الافتتاحية
إن ما يجري في المنطقة العربية من إبعاد للإسلام وأهله خاصة عندما يكون
له التأثير والفاعلية، وبشكل صفيق ومكشوف، وبتحد واضح لمشاعر المسلمين،
هذا الإبعاد قد لا يحتمله إنسان إلا أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان، عامراً بالثقة بالله
ونصره، ينظر إلى الأمور دائماً نظرة التفاؤل ويعتبر أن هذه الأحداث إنما هي
إرهاصات وابتلاءات حتى يقوى عود المسلمين ويشتد ساعدهم ويزدادوا خبرة
وحكمة.
ليست هذه صرخة عاطفية، فالتكالب الذي يدور على المسلمين من البعداء
والأقرباء لا بد أن يقابله استثارة الهمم والعزائم وفتح الأعين والآذان، وإصغاء
القلوب والعقول، والتفكير جدياً بما يجري، فالرئيس الفرنسي (ميتران) يناقش
موضوع تصاعد الموجة الأصولية الإسلامية في المنطقة وخطورتها على استقرار
دول المنطقة عموماً فهل هناك تدخل في شؤون الآخرين أشد من هذا، وهل هناك
أسوأ من تصوير المسلمين بأنهم (برابرة متوحشين) خطرين على استقرار
المنطقة! ؟ وهل المنطقة مستقرة بالأحزاب العلمانية والدكتاتورية العسكرية؟ !
ألا يحق لنا أن نصرخ بها والمنطقة العربية تعيش من عشرات السنين في
دوامة القهر والتخلف والحروب الأهلية الطاحنة: لماذا هذه المنطقة بالذات يجب أن
تعيش الاستبداد والفقر والتفرقة، ويتسلط عليها العساكر إرضاء لأعداء الله وتمسكاً
بالسلطة، وتحطيماً لقدرات الشعب ونفسياته، كيف يُسخَّر هؤلاء لهذه المهمة القذرة، وكيف تربوا على هذه النفسية اللا إنسانية، ألا تستحق ظاهرة الجيوش هذه أن
تدرس، ولماذا يخالفون أوامر الله ولا يشعرون بالمسؤولية قبل أن يضربوا إخوانهم
المسلمين، أم أنهم كما صرحت مندوبة الولايات المتحدة في هيئة الأمم المتحدة
عندما سئلت عن سبب دعم بلادها لأنظمة قمعية، فأجابت: (صحيح إنهم
دكتاتوريون ولكنهم ديكتاتوريونا) [1] .
ألا يحق لنا أن نقولها ونحن نسمع أن أقصى أماني الوفد الفلسطيني إلى ما
يسمى مؤتمر السلام هو أن يعترف به الوفد اليهودي ويجلس معه على طاولة واحدة، ويهاجر إلى إسرائيل 25 ألف طبيب و 112 ألف مهندس و 12 ألف عالم
وباحث و 170 ألف أكاديمي، ونحن في البلاد العربية نهجّر العلماء والباحثين إلى
أوربا وأمريكا، أو يقبعون في زوايا النسيان في أوطانهم، كل هذا بسبب مخالفة في
الرأي.
لماذا يسمح في الغرب لأحزاب تتسمى باسم (النصرانية) أن تحكم وفي البلاد
العربية (لا) ، وإسرائيل تقوم على أسس دينية وغيرها ممنوع، ولماذا يسمح
(للكرواتيين) بالاستقلال عن الصرب والمسلمون في (البوسنة والهرسك) غير
مسموح لهم، بل أن أوربا تساعد الصرب على ضربهم؟ !
ونحن في هذه الحالة المؤسفة نرى أن بعض المشايخ والدعاة يتباكون على
موضوع تغطية المرأة وجهها أو موضوع عدم (الاختلاط) ويعتبرون هذا من
التزمت، وكأن هذه مشكلة المسلمين الكبرى ولا يتكلمون عن الحريات التي تخنق،
والإسلام الذي يبعد، ولا على الشباب المسلم الذي يضيق عليه، لماذا يسكت هؤلاء
(الكبار) عندما يظلم إخوانهم، ويخرجون على الناس بأحاديث ومقالات يمدحون فيها
من ساعد على ظلمهم، أما الكتاب (الصحفيين) الذين يملأون الدنيا جعجعة حول
(فهمهم للإسلام) وأنهم مفكرون، هؤلاء لم نحس لهم صوتاً عندما يضرب الإسلام
في بلد من بلاد المسلمين.
إن حقوق المسلم أكبر بكثير مما نتصور، يقول علماء الفقه الإسلامي: لو
أنفقت الدولة خزينتها على فداء أسرى المسلمين من الكفار ما كان هذا كثيراً،
وعندما رجع المنصور بن أبي عامر من إحدى غزواته في شمال الأندلس قابلته
امرأة مسلمة على أبواب قرطبة وقالت له: إن ابني أسير عند النصارى ويجب
عليك أن تفديه أو تأتي به، فما دخل المنصور قرطبة ورجع بجيشه حتى فك هذا
الأسير، وليست كرامة المسلم فقط هي المحفوظة في الدول الإسلامية بل يتعداها
إلى حفظ كرامة كل مواطن، يقول ابن حزم في حق المواطنين من غير المسلمين
(أهل الذمة) : (إن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب
علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموت دون ذلك صوناً لما هو في ذمة الله
تعالى وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد
الذمة) [2] .
فإذا كان هذا في الذمي فكيف بعلماء المسلمين الذين يهانون ويضربون والأمة
الإسلامية لا تفزع لهم ولا تنادي بأعلى صوتها للمفسدين والطغاة أن كفوا أيديكم عن
الدعاة والعلماء، ولكن الحقيقة أن المسلمين بمضيعة فلا دولة تهابهم ولا أحد يحسب
حسابهم، وذلك لما تفرقوا وتحزبوا وأكثروا من الكلام وأقلوا من الأفعال ولاذ كثير
ممن يشار إليهم بالبنان في ظل مؤسسات لا تريد للإسلام عزاً، ضعفاً منهم وإيثاراً
للدنيا، ولما لم يفقهوا سنن التغيير وكيف يصلون إلى درجة من المهابة في صدور
أعداء الله.
إن وقوف الغرب بقضه وقضيضه في وجه اختيار المسلمين لدينهم، وأن
يكون حاكماً لحياتهم لهي حرب ثانية خلال أقل من سنتين، وقد علق أحد ...
الدبلوماسيين العرب على ما وقع أخيراً قائلاً: (الغرب نفسه لا يقبل بذلك ...
(الديموقراطية بالمفهوم الغربي) لأنها تعني في الحد الأدنى شيئاً من السيادة سياسياً
واقتصادياً على الأقل وليس مسموحاً أن يكون - حتى اليوم - أي موقف عربي سيد
نفسه) [3] إذن القضية ليست مع نفر قليل من العبيد الذين باعوا أوطانهم في سبيل
الجاه والمال والشهوات وأهم شيء عندهم هو إمتاع أسيادهم بكثرة المذلة، ولكن
القضية هي أننا في صراع مع الغرب، وهذا بحاجة إلى إعداد طويل وبحاجة إلى
حشد وتكتُّل والتفاف حول قيادات إسلامية راشدة عندها علم بالمصالح والمفاسد
وترجيحها، ومعرفة بسنن الله في الكون، وعلم بواقع المسلمين والعالم، والسير
ضمن هذه المتغيرات الدولية السريعة. إن كل القيادات المخلصة مدعوة للالتقاء
والتحاور حتى يصل المسلمون إلى مرحلة يسمع لهم ويهاب جانبهم. فالغرب شديد
المكر ويملك قوة مادية هائلة. وما يسمى النظام العالمي الجديد إنما يطبق على
المنطقة العربية لا سواها، وليس صحيح أن العالم سيحكم من قطب واحد،
فالمتغيرات سريعة، والصراع الاقتصادي بين أمريكا واليابان أو بين أمريكا والكتلة
الأوربية بات واضحاً، ووصل الأمر برئيس وزراء اليابان أن يصرح بأن:
(الولايات المتحدة الأمريكية بحاجة إلى الصداقة والعطف في هذا الظرف الاقتصادي ...
السياسي العصيب) [4] . وقد أغاظ هذا التصريح الأمريكيين واعتبروه تعالياً عليهم
وقد هدد أحد مستشاري البيت الأبيض سابقاً بأنه (إذا قام تكتل شرقي (اليابان ومن
حولها) فسنطلق النار على رجليه) [5] ولا يزال المسلمون - ضمن هذه
المتغيرات - يملكون أوراقاً رابحة إذا أحسنوا التصرف.
وإننا لنتسائل أخيراً، هل الذين يقفزون إلى السلطة على ظهر دبابة أو عربة
مجنزرة، هل هم وطنيون فعلاً أم إنهم أداة رخيصة بيد غيرهم، والجواب يعرفه
أقل الناس دراية بالسياسة، فهذا الهدم للأوطان وهذا التخريب الثقافي والاقتصادي
والاجتماعي لا يمكن أن يقوم به وطني فضلاً عن أن يقوم به مسلم يؤمن بالإسلام
ديناً مهيمناً. وإن إبعادهم للإسلام بحد ذاته دليل على الخيانة، لأن الإسلام هو
هوية هذه الأمة وهو مصدر عطائها وهو كل شيء.