الحركة الإسلامية
بين العاطفة والمنهج
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
شهدت العقود الأخيرة انتشاراً واسعاً للإسلام خاصة بعد سقوط الأقنعة،
وإفلاس منطق الزيف، وتهافت الشعارات النفعية التي جرّت الأمة من نكسة إلى
أخرى. وانخرط في صفوف الحركة الإسلامية عدد كبير من الناس على شتى
المستويات العلمية والثقافية، وظهرت آثار الصحوة المباركة في كل مكان بحمد الله
وفضله.
وبدأ هذا المد يتنامى بصورة مذهلة ونجحت الحركة الإسلامية في كسب
الشعوب وتحريكها لتبني الراية الإسلامية.. ولكن ماذا بعد ذلك..؟ ! هل
استطاعت الحركة الإسلامية احتواء هذه الألوف من المنتمين إليها؟ ! هل
استطاعت أن تنتقل بهم من المرحلة العاطفية إلى مرحلة أكثر نضوجاً وعمقاً؟ !
هل قدمت المناهج الشرعية، والبرامج العلمية لتربية هذه الأجيال؟ !
للأسف الشديد استطاعت الحركة الإسلامية في العالم الإسلامي أن تنتج رجالاً صالحين في أنفسهم ... لكنها لم تنجح النجاح الذي نتطلع إليه في إنتاج رجال ناضجين عاملين، يسعون بكل عزة لإنقاذ الأمة من كبوتها.
ولا شك في أن الشعوب في منطقتنا الإسلامية محبة للإسلام بفطرتها، وتستجيب استجابة عاطفية سريعة للنداءات المخلصة من رجالات الدعوة. لكن العاطفة وحدها لا يمكن أن تبني الأمم أو تحرر الشعوب. وإن اعتماد الحركة الإسلامية على عاطفة الجماهير وحدها سوف يؤدي مع مرور الوقت إلى ضمور هذه العاطفة وتآكلها، حتى إذا أردناها لم نجدها ... ! ! ولعل في تاريخ الحركة
الإسلامية المعاصرة ما يؤكد ذلك.
إذا فالعاطفة هي بداية الطريق وليست نهايته.. العاطفة الإسلامية هي
المنطلق الذي تنطلق منه الدعوات ... ثم يتبع ذلك عملية أكثر تعقيداً وصعوبة،
وأكثر أهمية وخطورة. وهي مرحلة التربية والإعداد.. مرحلة بلورة الفكر
المنهجي لأبناء المسلمين بعيداً عن العشوائية والارتجال، وبعيداً عن التقليد لشيخ أو
العبودية لحزب ... مرحلة ترشيد هذه النفوس المؤمنة بخطط علمية مدروسة،
ومناهج شرعيه مؤصلة، تقودهم إلى فهم واع موضوعي بأصول الإسلام ومنابعه
الكريمة، مبرأة من الآراء والتصورات البشرية، وخالية من الفلسفات والنحل
المادية، وتقدم لها أيضاً رؤية واضحة ناضجة لواقع الأمة الإسلامية بخلفياته
السياسية والاقتصادية والاجتماعية وسبيل النهوض بها.
من مشكلة الصحوة الإسلامية أنها لا تتحرك وفق استراتيجيات ثابتة ومحكمة، تستشرف فيها آفاق المستقبل. بل لا زالت تنطلق بوحي من الخطب الحماسية
والأطروحات الوعظية ... ولا تتجاوزها إلى غيرها. وأنا لا أنكر أهمية ذلك..
لكن لا يجوز الاقتصار عليها، لأنها سوف تولد مع مرور الوقت أجيالاً هشة، ليس
لها القدرة على الوقوف أمام الشبهات والفتن التي تحيط بها من كل جانب، خاصة
في العصر الذي اختلطت فيه الثقافات، وكشر الأعداء فيه عن أنيابهم.
ليس ضعف أمتنا بسبب قلة عددنا، ولكن بسبب الغثائية التي أنهكتها
وأصبحت تخدعنا عند الأزمات. وصدق في حقنا رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - (الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة) . وكما قال الشاعر:
يُثقلون الأرض من كثرتهم ... ثمَّ لا يُغنون في أمر جلل
إن ضعفنا بسبب التمزق الفكري والعبث المنهجي الذي نتخبط فيه، حتى
أصبحت معالم هويتنا هلامية باهتة في كثير من جوانبها لا نكاد نميزها على
الإطلاق.
وإن غياب المنهج الشرعي الأصيل، وفقدان الضوابط العلمية، واضطراب
المقاييس الشرعية؛ تؤدي حتماً إلى خلل فكري يحول طاقاتنا إلى طاقات مبعثرة
هزيلة، تنتهي بالأمة إلى الحيرة والقلق. والنجاح الحقيقي - الذي تشرئب له
الأعناق، وتتطلع له الأفئدة - مستحيل بدون بذل غاية الجهد لتأصيل العقلية
المسلمة تأصيلاً علمياً متكاملاً، لترتفع بهمومها وتطلعاتها إلى مستوى المرحلة التي
تعيشها الأمة. والحركة الإسلامية بشتى فصائلها مطالبة بأن تجعل ذلك من أولويات
البناء الذي تقوم به. ومعلوم أن هذا لن يتم في يوم وليلة، كما أن رجلاً واحداً لن
يستطيع القيام به وحده. بل يحتاج الأمر إلى جهود علمية كبيرة، ودراسات تربوية
مستفيضة.
والمسؤولون عن الصحوة الإسلامية ليسوا أفراداً مهما بلغت منازلهم، فدين
الله ليس حكراً على أحد، ولكنه بعث عام يساهم فيه جميع المؤمنين، وكل واحد
منا له قيمته في دفع عجلة المسيرة الإسلامية، لكنه يكتسب قيمته الحقيقية حينما
يسخر كل ملكاته وقدراته في خدمة مبدئه، ويفجر كل الإمكانات الكامنة في نفسه
ليطوعها في مجالات الإبداع والعطاء لخدمة هذا الدين الحنيف.
علينا أن نفكر في أنفسنا جيداً، وسوف نجد أننا بقليل من الحزم، وقليل من
الطموح، وكثير من الإخلاص، نستطيع أن ننجز أعمالاً عظيمة ما كنا نتوقعها.
والمهم أن نبدأ.. أن نبدأ بروح واثقة وعزيمة صادقة، وسوف نكتشف في أنفسنا
أشياء كثيرة لم نكن نعرفها. وسنخطيء كثيراً، لكننا سنستفيد من أخطائنا، وعندها
نجد أن الأبواب بدت مشرعة أمامنا تدعونا لمزيد من البذل والتضحية..
[وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ] .