مجله البيان (صفحة 1019)

الأدب مفهوماً ولغة

د. مصطفى بكري السيد

1 - القول والفعل:

(يحاول الشاعر أن يحاكي صوت الفعل، الذي يصوره، في صوت الألفاظ

التي ينظمها، فقد يكثر مثلاً من حروف الضاد والطاء ليدل على الضرب والطعن

وقد يكثر من حروف السين والصاد ليدل على صليل السيوف، أو من حروف الراء

ليدل على خرير الماء وهكذا) [1] .

هل تنتهي العلاقة بين القول والعمل عند حدود المحاكاة الصوتية؟

أكبر الظن أن الأمر أبعد من ذلك، إذ كثيراً ما شد سمعي وعقلي تَوَحُّدُ القول

بالفعل، فكم سمعت المتكلم من منطقة (نجد) من العامة كان أو من المثقفين يُعَبِّر

عن طلب أحدهما باستدعاء الآخر، فيقول لصاحبه إذا واجه مشكلة أو مشكلاً: قل

بها، أو قل به، كما سمعت مثل هذا الاستعمال من أحد زملائنا المدرسين من بادية

الأردن.

وإذا كنت عاجزاً عن تفسير هذا التوحيد بين القول والعمل، فلقد شدني

ورحت أبحث عن أصوله في تراثنا اللغوي، وكان ابتهاجي عظيماً عندما استوقفي

أثناء مطالعتي في صحيح البخاري هذان الحديثان:

عن عائشة -رضي الله عنها- «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد أن

يعتكف، فلما انصرف إلى المكان الذي أراد أن يعتكف، إذا أخْبِيةً: خِباء عائشةَ،

وخِباء حفصةَ، وخِباء زينبَ، فقال: آلبِرَّ تقولونَ بهنَّ؟ ثم انصرف فلم يعتكف

حتى اعتكف عشراَ من شوال» [2] .

أما الحديث الثاني فهو:

«عن أبي ذر -رضي الله عنه-، قال كنت مع النبي -صلى الله عليه

وسلم-، فلما أبصر يعني أُحُداً - قال:

ما أحب أنه تحوّل لي ذهباً يمكث عندي منه دينارٌ فوق ثلاث إلا ديناراً

أرصده لِدَيْنٍ. ثم قال:

إن الأكثرين هم الأقلُّون، إلا من قال بالمال هكذا، وهكذا - وأشار أبو شهاب

بين يديه وعن يمينه وعن شماله - وقليل ما هم» [3] الحديث.

فاستعمال الفعلين: (تقولون بهن) و (قال بالمال) واضح الدلالة على أن الفعل يُعَبَّر عنه بالقول.

كما عثرت على شواهد عربية وعالمية يفضي تأملها إلى ردم المسافة القائمة

في عقولنا وأعمالنا بين القول والعمل:

يقول الأخطل التغلبي (20 - 92 هـ) :

حتى تركتهُمُ مني على مَضَضٍ ... والقول ينفُذُ ما لا تنفذ الإبَرُ

فقد جعل القول فعلاً بل أفعل من الإبر.

وبقول ليوناردو دافنتشي الإيطالي (1452 - 1519) :

(يقتل الفم أكثر من الخنجر!) .

ويقول شكسبير (1565 - 1616) على لسان هاملت:

(سأكلمها خناجر، ولن أمس خنجراً) [4] .

وربما ذهب بعضهم إلى جعل الفعل فرعاً عن الاسم يقول إمرسون:

(الأفعال هي نوع من الكلمات) [5] .

2 - تعريف الأدب:

لم ينجُ عالم الأدب، وبقية أشقائه من فروع العلوم الإنسانية من محاولة

الهيمنة لأكثر من طرف على مفهومه كي يولي وجهه شطر الوجهة التي يرضونها،

ولينسجم مع موقعهم الفكري وواقعهم السياسي، وربما نجد بعض متلقي الأدب يُقَدِّم

صورة معينة للأدب كيما يصاغ على مثالها، وبذلك يفقد الأديب حريته، ويغدو

إبداعه معلباً، وأمثال هؤلاء المتلقين يريدون أن تصبح تجربة الإبداع الرائع عملية

آلية، تخضع لما تخضع له أية عملية إنتاجية من مراعاة شروط العرض والطلب

وأذواق المستهلكين! ! !

إن تسليع الأدب باسترضاء كل الأطراف، يئد الأدب ويعزل الأدباء عن

دورهم المرجو، ويفقد الأدب ثمرتي المعرفة والمتعة المتمثلين بالصياغة الأدبية

الإبداعية. ولقد تحامى كثير من النقاد تعريف الأدب [*] خشية تحديده، أو مخافة

الحجر عليه، ولا جناح علينا أن نخالفهم فنقول:

الأدب فعل لغوي / راجح المقدمة: القول والفعل / لأن الأديب يصنع برؤاه

وألفاظه ما قد يصنعه الحداد والبناء بالحديد والحجر / [6] يتجسد فيه شكل من

أشكال الوعي، وهو صدور عن موقع ثقافي، وإحساس جمالي، وموهبة لم تسقَ

بماء واحد، وفي كل الأعمال الأدبية تكون اللغة وسيطاً، بين طرفي الإبداع:

الباث والمستقبلين، واللغة في غير الأدب وسيلة وفي الأدب غاية، كما تحمل في

بقية العلوم رسالة إبلاغية، أما في الأدب فتحمل دلالة بلاغية، وإذا كنا نقول لكل

كاتب في كل علم: ماذا قلت؟ فإننا نضيف للأديب سؤالاً آخر ونقول له: كيف

قلت؟

واللغة في القول الأدبي ليست مجموعة ألفاظ بل مجموعة علاقات، لأن

المبدع لا يستعمل اللغة مجرد تركيب، أو إنشاء يحفظ أو يتوارث ويُلقَّن، أو رصفاً

قواعدياً للمفردات المعجمية [7] بل هو إبداع يحقق فرادته ورسالته بالصياغة، إنه

(إنزال فكرة في مادة / اللغة / وتشكيله على مثالها) [8] .

3- كلمة أدب:

أين كان هذا اللفظ مُستكّناً قبل أن يطل علينا محمّلاً بدلالته اللغوية والفكرية؟

إن الإجابة أكبر من مساحة هذا المقال ولكن سأشير إلى بعض المفاهيم التي تناولت

المادة أ/د/ب/ وتطورها.

لابد من الإشارة إلى أن هناك معجمات عربية متخصصة رصدت

كلمة/أدب/جذراً لغوياً ومعنى اصطلاحياً مثل:

(كشاف اصطلاحات الفنون - إحصاء العلوم - ومفاتيح العلوم للجرجاني -

والكليات للكفوي، وهناك معجمان لمجدي وهبة ومعجم لإبراهيم فتحي) [9] .

(كما عرض لكلمة /أدب/ عبد الله العلايلي في معجمه الذي لم يتمه وكتب فيهما خمسة أو ستة أعمدة) [10] .

وإذا كانت هذه الدراسة قد تأسست في مداخلها على حديثين رواهما البخاري فلا ضير عليها أن تعتمد الحديث الشريف أصلاً في تعريف وتطوُّر كلمة / الأدب /.

أخرج البخاري في صحيحه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:

«أيما رجل كانت عنده وليدة فعلمها فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران» .

يقول الدكتور عبد الملك مرتاض المدرس بجامعة وهران الجزائرية معلقاً على

هذا الحديث:

(قرن التأديب بالتعليم ليس يعني إلا شيوع ذلك المعنى للأدب بهذا المفهوم

في ذلك العهد المبكر، وقد استعمله بهذا المعنى أبو تمام في كتابه الحماسة) [11] .

ولابد أن نشير ونشيد بجهود ابن خلدون الذي حاول لأول مرة منذ أرسطو أن

يضع المهاد لتأسيس علم الأدب، وأن يصوغ نظرية أدبية متكاملة كما يبدو لمتصفح

الأوراق الأخيرة من مقدمته.

4 - الأدب واللغة:

ألمحت باختصار / في تعريف الأدب / إلى العلاقة بينه وبين اللغة، وأحاول

الآن بسط القول بعض البسط في هذا الأمر.

اللغة الأدبية تؤدي جملة من الوظائف المختلفة، غير أن الجمالية هي الوظيفة

السائدة، والتي تتحقق معها وبها (أدبية الأدب) .

ولا بد من الإشارة هنا بأن اللغة المستعملة في الأدب بحسبانها مقررات ليست

مناط الدراسة والتقويم، وإنما تبدأ (أدبية النص) أو (ما يجعل الأدب أدباً) أو ما

يميز الأدب أنه من / عندما تتمثل اللغة بالتراكيب والجمل، وهي لغة / معنى

المعنى حيث تتكفل الصياغة العلمية بالمعنى أما الصياغة الجمالية هي التي تنتج

معنى المعنى وهدفها (جمالي يتعلق بإثارة المتلقي وإشباعه) .

يقول أبو حيان التوحيدي:

(إن حد الإفهام، والتفهم معروف، وحد البلاغة والخطابة موصوف، وليس

ينبغي أن يُكْتَفَى بالإفهام كيف كان، وعلى أي مرجع وقع، والبلاغة زائدة على

الإفهام الجيد بالوزن والسجع والتقفية، والحلية الرائعة وتخير اللفظ، وهذا الفن

لخاصة الناس، لأن القصد فيه الإطراب بعد الإفهام) [12] .

نحن في حياتنا نستعمل في كثير من المناسبات صيغاً لفظية معينة، ولا

نستعمل / معناها / فلا نقول للشارب:

أقدم لك التهاني بشربك بل نقول / هنيئاً / ولا نقول للحاج:

أرجو أن تكون حججت حجاً مبروراً بل تكتفي بقولك / حجاً مبروراً / وفي

ذلك يقول سيبويه، ولعلها تكون أول لفتة لبلاغة النحو: (ألا ترى أنك لو قلت

طعاماً لك، وشراباً لك، ومالاً لك، تريد معنى: سقياً أو معنى المرفوع الذي فيه

معنى الدعاء لم يجز، لأنه لم يستعمل هذا الكلام كما استعمل من قبله، فهذا يدلك

ويبصرك أنه ينبغي لك أن تجري هذه الحروف كما أجرت العرب، وأن تعني ما

عنوا به) [13] .

وهذه اللفتة من سيبويه -رحمه الله- فتحت الباب أمام ظهور مستويين للغة

الأدبية:

المستوى الأول: مستوى الصحة.

المستوى الثاني: مستوى الجمالية.

أما صحة النص فينظر فيها إلى اللغة وأسلوب الأداء، من حيث أن اللغة

مؤسسة اجتماعية لا سبيل للفرد المبدع أن يحترم قاعدة من قواعدها أو يخالف نظاماً

من أنظمتها الفرعية، بل إنه لا يمكن عدّه مبدعاً إلا إذا تمكن من تحقيق المعادلة

الصعبة بين صرامة قواعده وحرية إبداعه.

وأما جمالية النص فهي نتاج عبقرية المبدع وحريته في التعامل مع موضوعه

وأسلوبه، وبقدر ما لا يكون للأديب الشاعر أو الكاتب من الحرية أمام اللغة

كمؤسسة اجتماعية كاملة، بقدر ما يملك الحرية كلها تُجاه الصياغة الجمالية،

ومواجهة الإنشاء الفني بالطريقة التي يؤثرها أو تجود بها قريحته.

وقد استقر في ذهن روّاد النحو العربي أنفسهم مثل سيبويه أن للشعر

خصوصية في التعامل مع اللغة، فقد ميّز سيبويه في أحد فصول (الكتاب) بين لغة

الشعر ولغة الكلام مستعرضاً بعض الجوازات التي تسوغ للشاعر ولا تجوز لغيره،

وهو ما كان يتفق مع رأي أستاذه الخليل بن أحمد الفراهيدي (96 - 107 هـ) الذي

ينسب إليه هذا القول: (الشعراء أمراء الكلام، يصرفونه أنى شاءوا، وجائز لهم

ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده، ومن تصريف اللفظ وتعقيده، ومد

مقصوره وقصر ممدوده، والجمع بين لغاته، والتفريق بين صفاته، واستخراج ما

كلّت الألسن عن وصفه ونعته، والأذهان عن فهمه وإيضاحه، فيقربون البعيد،

ويبعدون القرب، ويحتج بهم ولا يحتج عليهم) [14] . ولو تساءلنا عن أسباب

التفويض الذي منحه شيخا اللغة للشاعر لما أخطأنا الصواب إذا فلنا إن الإبداع الذي

يتحقق للغة على أيدي الشعراء (أدبية النص) يستحق بعض التنازلات لمصلحة

الإبداع.

وإذا تحققت للنص أدبيته تحرر من الآنية، وبات أحد معالم الحياة جميلة، فما

لا يصدق عليه وصف أدب في كل العصور والأزمان بصورة مطلقة فليس من

الأدب في شيء، لأن النص (الذي يحتفظ بكيانه ويثبت وجوده في كل الظروف،

هو الأدب القيَّم، أما الأعمال الفنية الموقوتة بزمن معين فإن قيمتها تزول بزوال

زمنها، وتموت بموت مقتضياتها، ومن ثم تكون الأسباب التي أكسبتها شعبية وقتية

هي نفسها التي تعمل ضد استمرار حياتها) [15] .

واللغة الأدبية كانت إحدى الثمار الطيبة لدراسات إعجاز القرآن، فالقرآن

الكريم كان خيراً في كل اتجاه، ونعمة في كل وجهة، إن محاولة تفسير إعجازه،

وتأويل جماليته أخرجت من الدرس الأدبي كنوزاً رائعة، كانت المادة الخصبة

للاتجاهات النقدية، والمقاييس الجمالية، وهكذا كان القرآن وسيظل خيراً عميماً

على العربية.

وهكذا لا يكون الأديب أديباً ولا (الشاعر شاعراً لما فكّر فيه وأحسه، ولكنه

شاعر لما يقوله من شعر، فعبقريته تكمن في إبداعه اللغوي، أما الحساسية المفرطة

فلا تكفي لتكوين شاعر) [16] .

ومرة قال الرسام الفرنسي ديجا (1834 - 1917) للشاعر الفرنسي مالارميه

(1842 - 1898) : (إنني لا أستطيع أن أعبّر عما أريد التعبير عنه، مع أن عقلي يصطخب بالأفكار، فأجابه مالارميه - إن الشعر - يا عزيزي لا يصنع من الأفكار ولكنه يصنع من الألفاظ) [17] .

فاللغة الأدبية هي التي شدتنا إلى محفوظنا من الأدب الجميل وجذبتنا إلى تلكم

الرؤى التي تعج بالأفكار، وتضج بالحركة، وتموج باللون، هي التي صنعت

للأدب العربي سمعته، ومن إعادة توزيعها المتفرِّد نُسجت أثواب مجده، والشيء

نفسه حصل في الأدب الغربي (فاللغة هي التي صنعت / عُطَيْل / قدّم نفسه

لِـ (ديزر مونة) من خلال اللغة، وهي التي قوّضته في النهاية، وهذا في خاتمة المطاف سر عظمة شكسبير الذي لم يفعل شيئاً سوى أنه ترك اللغة تفجِّر طاقاتها، وتصنع الحدث) [18] .

ولكن أين يقف مضمون النص وموضوعه من أدبيته؟ إن النقد الحديث قد

تجاوز ثنائية الشكل / المضمون، وأصبح من المتعذر درس كل منهما بمعزل عن

الآخر، ما بينهما أكبر من وحدة، وأكثر من اتحاد.

إن الأديب الحق يجب أن يكون ملتزماً فطرياً وأخلاقياً بمصالح المجتمع

الكبرى، وبما يثري إنسانية الإنسان وما يرفع عنه من إصر وأغلال، وإذا كنا نجد

أدباء لا يرتقون إلى هذا المستوى، ففي كل صنعة مهما كانت نبيلة نجد فئاماً من

الناس يستأكلون بمبادئهم ويستطلقون العطايا بقيمهم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015