مجله البيان (صفحة 1069)

المستقبل لمن؟

في يوم السبت السابع من رجب 1412 هـ الموافق 212/1/1992 ظهر

الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد على شاشة التلفزيون وألقى كلمة قصيرة أعلن

فيها استقالته قائلاً: إنه قرر الاستقالة لكي لا يصبح عقبة تعرقل التفكير في حل

يحفظ الوحدة الوطنية. وقال أيضاً: إن انسحابه ليس تهرباً من المسؤولية، بل

وطلب من الجزائريين أن يعتبروا ذلك تضحية. إن أخطر ما قاله هو أنه قرر

الاستقالة لكي لا يصبح عقبة تعرقل التفكير في حل يحفظ الوحدة الوطنية! ! ..

فمن الذي يهدد الوحدة الوطنية؟ ومن الذي يفكر في حل يصرح الرئيس المستقيل

أنه عقبة تعرقل هذا الحل؟ لا أظن أن الإجابة على هذه التساؤلات تحتاج إلى عناء

كبير، فإن الأمر الذي أشغل الساحة الجزائرية بل والعربية والعالمية هو فوز جبهة

الإنقاذ الإسلامية في الانتخابات الجزائرية فوزاً ساحقاً يعبر بوضوح عن حالة جديدة

تمر بها هذه الأمة للخروج من حالة الضياع والتشرذم الذي تعيشه، وعلى الرغم

من أن الأحداث في الجزائر تمر بمرحلة انتقالية يصعب التكهن بنتائجها، فإنه يجب

على كل مسلم أن يعيش مع إخوانه في آمالهم وآلامهم وتجاربهم، وألا يبخل عليهم

بما يستطيع من دعوة صالحة في ظهر الغيب، ونصيحة مشفقة خالصة مع دعمهم

بكل ما يستطيع. ومساهمة في هذا السبيل نقدم هذه القراءة المتواضعة في أحداث

الجزائر لعلها تكون عوناً على فهم الحاضر والتعامل مع المستقبل.

وجيز الأحداث:

في الأول من نوفمبر 1954 أعلن حزب جبهة التحرير الوطنية ميثاقه ومما

جاء في ذلك الإعلان:

استعادة دولة جزائرية ذات سيادة ديموقراطية واجتماعية في نطاق المبادئ

الإسلامية. وقامت حرب التحرير على أساس إسلامي شديد الوضوح، وقدم

الجزائريون التضحيات العظيمة من أجل استعادة إسلامهم وعروبتهم، حتى سميت

الجزائر بلد المليون شهيد، ولكن ما إن تم التحرير، وخرج المستعمر؛ حتى تربع

على السلطة من سرق ثمرة الجهاد، فكافأ رجاله بفتح المعتقلات والسجون لمن؟

لعملاء الاستعمار؟ لا، بل للدعاة المخلصين الذين لهم الدور الأكبر في مجاهدة

المستعمر، وقام (بن بلا) ومن بعده (بومدين) بفرض النهج الاشتراكي، وأقاموا

دولة بوليسية قائمة على الكبت والاضطهاد، مع ما صاحب ذلك من عمليات سلب

لثروات الأمة.

وفي عهد (بن جديد) الذي خلف (بومدين) لم يتغير شيء سوى ازدياد عمليات

النهب المنظمة للثروة، أو عجز الحكومة، أو قل: عدم اهتمامها بتقديم الخدمات

الأساسية للشعب المطحون، فحصلت أحداث شغب في يونيو (حزيران) 1988 م

مما أوقع مئات القتلى، واتضح فشل النظام وترهله مما أرغمه على اللعب بورقة

التعددية الحزبية، وسياسة الانفتاح والحرية، وفتح المجال لتكوين الأحزاب، ولم

تعد جبهة التحرير متفردة بالساحة السياسية، فقد تم تسجيل حوالي 58حزباً

تراوحت بين إسلامية من طرف وإلحادية من طرف آخر وكثير من اللافتات

المتنوعة في الوسط، مما يدل على شراسة الهجوم الفكري الذي تعرض له هذا

الشعب المسلم، ومن هذه الأحزاب:

1- جبهة الإنقاذ الإسلامية تم إعلانها رسمياً في مطلع 1989 م وذلك بمبادرة

من عدد من الدعاة من بينهم رئيس الجبهة الشيخ عباسي مدني، ونائبه الشيخ علي

بلحاج وللجبهة مجلس شورى يتكون من 60 عضواً.

2- حركة المجتمع الإسلامي (حماس) وتم إعلانها في ديسمبر 1990 م على

يد الشيخ محفوظ النحناح.

3- حركة النهضة الإسلامية: قام بإعلانها الشيخ عبد الله جاب الله.

4- حزب الأمة: أسسه يوسف بن خده رئيس الوزراء سابقاً، وهو يؤكد

على الأهداف الإسلامية والعربية.

5- حزب القوى الاشتراكية: (FFS) قام بتأسيسه حسين آيت أحمد عام

1989م. ويدعو إلى ضرورة فصل الدين عن الدولة، وتبني التعددية اللغوية

والثقافية بين عربية وبربرية وفرنسية (علماني بربري فرانكفوني) .

6- التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية: أسسه الدكتور سعيد سعدي وهو

حزب بربري شبيه بالحزب السابق.

7- الحركة من أجل الديموقراطية: أسسه أحمد بن بلا الرئيس السابق.

8- حزب العدالة والإصلاح: أسسه قاصدي مرباح رئيس الحكومة السابق

بعد خروجه من جبهة التحرير.

9- حزب الطليعة الجزائري (الحزب الشيوعي) .

10- حزب التجديد الجزائري.

11- الحزب الوطني للتضامن الإسلامي.

12- حزب التجمع الجزائري البومديني الإسلامي.

13- الحركة الجزائرية من أجل العدالة والتنمية.

وغيرها بالإضافة إلى جبهة التحرير الوطني التي حكمت الجزائر لمدة ثلاثين

سنة متوالية.

انتخابات الجزائر، حقائق وأرقام:

جرت الانتخابات يوم الخميس 26/12/1991 وقد بلغت نسبة التصويت

58 % من أصل 12. 2 مليون ناخب. وبلغت الأصوات الباطلة حوالي 10% وأعلن وزر الداخلية عن عدم وصول ما يقارب من مليون بطاقة انتخابية إلى أصحابها، وقد بلغ عدد الذين أدلوا بأصواتهم حوالى 7 مليون و700 ألف وهي نسبة كبيرة إذا ما قورنت بنسبة المشاركة في الدول الغربية، أما نتائج الانتخابات فقد كانت صدمة لمن أجروها ولمن أعلنوها، وتباينت ردود الفعل فقد كانت الصدمة بادية على محيا وزير الداخلية وهو يعلن الفوز الكاسح لجبهة الإنقاذ، كان متعباً وهو يقرأ النتائج بصوت متهدج، أما رئيس الوزراء فقد حلّ ضيفاً على القناة الثانية في التلفزيون الفرنسي، وقد كان شاحباً وحزيناً متلعثماً وكان يبدو تحت وقع الصدمة [1] .

وخلافاً للتوقعات التي كانت تنتظر أن تكون النسب على الشكل التالي:

* 150 مقعداً للجبهة الإسلامية.

* 120 مقعداً لجبهة التحرير.

* 70 مقعداً لجبهة القوى الاشتراكية.

* 40- 50 مقعداً للتجمع من أجل الثقافة والديموقراطية.

* 40 مقعداً للأحزاب الأخرى والمستقلين.

فقد جاءت النتائج على النحو التالي:

لقد شارك 49 حزباً من أصل 58 فازت جبهة الإنقاذ بـ 188 مقعداً من

أصل 228 وحلت جبهة القوى الاشتراكية في المركز الثاني بحصولها على 27

مقعداً، أما جبهة التحرير الوطني فقد جاءت في المرتبة الأخيرة وحصلت على 16

مقعداً فقط، والمستقلون حصلوا على 3 مقاعد.

كانت ردود الفعل متباينة، ويمكن معرفة ردود الفعل الرسمية غير المعلنة عن

طريق متابعة وسائل الإعلام، وهذه أهم ملامح التوجهات الإعلامية في تلك الفترة:

* في اليوم الأول الذي أعلن فيه الفوز الساحق لجبهة الإنقاذ بأكثرية

الأصوات لم تشر جل الصحف إلى ذلك، مع أن وكالات الأنباء نقلت هذا الفوز

الكبير. وبعد أن أفاقوا من الصدمة بدأت مرحلة التهوين من الانتصار وتحليل

أسباب انتصار الجبهة، وحيث أن حكم الإسلام غير مطروح فقد كثرت التحليلات

لكيفية الخروج من هذا المأزق وإليك بعضها:

1- التركيز على أن التصويت للجبهة كان بسبب كراهية الناس لجبهة

التحرير، وليس حباً في جبهة الإنقاذ أو كما يتولون: (ليس حباً في زيد لكن

كراهية في عمرو) وكأن الجبهة الإسلامية هي الحزب الوحيد بجانب جبهة التحرير.

2 - تبنوا طروحات الأحزاب العلمانية الجزائرية الخاسرة وادعوا أن

الانتخابات فيها الكثير من التجاوزات من جانب جبهة الإنقاذ، بل وقدمت طعون

كثيرة بصورة مبالغ فيها حيث بلغت 341 طعناً قدمت فيها جبهة التحرير 174

طعناً، وهولوا من خطورة هذه الطعون على مستقبل الجبهة حيث ستفقد أغلبية

المقاعد التي حصلت عليها، ولكن المجلس الدستوري رفض هذه الطعون وكان

على وشك إعلان ذلك ومنعه من ذلك الأحداث اللاحقة.

3- أكثروا من الكلام حول امتناع حوالي نصف الناخبين عن المشاركة وأنهم

ضد الجبهة، وأن الفرصة سانحة لتعديل النتيجة في الدور الثاني، ولكن هذا

التحليل تهافت سريعاً، حيث بدأت الأحزاب العلمانية تحذر من الخطر على

الديموقراطية عندما تحكم جبهة الإنقاذ، وطالب بعض الديموقراطيين بالغاء

الانتخابات.

4- وفي النهاية تعلقوا بالأمل الأخير لحماية الديموقراطية والحفاظ على

الدستور وهو الجيش الذي تتجاذبه النزعات الفرنسية والأمريكية.

5- ولقوة هذا الخيار فقد بدأوا بالكلام عن السيناريو والإخراج لهذا الترتيب،

حيث تحدثوا عن خلاف بين بن جديد والجيش واحتمال استقالة بن جديد، وذلك بعد

فشل الأحزاب العلمانية في محاولة جر الجبهة للاصطدام بها، ليكون ذلك ذريعة

لتدخل الجيش بدعوى حفظ النظام.

أما مراسل هيئة الإذاعة البريطانية فقد قال في سلسلة أحاديثه (الجزائر عشية

أول انتخابات حرة) إن رئيس الوزراء هو مرشح الجيش لتشكيل حكومة ائتلاف

ديموقراطي بعد الانتخابات، وفي الحلقة الثانية شكك بقبول جبهة الإنقاذ لقواعد

اللعبة الديموقراطية، وفي الحلقة الرابعة تحدث عن الجماعات الإسلامية وأشاع

دعاوى كاذبة حول إهدار الإنقاذ لدم محفوظ النحناح. وفي الحلقة الخامسة تحدث

عن آيت أحمد المتفرنس البربري وعن تكتيكه الجديد وكيف أن مرشحيه صاروا

يستعملون العربية الفصحى.

أما موقف الإعلام في شمال أفريقيا فهو كما يلي:

* بعد ظهور نتائج الانتخابات بدأت الصحافة الجزائرية الناطقة بالفرنسية

وأجهزة الإعلام الأخرى التي يسيطر عليها الشيوعيون؛ بدأوا بحملة ضارية ضد

الجبهة وتخويف الناس من مستقبلهم إذا اختاروا الجبهة، أما في المغرب فقد

التزمت الصحف الرسمية الصمت في البداية، مما يوحي بأنها لا تريد تحديد موقف

متسرع وأن الأمر متعلق بأمور داخلية، ثم تحول الأمر إلى هجوم على الأصولية.

* وفي تونس كانت الانتخابات محل اهتمام كبير لدى الأوساط السياسية

والرسمية حيث جاءت النتائج مخالفة لما توقعته من فوز جبهة التحرير، وأبدت تلك

الأوساط قلقاً صريحاً من فوز الإسلاميين في الجزائر.

* وفي مصر عكست الصحافة القلق من هذه التطورات وأهمية اتخاذ المثال

المصري للديموقراطية القائم على خنق الأفكار الإسلامية والسماح بأحزاب تحددها

السلطة سلفاً.

أما وسائل الإعلام الغربية فإنها منذ بدء الانتخابات وهي تهول وتحذر من المد

الأصولي القادم الذي سيخرب البناء الجزائري، وسيعيد البلاد إلى عصور التأخر،

ولمحت بعض الصحف من جانب آخر إلى أن وصول الإسلاميين ربما يجعلهم

يهتمون بالسلاح النووي، وفي برنامج أسبوعيات الصحافة البريطانية، الذي أذيع

في يوم الجمعة 28/6/1412 هـ (3/1/1992م) نقل البرنامج العديد من وجهات

النظر البريطانية المتشنجة وفيها صحيفة (اليوربيان) التي أسسها اليهودي

(ماكسويل) ، التي نشرت تحليلاً يثير الخوف والهلع من استلام الإسلاميين، وقالت

بأن الجيش سيتولى الحكم وسيحكم مجلس مكون من جنرالين ورائد وهم وزير

الدفاع ووزير الداخلية ورئيس الشرطة السرية حتى لا يتمكن الإسلاميون من الحكم.

أما (الايكونومست) فقالت بأن الجزائريين لن يصمتوا حيال حكم مستبد جديد

بدل حكم مستبد سابق.

أما فرنسا فقد تعاملت في البداية بحذر يعكسه ما نسب إلى الأمين العام لوزارة

الخارجية حين قال: (إن بلاده تعتبر ما تشهده الجزائر قضية داخلية فرنسية نظراً

لامتداداتها داخل فرنسا، وأضاف بأن علاقاتنا بالجزائر ثابتة لا تتأثر بعوامل

ظرفية مؤقتة) . ويوضح الخلاف الحاصل في الوقت الحاضر بين فرنسا والحكومة

الانقلابية تحسس فرنسا من عدم ثبات النظام الجديد، وبالتالي لا تريد التورط معه

في علاقة تؤثر على مستقبل العلاقات، وقد يكون الانقلاب أمريكياً يقصد منه إبعاد

الإسلاميين وأيضاً النفوذ الفرنسي، ولا ننسى انقلاب عبد الناصر الأمريكي على

النفوذ البريطاني في مصر.

الموقف الإيراني:

كانت السياسة الخارجية الإيرانية ناجحة كعادتها في محاولة توظيف الأحداث

التي تحدث في العالم الإسلامي لصالحها، وقد استفادت إيران كثيراً من قضية

سلمان رشدي رغم أنها ركبت هذه الموجة متأخرة، وكانت الرابح الأكبر من حرب

الخليج وتحطيم العراق، وها هي تستفيد مما يعانيه السودان من ضيق اقتصادى،

وهي الآن تحاول الاستفادة من أحداث الجزائر وتوظيفها لصالح النفوذ المتزايد

لشيعة إيران، حيث تظهر بمظهر الحكومة الوحيدة التي تتبنى التحولات الحاصلة

نحو الإسلام. مع أنهم في الحقيقة لا يحبذون قيام حكومة سنية في الجزائر كشأنهم

مع أفغانستان، ولكنه موقف سياسي، وقد وقع 170 نائباً إيرانياً رسالة أوضحوا

فيها دعمهم الكامل للشعب الجزائري، ولذلك وصلت الأمور بين البلدين إلى سحب

الجزائر سفيرها في طهران، ولا يسعنا هنا إلا أن نقول للإخوة في جبهة الإنقاذ:

حذار من إيران.

جبهة الإنقاذ بعد الانقلاب:

من المؤكد أن ما جرى كان احتمالاً وارداً، ولكن الجبهة استفادت من الخيار

المطروح لتثبت للعالم أن الشعوب تريد الإسلام، وأيضاً تريد إحراج أدعياء

الديموقراطية في كل مكان وبالتالي كان تعاملها مع النظام الجديد بحكمة، فقد

حرصوا على أن لا يُجَرُّوا بالاستفزاز حين بدأ النظام بحملة اعتقالات القصد منها

استفزاز الجبهة لردة فعل تكون مبرراً لضربة عنيفة، وقد توجت هذه الحملة

باعتقال الشيخ عبد القادر حشاني الرئيس المؤقت للجبهة يوم الأربعاء 18 رجب

1412 هـ (22/1/1992م) بتهمة تحريض الجيش على التمرد، وكانت هيئة

الإذاعة البريطانية قد أجرت مقابلة معه قبل اعتقاله بقليل أوضح فيها أن الجبهة لن

تتخلى عن اختيار الشعب لها.

وإننا نرجو الله -سبحانه وتعالى- أن ينصر عباده المخلصين وأن تصمد

الجبهة أمام هذه الهجمة، وأن تستمر متماسكة وتعود أقوى مما كانت، وإننا على

ثقة بنصر الله، والله غالب على أمره، ولا ننسى قوله تعالى:

[يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ولَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ..] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015