مجله البيان (صفحة 1042)

البيان الأدبي

مناهج لا كلمات

د. عبد الله عمر سلطان

(التجرد) ادعاء أم ممارسة؟ :

سؤال مطروح في أوساط المفكرين والمصلحين منذ القديم، والسؤال نفسه

يجد طريقه إلينا بصورة شاخصة قوية اليوم لا سمما ونحن نعيش عصر الانبعاث

الإسلامي اللحظة بصورة متجددة ...

وبقدم السؤال ... بأهمية الإجابة.. بحجم القضية.. وباتفاق الأطراف على

إجابة واحدة لا تدع مجالاً للمراوغة ولا مساحة للتدليس!

التجرد ممارسة وتطبيق وواقع ينطلق من قناعة ونظرية ومسلَّمة.. والتجرد

في عُرف الأمة الوسط ظل هكذا، وعاش كذلك دون أي بهرجة أو فلسفة مخلة.

التجرد يعبر عنه رجال خير القرون، ورواد أهل السنة بتلك العبارة الشهيرة: (قد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع) ... وتأملوا قصة هذا الحديث وتوقفوا لحظات قسرية أمام هذا النموذج البسيط المدهش! «عن حصين بن عبد الرحمن قال كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت أنا: ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة ولكني لُدغت. قال: فما صنعت، قلت ارتقيت، قال فما حملك على ذلك؟ قلت حديث حدثناه الشعبي ج قال: وما حدثكم؟ قلت حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: لا رُقية إلا من عين أو حُمَة قال: قد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع..، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: عُرضت عليَّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي معه الرجل والرجلان، والني ليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه فنظرت إلى سواد عظيم فقيل لي: هذه أمتك ومنهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك فقال بعضهم فلعلهم الذين صحبوا رسول

الله - صلى الله عليه وسلم - وقال بعضهم لعلهم الذين وُلدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله شيئاً.. وذكروا أشياء فخرج عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه فقال: هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون، فقام عُكاشة بن محصن فقال: ادعُ الله أن يجعلني منهم، فقال أنت منهم. ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن أكون منهم ... قال سبقك بها عكاشة» متفق عليه واللفظ لمسلم.

والحديث على ما فيه من العبر والدروس والتي لا تنقضي فإنه يمر على

أكثرنا اليوم دون توقف أمام النص المعجز.. والنبراس المضيء ... وقفة تأمل

وتتلمذ واجبة، هل نقف أمام الخوف الشديد من الرياء والتابعي الجليل يقول لمن

توهم بأنه شاهد النجم حيث كان يقوم الليل بعبارة (ولكني لدغت..، أم أمام الحوار

الدائر بين جمهرة الصحابة في القضايا المهمة وحرصهم على الخير..، أم أمام

مفهوم التوكل والأسباب؟ أم أمام ظاهرة التطير؟ كلها وقفات مهمة لكننا سنختار

موضعاً واحداً للوقوف والاعتبار.

هذا هو المنهج. التابعي الأول مجتهد محسن في عُرف أخيه، لأنه اتبع أصح

الأدلة وسار على أوضح المسالك التي كانت بين يديه.. وهذا دأبهم، في ظل مفهوم

التجرد المكرس واقعاً، لا يتخذ من الموقف السابق والدليل المرجوح إلا سلماً في

الطريق إلى الحق المطلق الثابت بصورة أوكد.

هكذا بكل تجرد.. وتواضع.. وتنازل يؤخذ بزمام الحق.. ويُتولى شطر

اليقين. مَن كان هذا دليله وذلك منهجه يفرح حقاً بالوصول إلى الأسلم ويحلق بقوة واندفاع في اتجاه جديد عليه لكنه مؤمن به كل الإيمان.. دأب صاحب هذا التوجه، التجرد مما آمن به في لحظة ثبوت الحق القاسي على النفوس التي تظن أن تبنّيها مواقف سابقة تجعلها مرتبطة آلياً بها، هكذا دون نقاش، وإن إعلان الخطأ طقس من طقوس الضلال.. الذي يجب ألا يُقترف.

خط صاحبنا التابعي يقول: اسمعوا لا شيء يقف في طريق الحقيقة سوى

النفوس المريضة والخيالات الهشة..، الحق في الثابت الصحيح وما كان طريقاً

إليه وموصلاً بحبله طريق ليس إلا ... فإذا تمسكت بمرحلة معينة وأضفت حولها

قداسة وهالة فإن هذا لا يعني أنها هي الغاية من السفر المرهق، ... الغاية هناك

حينما تصل إلى نهاية الرحلة ... لا يمكن لأعرابي مجتهد أن يزعم أن عسفان -

وهي الطريق المؤدي إلى حرم الله الآمن - هي البيت الحرام.. عسفان مع ما فيها

من رجال خير.. ومساجد عامرة مرحلة قريبة من الوصول إلى البيت العتيق ... ،

والأعرابي هذا إما أن يتنازل عن وهمه حينما يواجَه مباشرة بأنه صحيح الظن في

مساره لكنه لم يبلغ ما نذر نفسه له أو يظل مصراً على التمسك بموقفه ... ، إن

عليه في تلك اللحظة أن يتنازل عن عسفان ووهمه الجميل الذي بناه حولها ... ،

ويشار إليه إلى جبال سود يجد مكة بعدها ... فإذا قبل الأعرابي فإنه انتهى إلى ما

قد سمع ... وإذا أصر على أنه لم ير في حياته مكاناً يشبه ما تخيله أنه البلد الحرام

فإنه سيبقى في عسفان ... وتبقى مكة هي بيت الله الحرام ... بالرغم من كل

الأساطير والأحلام والرؤى التي قلبت في ذهنه عسفان حتى غدت في حسه الفطري

ما قصده حاجاً.

(قد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع) :

عبارة بسيطة، وجملة مستقطعة من الحديث ... ولكن كم هي عظيمة وعميقة

تُعلن للمسلمين على مر العصور أن القاعدة العظيمة [لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلاَّ

وسْعَهَا] [البقرة: 286]- تسري على طالب الحق كما تسري على مجتنب

الخبث ... ، ولا يسأل الله عبداً إلا ما كان في استطاعته وعلمه وتحت يده ... ، وتجعل من منهج (المجتهد المخطئ) مدخلاً عظيماً نقف نحن اليوم أمامه في مرحلة من عصور التقدم المادي وتظل الحضارة المعاصرة قاصرة عن

بلوغه..، هذه البدهيات في المنهج تحث على التجرد في حدود الممكن والمستطاع ولا تثقل كاهل الإنسان وتلقي به في دائرة المستحيل ... لكنها تصوغ في نفس الوقت الطريق الموصل من خلال التجرد المطلق للحق بلا تردد.

(قد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع) :

أمر الدين لا يؤخذ إلا هكذا في مسائل الشرع والمعتقد والتعامل اليومي! وأمام صحوة وانبعاث المسلمين اليوم تبرز ظاهرة تفرض نفسها فرضاً وتجبرنا على طرحها دون خيار.. متمثلة في تشرذم العاملين لإعادة هذا الدين حينما يغفلون عن إدراك مثل هذه القاعدة!

وحالة الانبعاث في كل عصر يصاحبها شيء من الحيرة والقلق والمحاولة

حتى تستقيم الصحوة وتصلب وتتجذر! لكن من الظلم بل من العبث أن يُضفَى على

حالات الحيرة والقلق الموصلة إلى الحق شيء من القداسة وأن يُرَشَّ من حولها

بخور الكرامة لكونها محاولة وكفى، إن حالنا اليوم يشبه عسفان وأعرابيها ... ، أن

نطلق على هذه المحاولات المجتهدة صفة الثبات والأصلية يجعلها قوالب مرعبة

ورموزاً عسفانية! وكلما تخيلنا وأطنبنا في خيرية المحاولة واجتهادها الطيب، فإنها

مرحلة ليس إلا ومحطة في الطريق إلى الهدف المنشود، ومن ادعى غير ذلك حينما

يواجَه بالنص القاطع والدليل الساطع - فإنما هو يتقوقع في دثور الاعرابي الذي

ظل يصرخ: وهذه المساجد، وتلك النفوس المؤمنة أليست هي بكة أم القرى؟ ؟

نعم أيها المجتهد إنها محاولة جادة وصادقة صدرت عنك ... لكن تأمل أمامك أدلة

تصرخ، ونصوص توضح، وأصول تجذر ... هل تتركها وتضرب بها عرض

الحائط؟ أم أنها جديرة بالبحث والنظر.. تأمل أيها الحبيب منهج سلفك ... تعرض

عليك القضية من هذا المنظار وتلك الزاوية فلا يكون موقفه سوى التسليم والانصياع

متمتماً: قد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع ...

لم يقل.. دليلي أخذته من الشعبي.. أتشك في الشعبي وعلمه؟ ؟ ولم يجادل

قائلاً: دليلي ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كدليلك! ولم يقل ... كلٌّ

يأخذ بما يرتاح إليه.. أنا آخذ برأي إمام معتبر. وأنت بآخر ... ولم يتمادَ بشعار

الجهلة (اختلاف أمتي رحمة) . تجرد واقعاً ممارَساً وتحركا يدب ... ويندفع،

واليوم ... كم من الدعاة العاملين يطبق هذه القاعدة ويستسلم لهذا الشعار! ! حقاً!

تأملوا مَن حولكم لتروا كم منا يرى في الطرق المجتهدة، مقدسات ورايات

يقاتل وينتهك من أجلها كل شيء ... حتى النصوص والقواطع؟ تأملوا كم منا يفكر

في أن كل الجماعات العاملة والأفراد المخلصين ما هم إلا أسباب خير ومحاولات

رشاد قابلة للخطأ والصواب؟

تأملوا كم الذين يتجردون للحق والثابت حى ولو عارض من يثقون بهم

وينخرطون في صفوفهم؟ تأملوا موقفنا اليوم من هذا المنهج والهدى المشع..

وموقفنا غداً بين يد البارئ ... ليس بيننا وبينه ترجمان.. أفراداً لا جماعات؟ !

تأملوا ثم اعرفوا بعد ذلك كم منا يقوده حصين بن عمران ... وكم من مئات العاملين

يعيشون منطق أعرابي عسفان! ثم بعد ذلك ثقوا بأن التاريخ بعد أمد سيقول عن كل

هذه المحاولات أنها محاولات ليس إلا..، قد تنتج شجرة مباركة في ظل التجرد

وقد.. تآكلت كما تآكلت أندلس بالأمس..، وتتآكل بعض قوانا واقعاً نراه على

مرأى البصر.

انظروا للمتجرد من أمثال ابن تيمية حينما واجه (المتوجسين) من المقلدة

الهامشيين، وأدركوا بعدها كم ينجح المتجرد المتصل بالحق على أهل السلطان

والفتوى والعلم الزائف.. ولو بعد حين ... كما حصل لأحمد بن عبد الحليم معظم

معاصريه وهم أعداؤه في ذات الوقت لم نكن لنعرف عنهم شيئاً لولا وجود ذلك

الرجل الذي خالف المذهب، وأفزع المقلدة من أهل عصره حينما التزم شعار

الالتزام بالحق والانتهاء إلى ما قد سمع من الثابت ... ، وانظروا إلى الشيخ

القاسمي في بداية هذا القرن وهو يواجه المتعصبة من المذهبيين فلا يملكون أمام

المتجرد / الرمز سوى اتهامه بالاجتهاد! !

وهي تهمة - في نظر ضيِّقي الأفق وأسرى الاتباع الأبله - لا توازيها تهمة!

(قد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع) :

منهج لا تحسن الألسنة لوكه دون أن يدب.

وكلمات متأصلة ليمت طارئة.

ونداء مدوٍّ له في سمع المتجردين.. والمتجردون القلة أذن واعية! وعلى مر

العصور والبقاع المتناثرة، لكنه يظل مشعاً كأنه كوكب دري في شعاب الحقب

والزمان.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015