: الأنانية وحب الذات، والتشبه بالعدو وتقليده،
وانتشار المجون والخلاعة، وقد تحدث في المقال السابق عن الأنانية وحب الذات،
ويتابع هنا الحديث عن النتيجتين الأخريين.
2- التشبه بالعدو وتقليده:
حينما دخل المسلمون بلاد الأندلس كانت لهم شخصيتهم الإسلامية المستقلة،
التي تميزوا بها عن غيرهم من الشعوب والأمم، وقد ظلوا خلال القرون الثلاثة
الأولى للوجود الإسلامي هناك محافظين على تلك الشخصية التي تأصلت فيها
الأخلاق والقيم النبيلة، ولكن حينما اعترى وجودهم الضعف، وعصفت بهم الفتن،
وخف الوازع الديني عند بعضهم بدأوا بالتخلي عن بعض تلك الأخلاق والتأثر
بأخلاق وعادات غريبة عليهم وعلى مجتمعهم، الأمر الذي جعل شخصيتهم
الإسلامية تأخذ بالاضمحلال ويسري فيها الضعف.
وقد أدرك هذا الأمر ابن خلدون حيث قال: (.. إذا كانت أمة تجاور أخرى
ولها الغلب عليها فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير كما هو في
الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم
والكثير من عوائدهم وأحوالهم حتى رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت،
حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء والأمر
لله) [1] .
كما ذكر ابن الخطيب أن جند مسلمي الأندلس تشبهوا بالنصارى في زيهم
وأسلحتهم [2] ، ولم يقتصر الأمر على هذا، بل إن بعض مسلمي الأندلس قلد
النصارى في الاحتفال بأعيادهم ومناسباتهم الدينية [3] .
وهناك فئة أخرى من المسلمين كانت تحضر مجالس النصارى وتشاركهم
أفراحهم، ومن هؤلاء منذر بن يحيى - صاحب سرقسطة - فقد بالغ في التشبه
بالنصارى وموالاتهم حيث كان يحضر عقود المصاهرة التي كانت تتم بين
أبنائهم [4] .
كما أن حسام الدولة يحيى بن عبد الملك - صاحب مدينة شنتمرية - كان يقلد
النصارى في اقتناء القرود حيث أهدى إليه ألفونسو السادس ملك قشتالة قرداً كان
يفتخر به على ملوك الأندلس [5] .
وقد أدى التشبه بالعدو وتقليده عند أولئك القوم أن (ذل الرئيس والمرؤوس
وافتقرت الرعية وفسدت أحوال الجميع بالكلية وزالت من النفوس الأنفة
الإسلامية) [5] .
ومما لا شك فيه أن هذا الانهزام الذي مني به المسلمون في ذلك الوقت حينما
تأثروا بالنصارى قد تمخض عنه كسر الحاجز النفسي الذي كان موجوداً عند
المسلمين إزاء العدو النصراني الأمر الذي جعل مخالطتهم أو التأسي بهم أمراً مألوفاً
عند بعض المسلمين هناك، ولهذا خرجوا إلى ميادين الجهاد وهم غير آبهين بالعدو
ولا مستعدين لحربه، وقد ترك لنا الشاعر ابن الجدّ وصفاً لأهل بلنسية وهم
خارجون لملاقاة العدو النصراني غير مبالين بالعدو ولا آخذين بالعدة حيث قال:
لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستم ... حلل الحرير عليكم ألواناً
ما كان أقبحهم وأحسنكم بها ... لو لم يكن ببطرنة [6] ما كانا [7]
هكذا زالت مهابة المسلمين عند النصارى حينما تخلوا عن أصالتهم وقيمهم
الإسلامية حيث أصبحوا حقيرين في عين العدو وأقل من أن يهتم بهم، وقد بين هذا
الأمر الفونسو السادس - ملك قشتالة - حيث قال لرسول المعتمد بن عباد لما قدم
إليه: (.. كيف أترك قوماً مجانين تسمى كل واحد منهم باسم خلفائهم وملوكهم وكل
واحد منهم لا يسل في الذب عن نفسه سيفاً.. وكيف يحل لبشر أن يقر منهم على
رعيته أحد وأن يدعها بين أيديهم سدى) [8] .
3- الخلاعة والمجون:
كان من مظاهر الضعف الخلقي عند مسلمي الأندلس في عصر ملوك
الطوائف انتشار كثير من الأوجاع الخلقية بينهم، كالمجون والخلاعة وشرب الخمر
والاستغراق في الملذات الجسدية والإكثار من الجواري والنساء حيث كان هذا الأمر
قاسماً مشتركاً بين كثير من ملوك الطوائف [9] .
وقد أسهب المؤرخون في الحديث عن هذا الأمر، فقد ذكر ابن حيان أن
قرطبة حاضرة المسلمين هناك أصبحت مرتعاً خصباً لمزاولة تلك الرذائل، حيث
كان ملوك الطوائف إذا احتاجوا إلى شيء من الملهيات يرسلون رسلهم إلى قرطبة
للبحث والتنقيب عن الأوصاف التي يريدونها من الجواري، وأنه في شوال سنة
422هـ ورد على أبي الوليد بن جهور في قرطبة رسول المظفر بن الأفطس
يلتمس شراء وصائف ملهيات يأنس بهن فوجد له صبيتين ملهيتين عند بعض التجار
واشتراهما له [10] .
كما ورد على أبي الوليد بن جهور بقرطبة من الكتب في يوم واحد كتاب من
ابن صمادح صاحب المرية يطلب فيها جارية عوادة، وكتاب من ابن عباد يطلب
جارية زامرة [11] .
وقد اشتهر المعتضد بن عباد بأنه كان (له كلف بالنساء وخلط في احباسهن
فانتهى في ذلك إلى مدى لم يبلغه أحد نظرائه) كما أن المعتمد بن عباد كان مولعاً
بالنساء حيث خلع ثمانمائة امرأة من أمهات الأولاد وجواري المتعة وإماء
الخدمة [12] .
وكان مجاهد العامري صاحب دانية والجزر الشرقية ذا شخصية مزدوجة
(فطوراً كان ناسكاً، وتارة يعود خليعاً فاتكاً لا يساتر بلهو ولا لذة، ولا يستفيق من
شراب وبطالة، ولا يأنس بشيء من الحقيقة، له ولغيره من سائر ملوك الطوائف
في ذلك أخبار مأثورة [13] ، أما هذيل بن خلف بن رزين صاحب شنتمرية فقد
كان من أرفع ملوك الطوائف همة في اقتناء القينات حيث اشترى جارية بثلاثة
آلاف دينار [14] .
هكذا غرق أولئك القوم في مستنقع الفحش والرذيلة، وقد استغل هذا الأمر بعض الوزراء والموظفين الذين رغبوا أن يستبدوا بالحكم والسلطان، فأشغلوا
حكامهم بإغراقهم في الملذات، وإشغالهم بالنساء اللائي كثرن وأخذ الكثيرات منهن
تطمح في ولاية من تربِّيه من أبناء السلطان حتى يكون لها الحظوة والغلبة [15] .
ويذكر الأمير عبد الله بن بلقين أن إشغال الحكام بالنساء كان أمراً مألوفاً عند وزراء
دولة بني بلقين في غرناطة [16] .
أما شرب الخمر في قرطبة وغيرها من بلدان ملوك الطوائف فيبدو أنه أصبح
أمراً لا غرابة فيه في ذلك العصر، ولهذا لما حاول ابن جهور منعها مدحه الشعراء
ومنهم ابن زيدون وعبد الرحمن بن سعيد المصغر [17] ، كما ذكر المقري أن وادي
اشبيلية لا يخلو من جميع أدوات الطرب وأن شرب الخمر فيه غير منكر [18] .
ولعل القارئ لدواوين الشعر في ذلك الوقت يدرك كيف أن وصف الخمرة
والتغني بها كان أمراً مألوفاً عند كثير من شعراء ذلك العصر حتى قال أحدهم [19] :
فجل حياتي من سكرها ... جرت مني الخمرة مجرى دمي
ولم يكن هذا الأمر قاصراً على فئة معينة من الناس، بل كان كثير من الناس
يقضون لياليهم أيقاظاً يجتمعون على الكؤوس حتى الصباح [20] .
وكان للطرب والغناء نصيب عند أولئك القوم حيث كانوا يتفاخرون بكثرة
آلاتها ومجيديها حيث يقولون: عند فلان عودان وثلاثة وأربعة وأكثر من ذلك [21] .
ولو حاولنا استقصاء ما ذكره المؤرخون حول الطرب والغناء في عهد ملوك
الطوائف لطال بنا المقام ولكن قد يكون من المناسب أن نكتفي بذكر ما قاله أحد
الباحثين المحدثين حول هذا الموضوع حيث قال: (فانتشرت مجالس الغناء وأصبح
هذا الفن بجملته جزءاً من ثقافة الشعب) حتى لنجد الفلاح في حقله والعامل في مصنعه والفقير في كوخه لا يقل ولع أحدهم بالغناء عن الأمراء والعظماء [22] .
وقد بدأت أعراض تلك الأوجاع التي حلت بالمجتمع الإسلامي في الأندلس في
تلك الفترة تظهر عياناً، فقد استخف بعض الناس بالدين، وتجردوا من الأخلاق
والقيم الإسلامية، ولم يعد هناك وازع من دين أو ضمير، فقد ذكر ابن حزم أن
إبراهيم بن سيار النظام رأس المعتزلة في الأندلس عشق غلاماً نصرانياً فوضع له
كتاباً في تفضيل التثليث على التوحيد تقرباً إليه [23] ، كما يذكر - أيضاً - أنه في
ذلك العصر قد عظم البلاء فهان القبيح ورق الدين حتى رضي الإنسان بالفضائح
والقبائح مقابل وصوله إلى مراده وشهوته، وقد حكى لنا كثيراً من القصص حول
هذا الموضوع منها ما ذكره حول (عبيد الله بن يحيى الأزدي المعروف بابن الحريري فإنه رضي بإهمال داره وإباحة حريمه والتعريض بأهله طمعاً في الحصول على بغيته من فتى كان علقه..) [24] .
وكان ممن غرق في مستنقع الرذيلة ولادة بنت المستكفي الأموي أعلنت
وقوعها في هذا الأمر حيث كتبت بالذهب على طرازها الأيمن [25] :
أنا والله أصلح للمعالي ... وأمشي مشيتي وأتيه فيها
وكتبت على الطراز الأيسر:
وأمكن عاشقي من صحن خدي ... وأعطي قبلتي من يشتهيها
هذه أهم مظاهر الضعف في الجانب الخلقي التي حلت بالمجتمع الإسلامي في
عهد ملوك الطوائف، وقد انعكست آثار ذلك على قوة المسلمين فأضعفتها.
ومما لا شك فيه أن هذا الضعف الذي مني به ملوك الطوائف قد جعل مسلمي
الأندلس يصابون بخيبة أمل لأنهم أدركوا أن زمام الموقف أصبح بيد النصارى
المتربصين، وقد عبر عن هذا الشعور الشاعر الأندلسي ابن العسال حينما
قال [26] :
حثوا رواحلكم يا أهل أندلس ... فما المقام بها إلا من الغلط
السلك ينثر من أطرافه وأرى ... سلك الجزيرة منثوراً من الوسط
من جاور الشر لا يأمن عواقبه ... كيف الحياةُ مع الحيّاتِ في سفط
ولم يكن هذا الشعور قاصراً على المسلمين بل تعداهم إلى العدو النصراني
الذي أدرك أن حصون المسلمين الداخلية قد ضعفت وأن الفرصة أصبحت مهيأة له
لدخول الثغور والحصون الخارجية ولهذا وضع خطة حربية تتناسب مع ذلك الواقع
وقد أبان هذه الاستراتيجية الحربية فرناندو بن شانجه ملك جليقية أثناء حصار
النصارى لمدينة طليطلة سنة 478 هـ حيث قال لأهلها الذين خرجوا يطلبون
الصلح معه لما أعيتهم المقاومة: ( ... ما أجيبكم إلى سلم، ولا أعفيكم من حرب..
فإنما نطلب بلادنا التي غلبتمونا عليها قديماً في أول أمركم فقد سكنتموها ما قضي
لكم، وقد نصرنا الآن عليكم برداءتكم، فارحلوا إلى عدوتكم - يعني بلاد
المغرب - واتركوا لنا بلادنا، فلا خير في سكناكم معنا بعد اليوم [27] ...
(كما أبانها الفونسو السادس - ملك قشتالة - حيث قال لرسول المعتمد بن عباد حينما قدم إليه كيف أترك قوماً مجانين [28] .
وقد صرح بتلك النوايا والخطط الفونسو السادس ششنندو (مسنندو) حيث يذكر
الأمير عبد الله بن بلقين - أحد ملوك الطوائف - في مذكراته أن هذا الوزير
النصراني قال لمسلمي غرناطة قبيل سقوط مدينة طليطلة بأيدي النصارى سنة
478 هـ (1085 م) (إنما كانت الأندلس للروم في أول الأمر حتى غلبهم العرب
وألحقوهم بأنخس البقاع جليقية فهم الآن عند التمكن طامعين بأخذ ظلاماتهم فلا
يصح ذلك إلا بضعف الحال والمطاولة حتى إذا لم يبق مال ولا رجال أخذناها بلا
تكلف) [29] .
هكذا كشر النصارى عن أنيابهم العدائية فأبانوا خططهم. ونواياهم ضد
الإسلام والمسلمين هناك، كما بدأوا بعملياتهم الحربية والتي اسموها بحرب
الاسترداد، حيث تمكنوا خلالها من اجتياح العديد من المدن والثغور الإسلامية ومن
أهمها مدينة قلمرية وبربشتر سنة 456 هـ (1046 هـ) وطليطلة سنة
478 هـ (1085 م) ثم بلنسية سنة 487 هـ (1094 م) [30] .
وبعد هذا العرض السريع فإنه بوسعنا أن نقول: إن العد التنازلي للوجود
الإسلامي بالأندلس قد بدأ منذ عهد ملوك الطوائف الذين حادوا في كثير من
تصرفاتهم عن الخط الإسلامي، وإن هذا الضعف الذي مني به المسلمون هناك هو
المرحلة المبكرة من مراحل سقوط بلاد الأندلس لأن المراحل التالية تعتبر امتداداً لها
من حيث المسببات والنتائج.