الافتتاحية
ماذا يعنينا من موضوع الرهائن الذين يطلق سراحهم في بيروت، واحداً بعد
الآخر، وهل لنا في قضيتهم قول ما دمنا لم يكن لنا قول في ارتهانهم، ولا شأن في
إطلاقهم؟ !
نعم، إن لنا لشأناً في ذلك من جهة أن المنطقة التي جرت فيها فصول هذه
المسرحية هي بلادنا - بلاد المسلمين - بل ولأن هذه المسرحية قد تمت في جانب
منها باسم الإسلام. ثم لأن هذه القضية لها تعلُّق شديد في مظهرها وما تشير إليه:
بقضية الحرية حرية المسلم في بلده وأرضه التي ورثها عن آبائه وأجداده الذين
رووها بدمائهم وعرقهم، قضية الحرية التي تشغلنا ليل نهار، سراً وجهراً، ويجب
أن تشغل كل مسلم، وتصرفه عن كل شيء، إذ كل شيء يقصر عن مكانة الحرية، وكل ما يسعى له البعض لا قيمة له ولا ثمرة إذا كانت الحرية غائبة أو مفتقدة.
لقد راقبنا بداية ونهاية هذه المسرحية، من مكان يؤهلنا لتقويمها والحكم عليها
أكثر من غيرنا، فلسنا نحكم عليها حكماً منغلقاً ينتمي إلى أحد طرفيها، وحكمنا
عليها ليس أسيراً لمقتضيات المكان الذي جرت عليه - إذ نحن لا نعيش فيه - ولا
المكان الذي نعيش فيه - إذ نحن لا ننتمي إليه، ولا هو يقبل انتماءنا إليه - فنحن
ضحية المكانين والعقليتين اللتين تصرِّفان الأمور فيهما. وكل ما يُرتكب على
الأرض الإسلامية مما يسبِّب أدنى ألم لغير المسلمين يحمّل الإعلام الغربي وزْره
المسلمين جميعاً - اشتركوا فيه أو لم يشتركوا، رضوا به أو كرهوا، أو أُكرهوا
عليه، علموا به أو لم يعلموا. وكل ما يحمد من الأقوال والأفعال - من وجهة نظر
هذا الإعلام الذي يسميه الناس - خطأً - حراً يُبْحَث من مصادر له غير إسلامية،
أو يختلق له ذلك اختلاقاً، وإلا تُجُوهِل وأُخفي:
إن يسمعوا ريبةً طاروا بها فرحاً ... مني وما سمعوا من صالح دفنوا
صُمٌّ إذا سمعوا خيراً ذُكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أَذِنوا [1]
لم تحقق هذه المسرحية شيئاً يُذكر لمن نفذوها - اعتراف من لهم صلة بهم
على الأقل - ولسنا ندري: ماذا كان يرجو هؤلاء من ورائها؟
لكن، نعم، لقد حققت هذه المسرحية الكثير. فقد استفادت بعض الأطراف
المشاركة منها مادياً ومعنوياً، وأعادتها إلى (سوق البيع والشراء العالمي) بعد
عزلة، وجرت صفقات هنا وهناك لا يعلمها إلا الله ثم الراسخون في العلم! وحققت
شيئاً ثميناً للممثلين المشاركين فيها، فقد زاد سعار الإعلام الغربي تحامله وهجومه
على (السلوك المسلم) واتخذ منها مادة يبدئ في الحديث عنها ويعيد كلما أعوزه
موضوع. يبقي الصراع بين الإسلام من جهة والعالم المتحضر! ! من جهة أخرى
حياً في الذاكرة، وجرحاً نزَّازاً يذكّر رجل الشارع غير المسلم بوحشية المسلمين،
وأنهم لا عهد لهم ولا ذمة، ولا سبيل إلى إصلاحهم إلا بإبادتهم - أو على الأقل -
بإبقائهم عبيد العصا [2] .
إن المراقب لهذه القضية يعجب لبعد المسافة التي تفصل بين المسلم العادي
وبين أبسط حقوقه بالمقارنة مع الفرد في هذه البلاد الغربية، ويطرح الإنسان
العادي أسئلة بسيطة على نفسه من مثل:
* ما الذي جعل هذه القيمة الكبيرة لإنسانهم، وهذه القيمة المهينة لإنساننا؟
آلدين؟ أم اختلاف الطبيعة؟ أم الجغرافيا والمناخ؟ .
* كيف الخروج مما نحن فيه من مهانة وضياع، وتحويل هذا الكثير من
الكلام إلى قليل من الفعل المثمر؟
* كيف السبيل إلى جعْل خطوات المسلمين في أوطانهم متوافقة مع ما يريده
حكامهم، ورغبات حكامهم مساندة لآمالهم وتطلعاتهم؟
وأسئلة كثيرة تتدافع كلما طرق سمع المرء شيء له صلة بمشكلة الرهائن،
وما أكثره!
لقد أقضّت هذه الأسئلة وأمثالها مضاجع الكثيرين ممن يهمهم أمر المسلمين منذ
احتكاكهم بالغرب ومحاولتهم كشف الأسرار الكامنة وراء هذه المفارقات، ولا نظن
أننا سنأتي بجديد إذا قلنا: إن حياة هذا الغربي قد توحدت بجملة قضايا وأهداف
يمثلها له وطنه. وانسجمت خُطاه مع خطا النظام - ولا أقول: الجماعة - الذي
يسيّر أمور هذا الوطن، لذلك تجد هذا الوطن يتجاوب معه إذا حصل له مكروه
خارج بلاده مهما كان عليه سلوكه وشخصيته، قد يكون لصاً محترفاً أو مخادعاً
كبيراً، أو تاجراً، أو مغامراً غريب الأطوار، أو أفاقاً وضيعاً لا قيمة اجتماعية له، أو جاسوساً ... ولكنه عندما يصيبه مكروه أو تتعرقل له مشاريع تجد الذين يهبّون
لنجدته من بلاده كثيرين، والذين يغضون الطرف عن حماقاته وسيئاته أكثر، فإن
انقطعت به السبل - حيث لا يستطيع أن يظفر بواحد من بني جلدته - فإن سفارات
الدول الصديقة - ولا نقول: الشقيقة، فهذه خاصة بالبلاد العربية! - مفتحة
الأبواب أمامه، يقابل من شاء فيها، ويتكلم بما يشاء دون خوف أو تردد، لا تلفظه
الأعتاب، ولا تحمرّ في مواجهته الحَدَق. وهبْه جرّب قسوة أو تعرض لإهانة في
نفسه وجسمه، فما هي إلا فترة وتمر، طالت أم قصرت، فالدولة وراءه، وكذلك
الجمعيات الخيرية، بل وجمعيات تنشأ خصيصاً له، تذكر الناس صباح مساء أن لا
ينسوا اسمه، بالصحف والأغاني وبطاقات العيد، والإعلانات والحفلات،
والصلوات في الكنائس، حتى (ينطبل) [3] العالم بقصته، فيُفرج عنه، ويخرج
معززاً مكرماً محاطاً بالحراسة كأنه جوهرة فريدة أو درة يتيمة يخشى عليها من
الضياع ويخاف عليها من نسمات الهواء، يتزاحم المراسلون وآلات التصوير عليه، والسعيد منهم من يظفر منه بجملة أو بسمة يلتقطها ليسجل بها سبقاً صحفياً يشتهر
به ويكتسب منه ترقية ... أما في بلادنا فينال هذا الرهينة الأجنبي مكانة هي فوق
البشر وتحت (الفرعون) وما ينتظره في بلاده من تدليل واهتمام شيء يعز على
الوصف، وهكذا تتحول تجربته القاسية إلى مغامرة ممتعة، يتذكر فصولها
وتفاصيلها بشيء من الزهو والاعتزاز، ويكتب عنها كتاباً يدخل فيه التاريخ من
أوسع أبوابه، وتتزاحم دور النشر على الدفع له ما يريد حتى يأذن لها بنشره.
هذه حال رهائنهم، يسخَّر لهم كل شيء من أجل أن يظل العالم يتذكرهم،
ويحولهم الإعلام إلى مشكلة عالمية، لا مشكلة بين إرهابيين وجهة رسمية فقط،
يقف العالم كله على قرنه حتى تحل هذه المشكلة..
فماذا عسانا نقول لو أردنا أن نصف حال رهائننا القابعين في ألف سجن
وسجن، وألف دهليز ودهليز، هل يذكرهم أحد، وهل يجرؤ على التفكير بهم ذو
عقل؟ كم عددهم يا ترى؟ هل جرب مرة أحد أن يحصيهم؟ منظمة العفو الدولية؟
منظمات محلية مثلاً؟ ولو نوت ذلك؛ هل تستطيع؟ !
لنأخذ واحداً من هؤلاء الرهائن الأغفال المنسيين، هل نسميه؟ لا نقدر! ؛
لئلا يساق أهله أو من يحفظ اسمه -مجرد حفظ- إلى السجن ويلقوا المصير نفسه،
أو عندها نكون حمقى لأننا عالجنا المنكر الصغير بمنكر أكبر!
لا تسلْ عن جناية هذا الرهينة، ولا كيف حُقق معه؟ كيف حوكم؟ وأين؟
ومتى؟ وما الحكم؟ أستغفر الله لقد نسينا أنه رهينة! هل هناك (عنترة) أو (زير)
في طول العالم العربي وعرضه يفتخر ويجاهر بأن له قريباً يقبع في السجون ...
لرأي رآه؟ ! ، إن الرهينة في عالمنا المنكوب تتعداه النكبة إلى أقربائه من الدرجة
الأولى والثانية والثالثة؛ فيصبحون مشبوهين ولو تنصلوا من فَعلته بشتى الأساليب، ولو تنكروا له بالسب والقذف والتضييق والوشاية لتبييض صفحاتهم. لو خلّف
هذا الرهينة أطفالاً وزوجة أو أبوين كبيرين لا عائل لهما غيره، ومر بهؤلاء مَن
توجع لحالهم وحرّكته النخوة القومية (لا الإسلام!) للتفكير في إغاثتهم لا لأنهم بشر؛ بل لأنهم من ذوات الأكباد الرطبة..! هل تراه يسترسل في هذه التداعيات إلى
نهايتها؟ ! أي إلى مد يد العون لهم؟ لا شك أنه سيقطع هذا الاسترسال فور أن
ينتبه إلى حقيقة أنهم معتقلون بتهمة الرجعية أو التعصب، وهل في قوانين العرب
ما أصبح أكبر من هذه الخيانة؟ ! فيخاطب نفسه: (ابتعد عن الشر) تالياً قوله -
تعالى -: [لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلاَّ وسْعَهَا] [البقرة: 286] .
في بلادنا لا يفكر ذوو الرهينة أن يسألوا عنه مجرد سؤال: أحي هو أو ميت؟ أيبقى سنة أم عشرين؟ بل لا يحب هؤلاء أن يدري أحد بمشكلتهم، ولو أن
(مغفلاً) لا يقدر العواقب ذكر اسم صاحبهم لرمقته العيون برعب أن: اسكت ويلك!
وأردفت الألسنة بالتقريع واللوم لصاحب الاسم المذكور والتبرؤ منه لأنه جلب لهم
الشقاء والبؤس.
في بلادنا يخرج الرهينة - إن خرج - يتوارى من الناس، ولا يحب أحداً أن
يراه. هذا إن كان سوياً لم يُصَبْ بعاهة جسمية أو نفسية، أو بهما كليهما! يشك
في نفسه وفي أهله وفي أصدقائه، في كل مَن حوله، كم في بلادنا من مشوَّهي
النفوس؟ قد يقرأ كلامي هذا مَن يراه متشائماً يعكس حالة خاصة لفرد أو أفراد
قلائل، بينما الكثرة تعيش في بحبوحة، وتتقلب في أعطاف السعادة، وأقول: نعم، هناك آلاف تُنفق، وضحكات تعلو، ولكن الأكيد أن هؤلاء الضاحكين ضائعون
عن أنفسهم من كثرة معاناتهم من الازدواجية في حياتهم، ومن شدة وطأة (الباطنية)
التي طبعت كل شيء بطابعها؛ الناس والمجتمعات والماضي والحاضر والمستقبل.
ليس الرهائن الذين لا يُدرى عددهم في بلادنا هم الذين يهددون مجتمعاتنا
بجعل التشويه النفسي ظاهرة يصعب علاجها؛ بل إن المجتمع كله يعيش هذه الحالة: الطليق والأسير.
إن مشكلة (رهائننا) ليست مقصورة عليهم وحدهم ولا يعانون هم وحدهم من
نتائجها بل هي مشكلة مجتمع عريض بأسره يراد له أن يتفتت ويتحلل ويندثر.
إن مفهوم الوطنية طارئ علينا - نحن المسلمين - ويطلب منا أن ندين لهذا
المفهوم بالولاء، ونفرغ قلوبنا من أي ولاء يزاحمه. ولكن هل تراكمت تجارب
قرن من الزمان ضماناً للمسلم كي يعيش حراً آمناً في سربه؟ لقد قاسى آباؤنا المر
بحجة تأجيل حل المشاكل حتى يخرج الاستعمار الغاصب، وتجرعوا وتجرعنا
معهم العلقم على مدى جيل كامل بحجة الإعداد لمعركة تحرير فلسطين وطرد
الصهيونية، وانتهينا إلى هذه النهاية المحزنة.
هل سيمكن زرع الولاء في القلوب بالعصا، وكيف يبني العبيد أوطاناً؟ لا
وطن بدون حرية، وما أرخص الأرض التي يهان فيها المرء، ولا يجد فيها الأمن
والاستقرار.